ما أن أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن انتهاء المهمات القتالية للقوات الأمريكية في العراق نهاية غشت ، إلا وتساءل كثيرون حول مغزى هذا الأمر وهل هو انسحاب أمريكي حقيقي أم إعادة احتلال ولكن بشكل آخر مستتر؟. ويبدو أن الإجابة لن تخرج عن المناورة السياسية خاصة مع اقتراب انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي ، فأوباما يريد أن يظهر للناخبين الأمريكيين أنه نفذ عهوده التي قطعها خلال حملته الانتخابية بإنهاء حرب العراق والتي عززت في حينها من فرص وصوله للبيت الأبيض . كما أنه يريد أن يبعث برسالة للعالم مفادها أن هناك تقدما حدث في العراق وأنه لابد من دعم واشنطن لتحقيق شيء مماثل في أفغانستان ، إلا أن حقيقة الأمر أن أوباما يعلم جيدا أن معظم دول الناتو التي تشارك بقوات في أفغانستان بدأت تدرس الانسحاب وخاصة بريطانيا ولذا فإنه في حاجة لتعويض تلك القوات في حال قررت بالفعل الانسحاب بعد أن أكد خلال حملته الانتخابية أن أفغانستان هي الجبهة المركزية في الحرب على "الإرهاب" . ولعل مسارعة قوات الاحتلال الأمريكية في العراق للاعتراض على الأرقام التي نشرتها الوزارات العراقية عن حصيلة ضحايا العنف في شهر يوليو والذي أظهر أنه كان الأكثر دموية منذ عام ألفين وثمانية يرجح صحة ما سبق . فالتقديرات الأمريكية تشير إلى أن إجمالي عدد القتلى العراقيين بلغ في يوليوز الماضي 222 قتيلا ، مقارنة بالتقديرات العراقية التي تؤكد أن عدد القتلى المدنيين والعسكريين بلغ نحو 535 ، هذا فيما زعم بيان لجيش الاحتلال الأمريكي أن الوضع الأمني في العراق يتقدم نحو الاستقرار. أيضا فإن ما جاء في صحيفة "الجارديان" في 5 غشت يرجح أن الانسحاب الأمريكي سيكون محدودا وشكليا لتغطية العجز في القوات الأمريكيةبأفغانستان إلا أنه لن يكون حقيقيا . فقد شكك الكاتب البريطاني سوماس مايلن في مقال له بالصحيفة بنوايا الولاياتالمتحدة بالانسحاب من العراق ، قائلا :" إن إعادة تسمية القوات القتالية الأميركية أو إعارتها وتفويض عملها للآخرين لا تعني بالضرورة إرجاع البلاد إلى أهلها وإعادة الأرض إلى أصحابها". وأضاف أن العراق بالنسبة لغالبية الناس في بريطانيا وفي الولاياتالمتحدة بات شيئا من التاريخ ، وعزا أسباب غياب المشهد العراقي عن المسرح الشعبي البريطاني والأمريكي وربما العالمي إلى كون أفغانستان تحظى بنصيب الأسد في وسائل الإعلام الدولية في ظل الخسائر البشرية الهائلة والمتزايدة التي تتكبدها قوات حلف شمال الأطلسي "الناتو" في الحرب على أفغانستان. وتابع " من قال إن الغزو الأمريكي للعراق إلى زوال؟ فالذي يجري من ترتيبات أمريكية في العراق لا تعدو كونها تعديلات وتلاعب بالأسماء ، تماما كما بدلت إدارة أوباما مصطلح الحرب على الإرهاب الذي تغنت به مطولا إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش إلى مصطلح جديد تحت اسم عمليات مكافحة التمرد خارج الولاياتالمتحدة". ونسب مايلن إلى القائد العسكري الأمريكي ستيفن لانزا قوله بشأن إنهاء الاحتلال الأمريكي للعراق :"إنه على المستوى العملي فإن شيئا لم يتغير ، بعد انسحاب عدد من الجنود الأمريكيين في أغشت سيبقى في العراق خمسون ألفا من القوات الأمريكية متمركزة في أربع وتسعين قاعدة عسكرية بهدف القيام بتدريب القوات العراقية وتقديم النصح والمشورة للعراقيين وتوفير الأمن والقيام بعمليات وشن هجمات في مجال مكافحة الإرهاب". وأكد الكاتب البريطاني أيضا أن الولاياتالمتحدة لا تقوم بتغيير اسم الغزو إلى أسماء أخرى فقط ، لكنها أيضا تقوم بما سماها خصخصة الاحتلال ، موضحا أن هناك أكثر من مائة ألف متعاقد أمني من القطاع الخاص ممن يعملون لصالح ما سماها قوات الاحتلال الأمريكية. وأضاف أن هناك ما يزيد على أحد عشر ألفا ممن وصفهم بالمسلحين من المرتزقة وغالبيتهم من جنسيات أخرى ليست عراقية أو أمريكية ممن يعملون لصالح القوات الأمريكية ، مشيرا إلى مقتل متعاقدين أمنيين أوغنديين اثنين في هجوم صاروخي استهدف المنطقة الخضراء الشهر الماضي . وفي تأكيد على استمرار الاحتلال ، أشار مايلن إلى أن الولاياتالمتحدة ترغب في استخدام شكل آخر من أشكال استعمارها للعراق كي تبقي قبضتها مشدودة على عنق بلاد الرافدين وأعناق الدول الأخرى في المنطقة على المستوى الإقليمي ، قائلا :" إنه بينما تقوم واشنطن بتقليص عدد قواتها المقاتلة في العراق ، فإنها ترغب في المقابل في زيادة عدد المقاولين والمتعاقدين الأمنيين الخاصين الذين يعملون لصالحها وبالنيابة عنها في شتى أنحاء بلاد الرافدين ، مشيرا إلى ما وصفها بالشركة الأمنية الأمريكية السيئة السمعة "بلاك ووتر". واستطرد " وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون أعلنت أنها ترغب في زيادة عدد المتعاقدين الأمنيين الخاصين العاملين لصالح الوزارة في العراق من ألفين وسبعمائة إلى سبعة آلاف ونشرهم ضمن قواعد عسكرية دائمة في البلاد ، ولذا فإن انتهاء احتلال بلاد الرافدين هو أكذوبة أمريكية ". واختتم مايلن بالقول إن الحرب على العراق تمثل فشلا استراتيجيا للولايات المتحدة ، موضحا أن أمريكا عجزت عن إيجاد حل للعراق عبر الطرق العسكرية وعجزت أيضا عن فرض القيم الغربية على أهالي بلاد الرافدين ولكنها ربما نجحت في اللعب على وتر التفرقة وإثارة النعرات العرقية فقط. ما سبق يؤكد بوضوح أن أمريكا حتى وإن انسحبت ظاهريا من العراق إلا أن الاحتلال سيستمر بأشكال أخرى وهذا ما يجب أن يعيه العرب جميعا . وكان الرئيس الأمريكي باراك أوباما كشف في 2غشت عن انتهاء المهمات القتالية للقوات الأمريكية في العراق نهاية أغسطس ، مشيرا إلى تحول المهمة الأمريكية في العراق من مهمة قتالية إلى أغراض التدريب والمشورة. وفي كلمة ألقاها في المؤتمر الوطني لقدامى المحاربين المعوقين في مدينة أطلانطا ، أضاف قائلا :" بحلول 31 غشت 2010 ستنتهي المهمة القتالية لأمريكا في العراق وهذا ما نقوم به بالضبط طبقا للوعود وبحسب الجدول المقرر". وتابع أنه تعهد كمرشح للرئاسة بإنهاء الحرب بطريقة مسئولة وأنه يقوم بذلك على وفق الجدول الزمني المقرر، موضحا أنه بنهاية غشت سيكون أكثر من 90 ألف من العسكريين الأمريكيين في العراق قد أعيدوا إلى الولاياتالمتحدة . واستطرد " في هذا الشهر ستتغير مهمتنا في العراق من مهمة قتالية الى مهمة دبلوماسية "، مؤكدا في الوقت ذاته أن الولاياتالمتحدة ستبقي على قوة انتقالية في العراق خلال الأشهر المقبلة على أن تسحب قواتها بالكامل بحلول نهاية 2011. وأضاف أوباما قائلا :" "ينبغي ألا يخطئ أحد ، فإن التزامنا في العراق يتبدل من مجهود عسكري بقيادة قواتنا إلى مجهود مدني بقيادة دبلوماسيينا ، ستبقى قوة انتقالية عددها 50 ألف جندي لتدريب القوات الأمنية العراقية وقيادة عمليات مكافحة الارهاب وتوفير الأمن للجهود المدنية الأمريكية ، المهام الجديدة خطرة وسيكون هناك على الدوام مسلحون بقنابل ورصاص سيحاولون وقف تقدم العراق ، الحقيقة ولو أنها صعبة هي أن التضحيات الأمريكية في العراق لم تنته". وبشأن قواعد الجيش الأمريكي في العراق ، قال أوباما :"لقد أغلقنا ونقلنا مسئولية مئات القواعد العسكرية إلى القوات العراقية كما قمنا بإعادة الملايين من المعدات والأجهزة". وأكد أوباما أن التزام الولاياتالمتحدة مع العراق لن يتغير، وأشار إلى أن العنف أصبح في أدنى مستوياته على الرغم من تواصل الهجمات "الإرهابية " ، قائلا :"بفضل تضحياتنا وتضحيات شركائنا العراقيين تواصل معدلات العنف هناك الانخفاض إلى أقل مستوياتها". ومن جانبه ، أعلن البيت الأبيض في بيان له أنه بنهاية غشت ستخفض القوات الأمريكية معداتها العسكرية من 3.4 مليون قطعة التي كانت لها في شهر يناير عام 2009 إلى 1.2 مليون قطعة من المعدات العسكرية التي ستبقى لدعم القوات المتبقية. وبنهاية غشت أيضا ، جدولت القوات الأمريكية تخفيض عدد قواعدها المتبقية في العراق من 121 قاعدة إلى 94 قاعدة وهو أقل من ثلث العدد الذي كانت عليه في شهر يونيو العام الماضي وهو 357 قاعدة ، حسب بيان البيت الأبيض . ورغم أن ما سبق قد يرفع شعبية أوباما قبل انتخابات التجديد النصفي للكونجرس ، إلا أن الحقيقة التي لاجدال فيها هي أن معاناة العراق لن تنتهي في المستقبل القريب .