نظرا لبلاغة خطبة العيد التي ألقاها الأستاذ محمد بنعلي بوزيان بمدينة فجيج، ولنطقها بواقع الحال بفجيج وغيرها من المدن المغربية، ننشر الخطبة كاملة سائلين الله عز وجل أن يوفقنا إلى تدبر مضمومنا ويهدينا إلى سواء السبيل والعمل به: الخطيب: الأستاذ محمد بنعلي بوزيان
الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وعلى من اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين ... أما بعد .. فيا أيها الإخوة المؤمنون، يا أيتها الأخوات المؤمنات، يا أحباب رسول الله العظيم.. ها نحن نلتقي مرة أخرى في مشهد ما أروعه! ما أجمل منظرنا، وتآلفنا، واجتماعنا، وما أبهى بياض ثيابنا!! لو سنفترق على هذه المعاني العظيمة التي يسعى رمضان لغرسها في نفوسنا كل سنة فلم يستطع.. ويحاول الخطباء أن يرسخوها في أنفسنا أسبوعيا فلم يفلحوا: في العام الواحد يستمع كل منا إلى أربع وخمسين خطبة.. ويتكلم الخطباء في مساجد فجيج 520 مرة، ومع ذلك لم يتقدم إيمان الكثيرين منا شبرا واحدا إلى الأمام .. والسبب في ذلك هو أن الأساس مهزوز وضعيف.. وأعني بالأساس ما نعرفه جميعا: إنه إيماننا وعقيدتنا.. خلل في داخل كل واحد منا ذكورا وإناثا : نؤمن بالله ولا نطيع أمره، وندّعي محبة رسوله ولا نتبع نهجه، ونريد الجنة ولا نعمل لها، ونخاف النار ونعمل بعمل أهلها.. يرى كل منا القذى في عين أخيه ولا يرى الخشبة في عينه، موازين القيم اختلت.. بالجملة أصبحت حياتنا لا تمثل ديننا.. أعطيكم مثالا حيا عن نفسي: ألقيت أكثر من أربع خطب حول أهمية صلاة الجماعة.. مع ذلك بقيت مساجدنا كما كانت تشكو إلى الله فراغها.. وخطبت أكثر عن خطورة ما تفعله نساؤنا من السؤال و التمسح بقبور ليس فيها إلا التراب، ومن الذهاب إلى مشعوذين كذّابين يدعون علم الغيب، وشفاء المرضى، وفك العقد، ومع ذلك زاد إقبال نسائنا على هؤلاء المرجفين في المدينة، حتى أصبحوا أطبّاء البلد المباركين.. وخطبت أكثر منهما عن واجب صلة الرحم مذكرا في كل مرة بالتهديد النبوي الذي تتصدع الجبال الرواسي: " لا يدخل الجنة قاطع رحم "، مع ذلك بقيت أرحام كثير منا مقطعة، حتى صارت هذه البلدة المسكينة أشبه ب : " واحة الأرحام المقطعة ".. لماذا نذهب بعيدا وأنفاس رمضان لا تزال رطبة بيننا، هذا الشهر الكريم وحّدنا في أعمالنا جميعا، كنا نمسك عن الأكل في وقت واحد، ونجتمع على مائدة الإفطار في وقت واحد، ونخرج إلى التراويح في وقت واحد، ونقرأ القرآن، ونملأ المساجد في وقت واحد.. أليست هذه دعوة رمضانية مباشرة إلى التآلف والوحدة حتى تتحقق أخوتُنا المنشودةُ في الله.. ولكني أؤكد أن كل هذا سيختفي اليوم وليس غدا.. فما السبب في ذلك؟ ..السبب هو أن إيماننا إيمان سطحي يعض على القشور، ويرمي اللب والجوهر، وعقيدتنا مهزوزة مغشوشة.. لا نعرف الله حق المعرفة.. ولو عرفناه لعبدناه كأننا نراه.. وبالتالي استحييْنا أن نفعل ما نهانا عنه، وتسابقنا إلى فعل ما أمرنا به ويرضيه.. من يستحيي من والده مثلا لا يستطيع أن يدخن أمامه لأنه يراه، ولكنه إن غاب دخّن بشراهة.. ربنا غائب عنا؛ ولهذا نحكّم شرعنا في ديننا، نفعل فيه ما نريد: نختار من قرآنه ما يناسب أهواءنا، ونعاف ما لا يناسبها ؟؟ هل تظنون أن العقيدة هي الشهادة التي نرددها بألسنتنا، ولا تجد لها مكانا في قلوبنا ؟؟ لقد قالها لنا ربنا كلمة واضحة في كتابه : " ولا تخزني يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم " فهل قال " بلسان سليم " لا، والله .. إن العقيدة مثْلُ أساس البناء، من يبني دارا لابد له من أساس متين يرفع قواعده، حتى لا يسقط هذا البناء فوق رؤوس الأبرياء .. وإن بناها على أساس هش تصدّع وانهار.. وحتى تتيقنوا من ذلك ارجعوا معي إلى عهد النبوة، واحسبوها معي بلغة الأرقام.. إنها ثلاث وعشرون سنة.. ثلاث عشرة سنة منها قضاها الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة، يقوم بمهمة واحدة وحيدة هي تبليغُ العقيدة الصحيحة للناس، وزرعُ بذرتها في النفوس حتى تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ؛ لأن العقيدة تُغرس في القلب ثم تظهر بعد ذلك في الأعمال.. إنها مرحلة تكوين المؤمن الحقيقي، في هذه السنوات الطوال لم يعط الرسول الكريم أمرا ولا نهيا ولا حكما.. ورغم حرصه واجتهاده لم يستطع عليه السلام أن يُقنع بعقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله، إلا عددا قليلا من المؤمنين الصادقين، تشرّبوا معناها حتى اختلط بدمائهم فتحمّلوا معه الأذى، وصبروا للمحن.. وأسأل الآن : كم قضى في المدينة المنورة؟ قضى فيها عشر سنوات فقط، نزلت فيها سلسلة طويلة الحلقات من الأوامر والنواهي والأحكام، تمس العبادات والمعاملات والأخلاق والعلاقات الداخلية والخارجية .. طبّقها المسلمون تطبيقا تلقائيا سريعا ؛ لأن الأساس كان متينا متماسكا.. وهذا يعني أن العقيدة إذا كانت صحيحة خالصة جاء كل شيء بعدها سهلا ميسرا، واستطعنا أن نبني مجتمعا ملتزما فاضلا متماسكا، نرى فيه الحاكم العادل، والقاضي الرشيد، والتاجر الصدوق، والموظف الأمين، والمعلم المربّي، والتلميذ المجتهد، والفتاة الحييّة، والصانع المتقن لعمله، ورب البيت الحريص على أولاده، والمرأة التي تبغض المشعوذين، ولا تعظم الموتى.. مثل هذه العقيدة التي لا تزحزحها الأهواء هي التي جعلت سمية أم عمّار تفضل أن تُقتل و جنينها في بطنها، على أن تستجيب لإغراءات كفار قريش الذين وعدوها بحياة الرخاء الزائلة.. إلا أنها رفضت وفضلت أن تضحي بنفسها وجنينها تحقيقا لسلامة قلبها وقوة إيمانها، على أن تعيش بمبادئ مزيفة كما نفعل الآن.. وقوة العقيدة هي التي جعلت عمْرو بن الجموح وهو معذور بعرجه يصر على شهود غزوة أحد حتى جاد بروحه في سبيل الله، ووالله لقد رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يطأ في الجنة بعرجته.. قوة العقيدة هي التي جعلت عبد الله بن عمر ومئات مثله من السلف الصالح يرفضون وظائف القضاء والولايات ؛ لأنهم يعرفون أن الوظيفة تكليف ومسؤولية أمام الله ، لا يقدرون على تحمل تبعاتها الثقيلة.. وقوة العقيدة هي التي جعلت الإمام الشافعي رضي الله عنه يبني أمة بعلمه النافع ويقنع بمال قليل، وهو الذي لو أراد لجمع مال الدنيا بعلمه الغزير، لكنه طبق حكمته التي كان يرددها كثيرا، ويا ليتنا فهمناها، يقول رحمه الله: إذا ما كنت ذا قلب قنوع *** فأنت ومالك الدنيا سواء فهل سمعتم الآن بعالم قنوع يعلّم أكثر مما يجمع ؟ هل سمعتم الآن بقاض زهد في القضاء مخافة الله ؟ .. حتى الهدف الأول الذي نجعله أمام أعيننا ونحن نبحث عن الوظيفة هو أن يكون لنا راتب شهري معتبر وليس أن ننفع الأمة.. وأراهن الآن لو أن مبشرا مسيحيا نزل بيننا هنا، وجمع شبابنا، وشابّاتنا وحتى شيوخنا، وأغراهم بنقلهم إلى فرنسا مقابل أن يتنازلوا عن هويتهم الإسلامية لتبعه الكثيرون دون أن يجمعوا أمتعتهم أو يودعوا أهلهم !! والسبب بسيط.. لأنهم أصلا غير ملتزمين بالدين.. لأنهم يعيشون خواء في العقيدة.. لأنهم تخرجوا من مدرسة الجهل بالدين، والاستهتار بالحقوق والواجبات، والتواكل، واللامبالاة، وضعة النفوس، وسقوط الهمم.. ولأن المقاييس انقلبت عندهم وعندنا، وأصبح همنا هو الحياة ولا شيء غيرُ الحياة، خدعنا بريق المدنية والمتع الرخيصة، فجعلناها غاية الغايات، ونسينا أن لنا ربا أمرنا أن نتقرب إليه بكل عمل صالح للفرد والمجتمع.. أبمثل هذه القيم السلبية تطمعون في بناء مجتمع ناهض سليم؟ أبمثل هذه القيم الهدّامة تريدون لواحتنا أن تتقدم إلى الأمام، وتتغير إلى الأحسن؟ انظروا إلى العلاقات السائدة في هذه الواحة المسكينة : علاقاتنا تقوم على التنافر والبغضاء والكيديّة والتدابر والتقاطع، في وقت تزداد فيه حاجتنا إلى التسامح، ونسيان الأحقاد، والتآخي، وتغليب الاتحاد والتعاون على البر والتقوى، فإذا لم تصبح هذه القصور السبعة قصرا واحدا تغذيها هذه القيم الإسلامية السامية فلن تقوم لفجيج قائمة أبدا، لن تقوم لفجيج قائمة ما دام فيها سبعة قصور على النحو الذي نراه اليوم، كل شيء نفعله نشتم فيه رائحة القبلية والقصر الذي ننتمي إليه حتى زكاة الفطر، وزكاة الفريضة، وحتى المشاريع و الجمعيات لا تخرج من محيط قصورنا.. أبمثل هذا تبنى الأوطان صغيرُها وكبيرُها ؟ .. لا والله لن تبنى إلا إذا سكن قلوبنا هذا البياضُ الذي على أبداننا. ورفعنا مصلحة بلدتنا فوق النزغات ومضلاّت الفتن، فثمن النزاعات رخيص، وثمن الانقسامات أرخص.. اللهم اهدنا إلى الحق المبين، واجعلنا من الآمنين يوم الفزع الأكبر، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.. آمين، والحمد لله رب العالمين. الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر كبيرا.. والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بصدق وإحسان إلى يوم الدين. أما بعد.. فيا أيها الإخوة المؤمنون، يا أيتها الأخوات المؤمنات، يا أحباب رسول الله العظيم.. إن التديّن والالتزام بمنهج الله هو الذي يعطي للإنسان قيمته الحقيقية، ويعطي للحياة معناها الصحيح، ويحصّن النفوس ضد الأهواء والبدع والتطرف، ويجعلنا نمشي واثقين في طريق الخير والتعاون البنّاء أفرادا وجماعات.. والمحروم الحقيقي هو الذي يخرج من رمضان محروما من خيره: وخيرُه هو العزم الأكيد على إتباع طريق الهداية بعد رمضان أي ابتداء من هذا اليوم المبارك وتجديد الصلة بالله تعالى.. ولقد نزل جبريل عليه السلام يقول للرسول الكريم: "بعُد ( أي طرد من رحمة الله ) من أدرك شهر رمضان فلم يغفرْ له" فقل: آمين: فقال عليه السلام: آمين.. فكيف يا أخي المؤمن.. يا أختي المؤمنة.. كيف تهون عليك نفسُك حتى يدعو عليك رسولان كريمان بالطرد من رحمة الله.. أعود فأقول: إن عدم تأثير خطب الجمعات والأعياد ودروس الوعظ والإرشاد في نفوسنا، وعدم تغيّرنا إلى الأحسن، له معنى واحد: هو أن عقيدتنا فيها خلل.. والله تعالى يقول: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم" فإذا نُقشتْ مبادئ العقيدة الخالصة في قلوبنا ورسخت، أصبحنا مؤمنين وربّ الكعبة.. أصبحنا من المتقين الأخيار، نعبد الله كأننا نراه، نملأ مساجدنا، ونخشع في صلاتنا، ونراقب الله في صومنا، ونواسي المساكين، ونصل رحمنا، ونعفو عمّن ظلمنا، ونحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا.. ونعالج مشاكلنا بالتسامح والتراضي والتفاهم.. ونتقي الله في بلدتنا التي تموت أمام أعيننا بشرور متعفنة.. هذا هو المجتمع المسلم، بهذا نعود إلى الله، وتكون لنا الرفعة في الدنيا، والعاقبة في الآخرة إن شاء الله.. وما عدا ذلك سنبقى مبطلين، خارج الطريق المستقيم، لا بركة في أعمالنا، ولا في أموالنا، ولا في ثمارنا التي ترون ما حل بها.. ويبقى دين لله شامخا خالدا إلى يوم القيامة بنا أو بدوننا.. ووالله العظيم لو أننا أجمعين قمنا من هذا المشهد المبارك، وأعْلن كلُّ واحد منا بأعلى صوته أنه ترك دين الله وكفر والعياذ بالله ما نقص ذلك من ملك الله شيئا.. ووالله لو بقينا هنا بعد هذه الخطبة معتكفين نسجد ونركع ونبكي حتى تشرق الشمس من مغربها ما زاد ذلك في ملك الله شيئا.. إنه الله، بسط لنا الدنيا لننظر كيف نعمل، ودعانا أن نستجيب له ولرسوله، ونحن جميعا قادرون على الاستجابة بشرطين: مراجعة الخلل الخطير الذي في إيماننا، والتحكم في أهوائنا ونفوسنا، ورحم الله من قال: إن النفس كالدابة إن ركبْتها حملتك، وإن ركبتْك قتلتك.. فهل من مجيب إلى دعوة شعارها: إقلاع جديد في علاقتنا مع الله، في علاقاتنا مع بعضنا البعض.. والبحث عن السعادة الحقيقية في ديننا لا في أشياء خارجية كما نفعل الآن؛ ولن نكون سعداء إلا إذا ذقنا حلاوة الإيمان، فلْنفتّش عن هذه السعادة الأبدية في كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام.. ومهما بحثنا عنها في غيرهما فلن نحصد إلا الشوك، ولن نرى أمامنا إلا السراب.. وصلّ اللهم وسلم وبارك على محمد وعلى آل محمد في الأولين والآخرين، وصلّ اللهم عليهم وسلم في الملأ الأعلى إلى يوم الدين، وارض اللهم عن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى عن الناس، اللهم ارزق كلا منا إيمانا راسخا ثابتا، و يقينا خالصا صادقا، وعملا صالحا زاكيا ،اللهم اجعلنا من الذين صاموا رمضان إيمانا واحتسابا.. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم انصر المجاهدين في مشارق الأرض ومغاربها... اللهم بارك لنا في ثمارنا وزروعنا، وهبْ لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما.. اللهم ربنا احفظ وطننا وأعز ملكنا أمير المؤمنين محمدا السادس وانصره، وأيده بالحق وأيد به الحق، واحفظه في ولي عهده وأسرته وسائر شعبه.. اللهم أرزق الإعانة والسداد لولاة أمور هذه البلدة، ووفقهم لما فيه خيرها وصلاح أهلها يا رب العالمين.. ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا، واغفر لنا، وارحمنا، أنت مولانا، فانصرنا على القوم الكافرين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين... وعيدكم مبارك سعيد.// "الشرقية"