«جدة سوداء.. وأم بيضاء.. وأب مسلم.. جذور أفريقية.. وعقيدة مسيحية.. ومهاجر رحال» لم يحظ رئيس أمريكى بهذا التنوع العرقى والحضارى والعقائدى الذى حظى به باراك حسين أوباما! ...ومن جهة أخرى،هناك قدر من الإحباط العربي الأولي والمبرر 1- أمريكيا «جدة سوداء.. وأم بيضاء.. وأب مسلم.. جذور أفريقية.. وعقيدة مسيحية.. ومهاجر رحال» لم يحظ رئيس أمريكى بهذا التنوع العرقى والحضارى والعقائدى الذى حظى به باراك حسين أوباما! هذا التنوع وتلك البساطة أعادت للولايات المتحدة أبرز مزاياها.. ألا وهى البوتقة التى تنصهر فيها كل الحضارات والثقافات.. بعد أن كانت أسيرة لليمين الأمريكى المتطرف على مدى ثمانى سنوات! الرئيس الأمريكى الجديد الطامح إلى التغيير سوف يدخل عش الدبابير.. وسوف يصطدم بصناع الشر.. فى واشنطن.. وخارجها!! سوف يواجه تركة ثقيلة من الخطايا «الجمهورية» وسوف يكون مكبلا بكوارث صنعها أسوأ رئيس فى التاريخ! وفى خطابه القصير الذى اعترف فيه بالهزيمة أشار جون ماكين إلى حقيقة مهمة.. تتمثل فى الاعتراف بالظلم الذى وقع على بعض الأقليات فى الولاياتالمتحدة.. وهى إشارة إلى العرق الأسود الذى يمثله أوباما تحديدا.. حينما مارس الأجداد المؤسسون للولايات المتحدة أشد أشكال الرق والعبودية ضد بنى البشر.. ومنهم أجداد أوباما الذين جلبوهم من أفريقيا قسرا.. وعنفا.. وقهرا.. وعاشوا أسود أيامهم تحت حكم البيض العنصريين. وكما يمثل أوباما نقطة تحول لتغيير هذا التاريخ الأسود.. فإنه يمثل بارقة أمل لكل الأقليات التى تعرضت للظلم والاضطهاد فى بلاد العم سام كما اعترف العنصرى الأبيض.. ماكين. بل إن انتخاب الشاب الأسمر اليافع يمثل محاولة للاعتراف بحق أصحاب الأرض الأصليين الهنود الحمر الذين قامت الولاياتالمتحدة على أنقاضهم.. وأشلائهم! بداية يجب أن نشير إلى أن الرئيس بوش كان العامل الأول الذى ساعد على فوز أوباما! هذه ليست نكتة.. ولكنها مفارقة واقعية حقيقية لا مفر منها! ولكن السؤال هو كيف دعّم بوش أوباما؟ أولا.. بتركيبة شخصية ضعيفة وخاوية ومتناقضة وكلنا يشهد ويعلم كم من مرة أخطأ بوش وحاول هو ومساعدوه تبرير ذلك بأنها زلات لسان! ولكن زلات اللسان تكشف عن اللاشعور وتفضح هوية صاحبها.. لأنها توضح حقيقته فى لحظة تنفلت فيها المشاعر والأحقاد المكبوتة.. كما تحدث عن الحروب «الصليبية». وتتضح أهمية هذا العامل فى انجاح أوباما.. عندما نقارن بين بوش وأوباما.. فالفارق كبير.. بين شخصية بسيطة ومتمكنة وواثقة ومفكرة.. وتستطيع اتخاذ القرارات الحاسمة والسريعة.. وبين شخصية ضعيفة ومترددة.. وسطحية العلم والمعالم! إن المقارنة بين باراك أوباما وجون ماكين واضحة أيضا فالعجوز الهرم.. ضيق الأفق والعنصرى الأبيض.. لم يستطع مواجهة شباب وحيوية أوباما ولم يكن ماكين ليستطيع مواجهة الأزمات الطاحنة التى خلفتها إدارة الجمهوريين وهو فى هذه السن.. وبهذه القدرات. إذا.. فالعنصر الشخصى الحاسم.. ساهم فى نجاح أوباما.. وإسقاط ماكين. ومعه خليفته بوش. ثانيا.. السياسات الداخلية والخارجية الخاطئة ل بوش كانت العامل الحيوى فى إنجاح أوباما.. ولعل أبرز هذه الخطايا الأزمة الاقتصادية الطاحنة التى نشأت ونشبت وتصاعدت فى العهد الجمهورى غير الميمون! فقد انشغلت إدارة بوش بحروب صليبية وأوهام عنصرية.. عن القضايا الحقيقية والتحديات الخطيرة التى يعيشها المواطن الأمريكى. وكان من المفترض أن تراقب هذه الإدارة المشئومة الأسواق وتتابع حركة الاقتصاد.. وتضع الخطط المناسبة لمنع تطور هذه الأزمة وتصاعدها. ولكن وقعت الواقعة.. وفاجأت الإدارة المشغولة بإشعال النيران فى أنحاء العالم. بل إن هذه الإدارة دبرت وأعدت هذه الحروب قبل وصولها إلى السلطة باعتراف كبار الكتاب والساسة المقربين من بوش نفسه. كانت تخطط لضرب العراق مسبقا.. وافتعلت الأكاذيب لتبرير خطة الغزو.. ودمرت بلادا وأبادت شعوبا بالكذب والتضليل والخداع. وهنا لا نبالغ عندما نقول إن جرائم بوش وإدارته تفوق ما فعله كل الإرهابيين على مدار التاريخ.. ولا وجه للمقارنة بينها وبين ما فعله صدام.. الذى أعدموه جزاء أخطائه.. فمن يعاقبهم جراء جرائمهم؟! ثالثا.. ساهم الرئيس الأمريكى الأعرج فى سنة الانتخابات فى إنجاح أوباما بتطرفه الأيديولوجى والحزبى. حتى بدا أن الولاياتالمتحدة أصبحت رهينة هذه الفئة المتطرفة المهووسة التى لا تمثل سوى شريحة محدودة داخل الحزب الجمهورى نفسه. وتحالف اليمين المسيحى المتطرف فى إدارة بوش مع اليهود الصهاينة لضرب كل أعداء إسرائيل وتأمين الساحة أمامها.. بكل الوسائل.. عسكريا واقتصاديا وقانونيا. ومن الغريب أن صُنّاع الشر الساقطين كانوا يجتمعون داخل البيت الأبيض لتلاوة الأشعار والكتب المتطرفة يوميا قبل بدء النشاط الرسمى! وكأن البيت الأبيض قد تحول إلى وكر أسود! وإذا كانت هذه هى بعض العوامل التى ساعدت أوباما على الانتصار فيجب ألا نفرط فى التفاؤل.. فى أن الساكن الأسود للبيت الأبيض يملك عصا سحرية يستطيع بها فعل المعجزات! بل لا نبالغ إذا قلنا إن أوباما سوف يدخل وكر الشياطين.. وسوف يصطدم بالقوى الخفية التى تحكم وتتحكم فى صناعة القرار الأمريكى.. من وراء الكواليس. وإذا كان بوش واجهة طيِّعة وسيئة أيضا لهذه القوى الخفية.. فإن أوباما يختلف كثيرا.. فهو صاحب قيم ومبادئ ورأى ورؤية وتوجه أيديولوجى.. يدعو إلى التغيير والتطوير. ولكن هناك حدوداً للتغيير المأمول من الفتى الأسمر أوباما: هناك التزام بالأسس الحضارية والثقافية للولايات المتحدة.. هذه الأسس يؤمن بها أوباما نفسه.. باعتباره أمريكيا مسيحيا يعبر عن كل الأمريكيين.. بكافة انتماءاتهم وتناقضاتهم ويجب ألا نفرط فى التفاؤل بأن باراك «حسين» أوباما ذا الجذور الإسلامية سوف يقلب الولاياتالمتحدة رأسا على عقب لمصلحة قوى إسلامية أو عربية.. ولو بعد سنوات طويلة! إن الالتزامات الحضارية والثقافية والعقائدية الأمريكية تفرض على أوباما قيودا وحدودا لا يتعداها.. كما أن الواقعية والقراءة الموضوعية لجوهر التغيير الأمريكى تفرض علينا أن نضع حدودا لتفاؤلنا.. وسقفا لآمالنا! المصالح الاستراتيجية الأمريكية تفرض على أوباما التزامات لا يستطيع الفكاك منها أو التراجع عنها فنحن نعيش فى عالم المصالح المتبادلة.. بل إن أمريكا تضع مصلحتها فوق مصلحة الجميع.. هكذا فعل كل الرؤساء الأمريكيين وهكذا سوف يفعل أوباما. وإذا كانت مصلحة أوباما فى الحفاظ على علاقات جيدة مع الصين أو إسرائيل.. أو غيرهما فإنه سوف يفعل ذلك دون تردد. وفى عالم المال والأعمال والاقتصاد والحسابات المعقدة يجب أن يكون القائد والحاكم بارعا ومتمكنا فى إدارة شئون بلاده وأن يسعى لتقليل الخسائر. وتعظيم المكاسب بأقصى استطاعته. هناك التزام بالتحالف والمعاهدات بين الولاياتالمتحدة وكافة الأطراف الإقليمية والدولية. هذا قيد آخر يفرض حدودا للتفاؤل بالتغيير. فلا يمكن على سبيل المثال الانفلات من الارتباط بحلف الناتو الذى أصبح الذراع العسكرية للغرب.. بل المؤسسة العسكرية الوحيدة المتحركة والفاعلة بقيادة وهيمنة أمريكية واضحة. قد يقوم أوباما بتعديل تكتيكى مثل تغيير نمط ومجال الدرع الصاروخية الأمريكية فى أوروبا.. ولكن سيظل ملتزما بمعاهدات واتفاقات الناتو.. بكل حذافيرها. سوف نرى بعض التعديلات «التكتيكية» وليست الاستراتيجية إزاء بعض القضايا مثل أفغانستان والعراق وفلسطين.. ولكن أوباما لن يقود ثورة شاملة لتصحيح كل خطايا الإدارة السابقة.. دفعة واحدة. فالتغيير المأمول يجب أن يكون تدريجيا ومقبولا من كل القوى الفاعلة داخل الولاياتالمتحدةالأمريكية وبمشاركة غربية أيضا. ربما يسعى أوباما إلى توسيع دائرة المشاركة الدولية. وتعديل طبيعة الدور الأمريكى.. من الهيمنة السافرة المطلقة.. إلى تحقيق نوع من المشاركة والشراكة الدولية بهدف تخفيف الأعباء عن أكتاف العم سام الذى أنهكته الأزمة المالية والحروب الإرهابية. أى أن التغيير سوف يستهدف فى نهاية المطاف مصلحة المواطن الأمريكى وتوزيع الأعباء على الشركاء الخارجيين.. حتى يستطيع هذا المواطن إيجاد فرص عمل ورعاية صحية أفضل.. وحتى لا يستمر الأبناء فى حروب لا نهائية ولا منطقية.. إلى الأبد! دولة المؤسسات فى الولاياتالمتحدة.. سوف تفرض على الرئيس الجديد التزامات أخرى .. لا يستطيع تجاوزها بنص الدستور والقوانين المعمول بها. ورغم سيطرة الجمهوريين المطلقة على الكونجرس «بمجلسيه الشيوخ والنواب» فإن أوباما لا يستطيع اتخاذ قرارات مصيرية- سلما أو حربا- دون الرجوع إلى الكونجرس.. والحصول على موافقته. ويجب أن ندرك أن الفواصل بين الجمهوريين والديموقراطيين ليست شاسعة للدرجة التى تتناقض مع المصالح الحيوية والاستراتيجية للولايات المتحدة. كاريزما أوباما.. أو «أوباما مانيا» أى الولع ب أوباما.. من الوسائل التى سوف تسهل له مهمة السعى نحو التغيير المنشود.. فهو يحظى بشخصية بسيطة ورؤية متجددة وفكر ثاقب وعلاقات ممتازة وجاذبية بارزة. كل هذا سوف يمنح أوباما القدرة على إحداث التغيير.. ولكنه سوف يصطدم فى ذات الوقت بدعاة الجمود والركود.. بكل أنواعه! اعتراف أوباما بأنه «ستكون هناك انتكاسات وبدايات خاطئة.. وهناك الكثيرون ممن لن يوافقوا على كل قرار اتخذه أو أية سياسة اتخذها كرئيس» هذه العبارة التى أطلقها أوباما فى خطاب النصر.. تشير إلى ادراكه لحجم التحديات والعوائق التى تنتظر أول رئيس أسود فى دهاليز البيت الأبيض! ولا يعود هذا فقط إلى القوى الخفية التى سوف تلعب ضده.. ولكن لضخامة التركة التى تركها بوش. وقد أضاف أوباما فى خطابه: إن الطريق أمامنا سيكون طويلا.. وسيكون صعودنا صعبا وربما لا نصل إلى هناك خلال عام واحد.. أو حتى خلال فترة رئاسية! هذه العبارة لا تعنى أنه يخطط لدورة رئاسية ثانية.. تشير مرة أخرى إلى حجم الكوارث التى خلفتها الإدارة الجمهورية للشعب الأمريكى وللعالم بأسره على مدى ثمانى سنوات. إذا كان أوباما يعلم بعضا من خفايا كواليس واشنطن فإن القاعدة الأساسية التى يعتمد عليها والتى فاز بواسطتها بالرئاسة تتمثل فى الحدائق الخلفية وفى القرى الصغيرة والنائية.. فى هؤلاء البسطاء الذين دعموه وساندوه حتى تحقق الحلم الأبيض.. على يدى رجل أسود. لقد تحدث أوباما عن أبناء شعبه عن الأمريكيين الذين يعيشون فى صحراء العراق وجبال أفغانستان و»يخاطرون بحياتهم من أجلنا».. تحدث عن الأبناء والأمهات الذين يسهرون طوال الليل ويفكرون كيف سيدفعون أقساط الرهن العقارى وفواتير الأطباء ومصاريف المدارس والجامعة! هذه اللغة المباشرة التى تحدث بها أوباما هى من أسباب تفوقه.. وانتصاره على خصمه. وانتشاره فى أنحاء الولاياتالمتحدة.. بل فى أنحاء العالم أيضا. هذه هى إحدى أسرار نجاح باراك حسين أوباما. قال أوباما فى خطاب النصر: «لا يمكن أن تكون لدينا سوق مالية منتعشة فى وول ستريت بينما يعانى الناس فى هذه البلاد يجب أن نصعد ونهبط كأمة واحدة» هذه الإشارة تكشف عن رؤية أوباما لمعالجة الأزمة المالية. وعن فلسفة اقتصادية اجتماعية راقية تفرض المساواة بين مختلف شرائح الشعب.. فلا يصح أن يرتفع رجال المال والأعمال والساسة الكبار.. بينما يتضور البسطاء والبؤساء جوعا.. وفقرا. فى خطابه أشار أوباما إلى «أن القوة الحقيقية لشعبنا لا تأتى من قوتنا وأسلحتنا ومقدار ثروتنا ولكن من القوة الدائمة لمبادئنا هذه الكلمات ربما تحمل تغييرا فى رؤية أوباما للمشاركة فى تغيير العالم.. بالفكر والمبادئ.. وليس بالحرب والتدمير وقوة السلاح. هذا هو رأيه.. وتلك هى رؤيته.. ولكنه سوف يصطدم بكل تأكيد ب لوبى السلاح والنفط والمافيا بكل أنواعها.. وتخصصاتها.. فهؤلاء لا يعيشون إلا فى مستنقعات الأزمات وآبار الصراعات التى لا تنتهى. تحدث أوباما عن امرأة عمرها 106 أعوام أدلت بصوتها فى أتلانتا.. بعد أن وقفت فى الطابور الطويل. وقد ولدت هذه المرأة «نيكسون كوبر» بعد جيل واحد من انتهاء العبودية.. عندما لم تكن تستطيع التصويت فى الانتخابات.. لأنها امرأة ولأنها سوداء! ولكن كوبر أدلت بصوتها بعد 106 أعوام. وأدركت أن أمريكا يمكن أن تتغير! 2 - عربيا ومن جهة أخرى،هناك قدر من الإحباط العربي الأولي والمبرر إزاء قرار أوباما تعيين رام إيمانويل في منصب كبير موظفي البيت الأبيض، باعتبار هذا الأخير من أشد مؤيدي إسرائيل، وتاريخ عائلته أقرب إلى إسرائيل منه إلى الولاياتالمتحدة. فوالده بنيامين إيمانويل خدم في منظمة إيتسيل قبل قيام دولة إسرائيل، وساهم في تشريد الشعب الفلسطيني، ويُقال إنه كان من المشاركين في تنفيذ مذبحة دير ياسين عام 1947، ويتزايد الإحباط أيضاً بسبب العودة المحتملة ل دينس روس الذي شغل منصب المبعوث الأميركي للشرق الأوسط، وخاصة للعملية السلمية، خلال حقبة كلينتون، وعُرف بانحيازه الشديد لإسرائيل. والذي ختم سنوات خدمته (لإسرائيل!) آنذاك بتحميل الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات مسؤولية فشل محادثات كامب ديفيد عام 2000 والتي ساهم فشلها في قيام الانتفاضة الفلسطينية الثانية. تنغص هذه الإشارات المبكرة و"المؤسرلة" لسياسة وتوجه أوباما الشعور العربي الواسع المتعاطف معه، والذي تكامل مع تعاطف عالمي مدهش، جاء في معظمه على خلفية كراهية السياسة الأميركية التي انتهجها جورج بوش والمحافظون الجدد. يُضاف إلى ذلك ما وعد به أوباما من تغيير لتلك السياسة وتحويلها من الانفرادية المتبجحة إلى التعددية الدولية. يمكن هنا افتراض قراءة موغلة في التفاؤل إزاء توجه أوباما المتسرع نحو إسرائيل وإحاطة نفسه بمستشارين هم أقرب إلى مصالح إسرائيل منهم إلى المصالح الأميركية نفسها. إذ يمكن تصور (أو توهم!) أن أوباما يريد وضع جهد استثنائي على جبهة عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين والتوصل إلى معاهدة سلام بين الطرفين، لكنه في الآن ذاته يريد طمأنة إسرائيل بأن ذلك الجهد لا يعني أنه يتبنى سياسة تضر بالمصالح الإسرائيلية. وربما قصد أيضا من وراء هذه "الأسرلة المبكرة" أن يستبق أي معارضة قد تتشكل ضد سياساته الشرق اوسطية في دوائر اللوبي الصهيوني في واشنطن. لكن علينا أن ندرك أن فلسطين وقضيتها ليست على رأس أولويات الرئيس الجديد وأجندته المثقلة بالقضايا الملحة. أمامه أولاً الأزمة الاقتصادية الهائلة التي تواجه الولاياتالمتحدة والغرب وما يرافقها من انهيارات متتالية. ثم أمامه سلسلة من الخراب الذي يرثه من الإدارة السابقة سواء محلياً او دولياً، وعلى رأسها الفوضى التي خلفتها سياسة بوش في العراق وأفغانستان. وهكذا فإنه من روسيا، إلى الصين، إلى أزمات الدرع الصاروخية في أوروبا، وإلحاحات البيئة والتجارة العالمية، وصولاً إلى أميركا اللاتينية وشافيز وكوبا، فإن التنافس على جذب اهتمام الرئيس المنتخب لن يكون سهلا. وحتى في الشرق الأوسط، وبعد هم العراق، فإن ملف إيران وبرامجها النووية تسبق القضية الفلسطينية على أجندة أوباما. يُضاف إلى ذلك كله، وبالنسبة للمسألة الفلسطينية تحديدا، هناك ما يُمكن أن يُسمى "لعنة جمود الدورة الرئاسية الأولى"، حيث يخشى كل رئيس أميركي ان يقترب من ملف الصراع العربي الإسرائيلي الملتهب في دورته الرئاسية الأولى. ولأن كل رئيس يكون طامحاً بدورة انتخابية ثانية وعينه على المال والصوت اليهودي في الولاياتالمتحدة فإن الاهتمام الجدي، إن وجد، بهذا الملف يتأخر إلى الدورة الثانية لأي رئيس، بل وإلى الأشهر الأخيرة منها. وهذا رأيناه في سيرة وأداء معظم الرؤساء الأميركيين خاصة في العقد الأخير، جورج بوش الأب، بيل كلينتون، وجورج بوش الابن. معنى ذلك أنه إذا انطبقت نفس هذه النظرية على أوباما، وليس هناك ما يفترض عدم انطباقها، فإن امامنا أربع سنوات من الوقت الضائع، اللهم إلا من المزيد من الدماء والمعاناة على الجانب الفلسطيني. وبعيداً عن عناصر التفاؤل والتشاؤم ليس من المتوقع حدوث اختراقات كبرى على صعيد السياسة الأميركية تجاه المسألة الفلسطينية في الأشهر وربما السنوات القادمة. فالمعادلة متعددة الأطراف، أميركيا، إسرائيلياً، عربياً ما زالت نفسها تقريبا: انحياز أميركي اعمى لإسرائيل، لوبيات يهودية قوية في واشنطن، وغياب عربي فاضح عن لعب دور مؤثر وضاغط للتأثير في السياسة الاميركية. ولئن كان هذا الغياب السمة الدائمة، مع الأسف، وليس فيه جدة، فإن الوضع الاقتصادي العالمي الراهن يغري بإعادة التفكير في مسألة معالجة "الغياب العربي" من زاوية جديدة. وهذه الزاوية هي مطلب الولاياتالمتحدة وأوروبا بأن تتدخل الرساميل العربية لإنقاذ الاقتصاد العالمي من انهياراته الحالية، وما يُمكن أن يُفكر فيه من مقايضة مقابل ذلك. من المفروض أولاً أن تقبل الدول العربية بأي ضغط في هذا الاتجاه "الإنقاذي" من دون أي يكون لها عوائد كبرى ومصالح متحققة. أما أن تلعب هذه الدول دور "المتبرع" فمن المُفترض أن يكون قد ولى ذلك الزمن الذي كان يُنظر فيه إليها من ذلك المنظور وحسب. وقد جاء الزمن الذي تستطيع فيه البلدان العربية وبسهولة نسبية أن تفرض مطالب سياسية كبيرة مقابل مساهماتها المالية والاستثمارية في عجلة الاقتصاد العالمي، وخاصة الغربي. وعلينا أن نقول إن المال العربي والاستثمارات العربية تمتاز بصفة تكاد تكون فريدة وهي حياديتها السياسية شبه المطلقة خاصة في سياق العلاقة مع الغرب. ففي عصر تعقد الاقتصاد السياسي الدولي لا يُستغرب من الرأسمال المتنقل أن يفرض شروطه الخاصة وأن يأتي مع مطالب سياسية. على ذلك فإن أي مساهمة عربية واسعة النطاق في إنقاذ الاقتصاد العالمي من الانهيارات التي تسببت فيها السياسة المالية والاستثمارية الغربية يجب أن تأتي بشروط. وعلى رأس هذه الشروط أن تتغير السياسة الغربية، الأميركية والأوروبية، تجاه الشرق الأوسط عموماً، والقضية الفلسطينية خصوصاً. وليس هناك فراغ من المطلوب تخليق امتلاء له تتجه إليه تلك السياسة، بل هناك عنوان مهم وواضح اتفقت عليه البلدان العربية وهو المبادرة العربية للسلام. وهذه المبادرة لا تتصف بالثورية أو الراديكالية، بل تبني على قرارات مجلس الأمن الخاصة بحل النزاع وهي مقبولة من قبل كل الأطراف تقريبا، لكن الدول العربية لم تبذل الجهد المطلوب لتسويقها وفرضها. وفرض أجندة فلسطينية جدية على السياسة الغربية والأميركية من قبل الدول العربية لا يأتي من باب التضامن والأخوة مع الفلسطينيين فحسب، بل هو مصلحة عربية لكل دولة عربية. فكل هذه الدول تدرك أن بقاء الحقوق الفلسطينية منتهكة واستمرار المعاناة الفلسطينية معناه المزيد من التطرف والأصولية في المنطقة، وهما الخطر الأكبر الذي يواجه كل تلك الدول. اما بالنسبة للدورة الرئاسية الثانية لأوباما وتلكؤه المتوقع إزاء التحرك بشكل جدي على المسار الفلسطيني خشية فقدان الدعم المالي اليهودي في الولاياتالمتحدة فهذا يفترض سياسة اخرى أيضا. بإمكان المال العربي أن يعوض أي خسارة يمكن أن يواجهها اوباما على هذا الصعيد. ما يهم في انتخاب أي رئيس اميركي هو ليس الأصوات اليهودية، بل المال والنفوذ اليهودي. الأصوات العربية والمسلمة في الولاياتالمتحدة أكبر من تلك اليهودية، لكنها تفتقد المال والنفوذ.