تحت وهج أضواء كشافات أجهزة التصوير وفي ظل أجواء مشابهة لحفلات تسليم جوائز الأوسكار في عاصمة السينما الأمريكية هوليود وبحضور نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن ووزير الدفاع روبرت غيتس ورئيس هيئة الأركان المشتركة الأدميرال مايك مولن، اقيمت يوم الأربعاء الأول من سبتمبر 2010 في قصر الفاو الذي أصبح بعد احتلال العراق مركز قاعدة أمريكية قرب مطار بغداد، مراسم ما دعي بإحتفال نهاية المهمة القتالية للقوات الأمريكية في العراق. وتم تسليم مهام قائد القوات الأمريكية المنتهية ولايته ريموند أوديرنو الذي امضى حوالى 56 شهرا في العراق، للقائد الجديد الجنرال لويد أوستن وقال نائب الرئيس الأمريكي إن نهاية المهام القتالية لقوات بلاده في العراق تمثل مرحلة جديدة في العلاقات مع العراق بعد سنوات من العمل العسكري المشترك لتثبيت الاستقرار في بلدهم. واضاف بايدن قائلا: «عملية تحرير العراق انتهت، ولكن الدور الأمريكي في العراق سيستمر مع المهمة الجديدة التي تبدأ اليوم، وهي عملية الفجر الجديد». من جانبه قال غيتس، انه يجب التعامل مع الجنود الأمريكيين الذين خاضوا المعارك القاسية التي شهدتها هذه المدينة في غضون السنوات السبع والنصف الاخيرة كمقاتلين. واضاف غيتس وان التاريخ هو الذي سيحدد ما اذا كان التدخل العسكري الأمريكي يستحق العناء ام لا. واعترف غيتس بأن «مشكلة الحرب بالنسبة للأمريكيين تكمن في أن الأسباب التي قدمت لتبريرها لم تكن صالحة»، وذلك في إشارة إلى كذبة وجود أسلحة دمار شامل في العراق. وفي رده على سؤال من الصحفيين حول ما اذا كانت الحرب مجدية وتستحق، قال غيتس «إن هذا الامر يعتمد على امكانية ان ينهض العراق دولة ديمقراطية تكون ركيزة لنشر الديمقراطية في الشرق الاوسط». الولاياتالمتحدة لم تربح الحرب وفي إقرار جديد بأن الولاياتالمتحدة لم تربح الحرب قال غيتس: «رجالنا ونساؤنا الذين يرتدون الزي العسكري الرسمي... أنجزوا أمرا فريدا. لكن لم يتضح بعد ثقله الحقيقي خلال الفترة المقبلة». لا يمكن بجمل قليلة وصف هذه المغالطة، ولكن غيتس تناسى بكل بساطة أن أكثر من مليون عراقي قتلوا في أكبر مجزرة جماعية في تاريخ العراق بسبب الغزو الامريكي، وطبقة وسطى كانت مضرب المثل في المنطقة انهارت بالكامل، وخمسة ملايين يتيم عراقي، يهيمون على وجوههم في العراق الجديد دون عائل. الامريكيون جعلوا العراق مدمرا بعد أن كان قوة إقليمية بارزة، حيث لا ماء ولا كهرباء ولا خدمات صحية او تعليمية، وقد استنزفته الحروب الطائفية التي صنعوها وحرضوا عليها مع حلفائهم العمليين في إيران، ومزقوا نسيجه الاجتماعي والسياسي، واغرقوه في مسلسل من الكوارث. ويسود تشاؤم كبير في أوساط اتخاذ القرارت بالعاصمة واشنطن بشأن مستقبل الحرب خاصة على ضوء التساؤلات التي تجابه ادارة البيت الأبيض حول ما إذا كان الكونغرس سيوقع مشروع قانون يقر جهود إعادة بناء الدولة في العراق بقيادة مدنية. ورغم أن المشرعين اتسموا بالتردد حيال تقليص التمويل الموجه إلى القوات الأمريكية المقاتلة، فإنهم يبدون استعدادا أكبر بكثير لقطع المساعدات عن حلفاء أمريكا في بغداد. وقد خفض مجلس الشيوخ الميزانية التي طلبتها إدارة أوباما لتدريب وتجهيز الجيش والشرطة العراقيين بقيمة ملياري دولار، إلى النصف. ويتم ذلك رغم تحذيرات البيت الأبيض من تهديد ذلك لمصالح أمريكا خاصة النفطية. وكان الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، قد أعلن ليلة الثلاثاء الأربعاء 1 سبتمبر عن انتهاء مهمة القوات الأمريكية في العراق، إلا أنه شدد، في كلمته التي استغرقت 15 دقيقة، على استمرار واشنطن في تقديم الدعم للحكومة العراقية، وأكد أن تركيز إدارته في الوقت الراهن ينصب على تحسين أداء الاقتصاد الأمريكي، وحسم الحرب في أفغانستان. وقال الرئيس الأمريكي، في خطاب تلفزيوني من مكتبه البيضاوي في البيت الأبيض، إن «الولاياتالمتحدة دفعت ثمنا باهظا لوضع مستقبل العراق بين أيدي أبنائه». وأشاد أوباما ب»التضحيات الهائلة» التي قدمها الجنود الأمريكيون خلال عملهم بالعراق، كما أشار إلى أن الولاياتالمتحدة «أنفقت جزءا كبيرا من موازنتها في عمليات خارجية، في الوقت الذي كان يعاني فيه الداخل من عجز بالموازنة». واكد في هذا السياق ان «مهمتنا الاكثر الحاحا هي اعادة بناء اقتصادنا واعادة ملايين الامريكين الذين فقدوا وظائفهم الى العمل»، مشيرا الى ان غزو العراق «ادى الى انفاق موارد هائلة في الخارج اثناء فترات ميزانيات تقشف». أمن أقل صحيفة لوس أنجلوس تايمز الأمريكية قالت ان أوباما أعلن عن انتهاء العلميات القتالية في الحرب على العراق دون أن تكون مهمة الولاياتالمتحدة في بلاد الرافدين قد اكتملت أو أن تكون قد انتصرت. وأوضحت أن الولاياتالمتحدة تسببت في تمزيق العراق وأنها تتحمل المسؤولية المترتبة إزاء ذلك، وهي المسؤولية المتمثلة في ضرورة إصلاح البلاد التي مزقتها الحرب، وأن ذلك يعني استمرار التورط الأمريكي المكلف. من جانبها قالت صحيفة نيويورك تايمز إن حرب العراق جعلت الأمريكيين أقل أمانا، وخلقت تنظيما إرهابيا جديدا، واستنفدت موارد الولاياتالمتحدة العسكرية وصرفت الانتباه عن أفغانستان، واصفة الحرب التي شنتها الولاياتالمتحدة هناك بأنها «مأساوية وعبثية». وأشادت الصحيفة في افتتاحيتها بإعلان الرئيس أوباما رسميا نهاية العمليات القتالية في العراق. غير أن منتقدي أوباما يتهمونه بالخداع والتمويه ويؤكدون أنه لا يزال يحاول تحقيق الأهداف الأمريكية التي وضعها سلفه بوش وأنصاره من المحافظين الجدد، وهي أساسا التحكم في ثروات العراق النفطية المقدرة حاليا بأكثر من 520 مليار برميل، وتقسيم بلاد الرافدين عمليا إلى ثلاث كيانات، ومنع العراق من العودة إلى لعب دوره على الصعيد العربي وخاصة فيما يخص تهديد إسرائيل. ويضيف هؤلاء أن أوباما وطاقمه يستخدمون ألفاظا جديدة للتأكيد على التمسك بإستمرار إحتلال بلاد الرافدين. جنود ومرتزقة رغم اللغط حول الإنسحاب وإنتهاء المهام القتالية، من المقرر أن تبقي الولاياتالمتحدة على 50 ألف جندي من قواتها في العراق موزعين على تسعين قاعدة عسكرية منتشرة على طول البلاد وعرضها، ويضاف إلى هؤلاء أكثر من 140 ألف من مسلحي شركات الأمن الخاصة حسب التسمية الأمريكية والمرتزقة حسب مفهوم القانون الدولي. وزارة الخارجية الأمريكية وحدها أجرت رسميا خدمات أكثر من 5500 مسلح من شركات الأمن الخاصة لحماية موظفيها وسفارتها في بغداد التي هي بالمناسبة الأكبر في العالم. وهكذا فإن ما يقال عن الانسحاب هو مجرد تمويه لحكم العراق من وراء ستار وتخفيض كلفة احتلاله، كما أنه ثمرة وعد اوباما الناخبين الامريكيين وهذا ما اكده قائلا: وفيت بالتزاماتي، موجها كلامه للشعب الامريكي وليس الشعب العراقي او المجتمع الدولي». ويشير الملاحظون إلى أن المؤسسة العسكرية الأمريكية تستخدم ألفاظا ونبرة جديدة مرتبكة في وصف دورها الجديد. ففي البيانات الموجزة، مثلا، تخلى القادة عن لفظ «مقاتل» وأصبحوا يشيرون إلى نشاطات قواتهم باعتبارها عمليات «شراكة». «ما أشبه اليوم بالبارحة» هو العنوان الذي افتتحت به صحيفة «نيويورك تايمز» من خلال القول أن ثمة دروسا عسيرة أمام الرئيس أوباما مثل تلك التي مر به سلفه جورج دبليو بوش الذي ما إن أعلن عن انتهاء المهمة وإنجازها عام 2003، حتى انزلق العراق في حرب لا نهاية لها. الآن ومع تبدل طبيعة المهام القتالية لقوات الاحتلال الأمريكي، بدا إن طريق أوباما بشأن العراق لم تزل محفوفة بالمخاطر التي يتمثل بعضها في كونه لا يستطيع الإعلان عن أن الولاياتالمتحدة انتصرت في الحرب بل هو تجنب عبارات سلفه بوش «المهمة أنجزت». ويشار إلى أنه في الأول من مايو 2003 وقف بوش على متن حاملة الطائرات الأمريكية أبراهام لنكولن معلنا أن «المهمة أنجزت» وأن الولاياتالمتحدة وحلفاءها قد «انتصروا في معركة العراق». وتقول نيويورك تايمز إنه بعد سبع سنوات من إعلان بوش الحرب على العراق بناء على معلومات خاطئة ومغلوطة، فإن الحرب باتت مجددا تثير جدلا بالأوساط السياسية الأمريكية، في ظل إنفاق واشنطن مئات المليارات وتكبدها أكثر من 4400 قتيل وعشرات آلاف الجرحى، متسائلة عن جدوى الحرب برمتها ؟. غير ان البيت الأبيض يحاول إيجاد طريقة للاحتفاء باللحظة التاريخية المتمثلة في انتهاء «المهمة القتالية» لتذكير الناخب الأمريكي قبل شهرين من الانتخابات النصفية بكون أوباما وفى بوعده بسحب القوات وإعادتها للوطن. حرب لم تنته يقول الخبير العسكري البروفسور أنتوني كوردسون من مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية بواشنطن «الحرب على العراق لم تنته» مضيفا أنه لا منتصر فيها وأنها تمر بمرحلة خطيرة تشبه وضعها الحرج والخطر كأي مرحلة مرت بها منذ 2003. ويوضح الخبير العسكري بجامعة بوسطن أندرو باسيفيتش الذي فقد ابنه بالعراق وألف كتابا جديدا بعنوان «قوانين واشنطن» بشأن ما وصفها بطريق أمريكا للحرب الدائمة، أنه لا يبدو أن أحدا سيقدم استنتاجات بشأن الحرب على العراق، وأنه يبدو «أننا سنمضي هكذا بشكل حزين». لا شك ان تبدل «المهمات» القتالية يستدعي التساؤل عما أنجز وما لم ينجز من خلال هذا الاحتلال الذي تحول بسرعة إلى حرب واشنطن المنسية، وفي هذه المناسبة يسلط مدير مركز سابان لسياسات الشرق الأوسط بمؤسسة بروكينكز كينيث أم بولاك، الضوء على خمس «أساطير» جوهرية تتعلق بهذه القضية: إن غالبية ال 50 ألف جندي المخلفين في العراق هم من القوات المقاتلة ولم يتغير سوى الاسم المطلق عليهم. 2- ما هو مدى الأمن الذي جلبته إستراتيجية «تعزيز» القوات الأمريكية، وعما إذا كانت تلك الإستراتيجية قد نجحت في جعل العراق محصنا ضد العودة من جديد للحرب الأهلية مع انسحاب قوات الاحتلال؟ 3 - إن واشنطن تخلف وراءها في العراق نظاما سياسيا مهدما. 4 - ارغام العراقيين على تبني الديمقراطية بشكلها الأمريكي في كثير من الأحيان على مضض، ولكن إذا كانت القوات الأمريكية ساهمت في ذلك فهل يود العراقيون بقاءها بينهم أم يرغبون في سحبها؟ 5- أما القضية الأخيرة فيمكن ربطها بتصريح أوباما أمام عدد من المحاربين القدامى في وقت سابق من هذا شهر أغسطس بأن الحرب في العراق ستنتهي في «موعدها المحدد غير ان مثل هذا التصريح قد يعني التسليم بأن الحرب على العراق ستنتهي بطريقة تراجيدية شبيهة بنهاية الفصل الأول من إحدى مسرحيات سوفوكليس اليونانية. ويضيف الكاتب إن أوباما كان محقا عندما حذر كذلك من أن أمريكا ستظل متورطة في العراق بشكل عميق وربما يسقط لها ضحايا هناك في السنوات القادمة، وذلك بغض النظر عن التسمية التي «نطلقها على مهمتنا في هذا البلد». وهذا ما يفسر تصريح قائد القوات الأمريكية في العراق الجنرال ريموند اوديرنو إن الولاياتالمتحدة قد تعود إلى العمليات القتالية إذا دعت الضرورة. وأوضح أن القوات الأمريكية قد تعود إلى القيام بدور قتالي إذا حدث «انهيار تام لقوات الأمن» أو اذ أدت الخلافات السياسية إلى انقسام قوات الأمن العراقية. مفاوضات مع المقاومة ويقول محللون ألمان أن الوضع في العراق في الشهر التاسع من سنة 2010 يشابه إلى حد كبير الوضع في الفيتنام خلال سنة 1974 أي قبل سنة تقريبا من الإنهيار الأمريكي والإنسحاب المهين صيف 1975 أمام تقدم قوات الثوار الفيتنامية. ويضيف هؤلاء المحللين أن الفرق بين الفيتنام والعراق أنه كانت هناك مفاوضات علنية بين واشنطن وهانوي في باريس قبل الهزيمة الأمريكية، أما فيما يخص العراق فهناك إتصالات سرية متعددة بين الأجهزة الأمريكية والمقاومة العراقية، حيث يصر الساسة الأمريكيون على مواصلة تطبيق تكتيك فرق تسد بالإتصال والتحادث وتقديم الإغراءات في نفس الوقت مع أجنحة مختلفة من مكونات المقاومة العراقية. ويصر صقور البيت الأبيض والبنتاغون على متابعة محاولاتهم تهميش الفرع الرئيسي من المقاومة الذي انطلق في عملياته حتى قبل أن تسقط عاصمة بلاد الرافدين يوم 9 أبريل 2003 تحت الإحتلال. ما يسميه البيت الأبيض بالمأزق السياسي في بغداد ليس في الواقع أكثر من تكتيك أمريكي للإغراء وللتفاوض مع أطراف من المقاومة العراقية قد يجذبها إلى تسوية مع المحتل إمكانية وصولها إلى السلطة في المنطقة الخضراء بواسطة إنقلاب عسكري يمكن تبريره لدعاة الدفاع عن الديمقراطية بطرازها الغربي بأنه مخرج لعجز الطبقة السياسية التي برزت بعد الغزو عن التوصل إلى تشكيل حكومة. كما تأمل الإدارة الأمريكية أن يكون الحكام القادمون مقبولين من طرف العراقيين وأن يكونوا مستعدين لقبول سيطرة الشركات الامريكية على بحر النفط العراقي. في مقابلة مع صحيفة «نيويورك تايمز» في 31 أغسطس 2010 أعرب قائد القوات الأمريكية في العراق الجنرال راي أوديرنوالذي غادر منصبه في مطلع سبتمبرعن قلقه من الوضع العسكري، وأضاف في حديثه حول الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003: «لقد كنا كلنا سذجا حول العراق». وتابع «هناك أمور كثيرة لم نكن نفهمها وكان علينا أن نتعلمها، ربما أدى هذا إلى تدهورها»، إلا أنه رفض الإجابة على سؤال حول ما إذا كان الغزو زاد من الانقسام بين العراقيين، قائلا :» لا أعرف». ورغم أن أوديرنو لم يفسر صراحة المقصود من كلمة «سذج»، إلا أنها تؤكد بوضوح أن واشنطن خسرت في العراق ولم تحقق أي إنجاز، بل إن الهدف الأساسي من الغزو وهو نهب ثروات بلاد الرافدين النفطية لم يتحقق أيضا مثلما كانت تتوقع إدارة جورج بوش الابن السابقة ولذا فإن الحديث عن انسحاب أمريكا نهائيا من العراق اواخر 2011 هو خدعة كبرى، فهي أعادت فقط تسمية مهمتها لتحقيق ما عجزت عنه عسكريا بسبب هجمات المقاومة العراقية. تكلفة حرب إذا كانت الحرب الأمريكية على العراق قد كلفت مبالغ هائلة يصعب معرفتها بدقة خاصة لحرص إدارة البيت الأبيض سواء في عهد بوش أو خلفه أوباما على إبقائها طي الكتمان، فإن الأمر الأكيد هو ان قرار الرئيس باراك اوباما سحب القوات المقاتلة لن يؤدي بالضرورة الى خفض كبير في كلفة النزاع، رغم أن ادارة اوباما تحتاج إلى خفض النفقات الفدرالية، حيث أن الدين الأمريكي بلغ 13 الف مليار دولار، وهي ذروة تاريخية نجمت عن الحرب في العراق وأفغانستان. في بداية الحرب، قال وزير الدفاع حينذاك دونالد رامسفلد ان العمليات ستكلف دافعي الضرائب الامريكيين خمسين مليار دولار، موضحا ان اي ارقام اكبر من ذلك «مبالغ فيها». لكن حائز نوبل للاقتصاد جوزف ستيغليتز قال بعد ذلك ان الكلفة الحقيقية للحرب اقرب الى ثلاثة آلاف مليار دولار. وذكرت هيئة المحاسبة الامريكية ان خفض عدد الجنود الامريكيين في العراق سيسمح بتوفير 67 مليار دولار في السنتين القادمتين. وفي الواقع، لا يشكل عدد الجنود المنتشرين بالضرورة العامل الاكبر في كلفة العمليات، حسبما ذكر مركز ابحاث الكونغرس. المغالطة والكذب لا يظهر رغم تبدل الأشخاص الحاكمين في واشنطن وفي لندن أن هناك تحولا عن سياسات المغالطة والكذب وحملات التشويه المنظمة للخصوم. يوم 1 سبتمبر 2010 نشرت صحيفة «غارديان» البريطانية مقالا للكاتب سايمون جينكنز جاء فيه: «إن الرئيس الأمريكي باراك اوباما يغالط العالم عندما إعلن أن حرب العراق انتهت». «جزء من حصيلة هذه الحرب هي أن هناك مليونان من العراقيين خارج بلادهم كلاجئين هاربين من سبع سنوات من الفوضى، كما أن مليونين آخرين نازحون داخل وطنهم. ومما يبعث على السخرية أن كل المسيحيين تقريبا اضطروا للفرار. وما يزال انتاج النفط الذي هو العمود الفقري للصادرات العراقية تحت الحكم الغربي أقل من مستواه قبل الغزو، وتتلقى البيوت التيار الكهربائي لساعات اقل. وهذا أمر مرعب». «في العراق كان سبب الغزو كذبة اخترعها جورج بوش وتابعه الضعيف توني بلير. اتهموا صدام حسين بأن له علاقة بهجمات سبتمبر 2001 على نيويوركوواشنطن، ثم اخترعوا كذبة أسلحة الدمار الشامل، وبالتخطيط لهجمات بأسلحة «دمار شامل» بعيدة المدى. وبما أنه تبين لاحقا أن ذلك غير صحيح، فقد عرض المعتذرون عن بوش وبلير مقولة مفادها أن صدام حسين رجل سيء ولذلك كانت الإطاحة به عملا جيدا». ويضيف سايمون جينكنز «لقد تم إغراق لجنة تحقيق تشيلكوت البريطانية الخاصة بالتحقيق حول شرعية الحرب ضد العراق بالحكايات حول الاحتلال الأمريكي البريطاني على غرار ملاحم ويليام الفاتح في الشمال. وإن مما يصعب تصديقه أن تتصرف أي بيروقراطية في القرن الحادي والعشرين بهذه القسوة والتعطش للدماء. والحقيقة أن تلك البيروقراطية قد أعمتها سلطتها الامبريالية الجديدة. لكننا نخدع أنفسنا كثيرا، فالغرب ما يزال يديره زعماؤه، خاصة الجنرالات، الذين يستمتعون بأمجاد انتصاراتهم السابقة: القادة الذين يرفضون ان يصدقوا أن الامم الأخرى لها الحق في تدير شؤونها الخاصة بنفسها». «ويأتي الدرس الأكبر من العراق، اذ ان إسقاط آلاف القنابل، وخسارة أكثر من 5000 جندي غربي وإنفاق أكثر من تريليوني دولار بقيت الجيوش الغازية عاجزة عن التغلب على البندقية الرشاشة «اي كي-47» (كلاشنيكوف)، واجهزة التفجير اليدوية الصنع المزروعة على الطرق، والفدائيين، والنفور من الاحتلال. إن أمما ذات ثقافات مختلفة لا يمكن أن تحكم سبع سنوات بالجيش. بوش وبلير لم يفكرا في ذلك». «سينظر التاريخ إلى حرب العراق على أنها الكارثة التي كان لها أكبر دور في إبعاد القوى الأطلسية عن بقية العالم واسقاط مؤهلاتها كشرطي دولي». بطولات وهمية اسلوب الكذب خاصة في الحروب التي خاضها ويخوضها التحالف الأمريكي الصهيوني لم يقتصر على القضايا الكبيرة بل وصل إلى صغائر الأمور ومنها خلق قصص بطولات وهمية، تقول صحيفة الواشنطن بوست: «جيسيكا لينش: كانت جندية في العشرين من عمرها، وقال البنتاغون أنها أصبحت أسيرة حرب واشتهرت لاحقا بعد أن صورها جنود أمريكيون أثناء عملية الإنقاذ في إبريل عام 2003، ثم عادت إلى وطنها وحظيت باستقبال الأبطال، وحصلت على وسام النجمة البرونزية، وتم عرض فيلم بعنوان «إنقاذ المجندة جيسيكا لينش» على الهواء في نوفمبر عام 2003. أما الآن، فقد تقاعدت من العمل العسكري وتدرس التعليم الابتدائي في جامعة ويست فرجينيا. وفي العام 2007، أعلنت أمام لجنة تابعة لمجلس النواب أن الجيش كذب بشأن عملية أسرها، وأنه تم تصويرها باعتبارها «الفتاة الرامبو الصغيرة»، مشيرة إلى أن قصة وقوعها في الأسر وتحريرها ليست حقيقية». ويذكر أنه بعد جلسة استماع في الكونغرس قالت جاين هارمن، النائبة الديمقراطية عن كاليفورنيا، إن هذا يجعلنا إزاء «أكبر مناورة تضليل على مدى الأزمنة». آلة الدعاية الضخمة التابعة للمركب الصناعي العسكري نجحت في طمس الكذبة التي كان من شأنها أن تقود بالضرورة إلى محاكمات. نفس الأسلوب اتبع في طمس جرائم سجن أبو غريب وغيره من معتقلات العراق التي أمر بها وزير الدفاع الأمريكي السابق رامسفلد. الحرب النفسية تمتلك الإدارة الأمريكية وحلفائها، منظومة إعلامية هائلة ومحترفة في مجال الدعاية، سخرت على الدوام لتمرير مخططات الحروب، ولم تكتف بذلك وأنتجت وسائل ومفاصل وأدوات ناطقة بالغة العربية والمحلية للبلد المستهدف، بغية إدارة حرب التأثير لغزو العقول والقلوب، في معظم الصراعات ويخوض كل فريق متحارب الحرب النفسية للتأثير في تصورات القادة السياسيين والعسكريين والقوات العسكرية والمجتمعات، ودفعهم للقيام بإعمال في صالح الخصم. كما أن جوهر الأهداف الإستراتيجية للحرب النفسية، هو تدمير معنويات الخصم، وأضعاف الدعم المحلي والدولي للمجهود العسكري والسياسي والإعلامي له، أما على المستوى التكتيكي النيل من أرادته القتالية، وأضعاف قدراته وإجباره على الاستسلام وتحقيق الانهيار الإدراكي، ناهيك عن استخدام الوسيلة الأكثر انتشار «شبكة الإنترنيت» في ترويج الدعاية السوداء والرمادية وتضليل الرأي العام واستهداف القيادات والشخصيات الوطنية، كوسيلة للحرب النفسية ضد الشعوب والبلدان المستهدفة، والسعي الجاد لتطبيع الهزيمة وغرسها في نفوس الأجيال القادمة على الدوام. الحرب المعاصرة تستند على المنظومة الإعلامية الضخمة، والتي توجه البوصلة السياسية والفكرية للرأي العام في قبول فكرة العدو المقبل «صناعة العدو»، وأصبحت الاستراتيجية الإعلامية علم وفن يهدف إلى تحقيق الأهداف والغايات المخصصة في الاستراتيجية العليا الشاملة، وأضحت مطرقة الحروب، مع تعاظم عمليات التضليل المصنعة والمنحوتة في الأروقة والمؤسسات الإعلامية ذات الاختصاص. ويجري توظيف الخبرات الواسعة في مجال التلاعب والتضليل والتزييف والخداع والتأثير، مع الإسناد الشامل من «سينما الأمن القومي» التي تنحت العدو وترسخه في عقول الرأي العام، وتغزو القلوب وتسخرها لشرعنة الحروب وصياغتها كحروب دفاع، دون إظهار الجانب الأخر من الصورة الذي يتعرض للإبادة البشرية تحت وطأة الأسلحة المدمرة الفتاكة والتي تظهرها وسائل الإعلام بمنظر زاهي. لقد أصبحت الحرب الإعلامية والنفسية صفحة محورية ورئيسية في الصراع والحرب، ويلعب الإعلام دورا مهما في خفض الروح المعنوية للخصم، وإفقاده الثقة في قدراته وهدفه النبيل، وبث التفرقة والاحتراب في صفوفه. تشويه الخصوم كتب الباحث العراقي مهند العزاوي: «لقد عملت مراكز الإعلام الصهيونية في أمريكا على تعبئة الذاكرة الأمريكية بصورة مستمرة على تشويه العرب والمسلمين، ورسخت في عقول المواطن الأمريكي قبل وبعد الحرب ضد العراق أن إحداث 11 سبتمبر 2001 سببها العراق، وأسلحة الدمار الشامل وغيرها من المبررات المزيفة المضللة، ولم ينضج حتى الآن جيل سياسي وبحثي وإعلامي أمريكي خارج إطار هذه الصورة المعكوسة، لذا فالسياسة الأمريكية نتاج لعناصر داخلية، تتفاعل ضمن الأقطاب السياسية في اتخاذ القرار»المجمع العسكري الصناعي – الحزب الجهوري، الحزب الديمقراطي، الإيباك» وكذلك صناعة القرار من مراكز البحوث والإعلام والعلاقات العامة، ومجمع الشركات القابضة، كلها تشكل الإطار العام للسياسة الخارجية الأمريكية». تزامنا مع عملية إعادة تسمية أحتلال العراق أو «الفجر الجديد» بلغة نائب الرئيس الأمريكي طرح رئيس وزراء بريطانيا توني بلير كتابه الذي أقر فيه أنه لم يمكنه تصور ما سماه الكابوس الذي تداعت احداثه في العراق لكنه ما زال غير نادم على الانضمام الى الغزو الذي قادته الولاياتالمتحدة في 2003، وحاول بلير الدفاع عن جريمة غزو العراق مع عملية تمويه معبرا عن ألمه من خسائر تلك الحرب. وقد علق الصحفي الأمريكي جديون راتشمان الذي انطلق في كتاباته من صحيفة فاينانشال تايمز تحت عنوان «مذكرات توني بلير تنكأ جراح غزو العراق»: «غالبا ما يكون إطلاق الكتب البارزة مثل السيرك. لكن ليس هناك ما يضاهي مزيج الضجيج والكراهية التي يصاحب نشر مذكرات توني بلير». «قرر رئيس الوزراء السابق التبرع بجميع عائدات كتابه إلى الفيلق البريطاني الملكي، وهي جمعية خيرية للمحاربين القدامى. وربما تصل العائدات إلى خمسة ملايين جنيه استرليني. إلا أن بادرته هذه كانت محط سخرية واسعة النطاق. فقد تدفقت الانتقادات اللاذعة على بلير من كل من اليسار واليمين. واقتراح توني بارسونز، في صحيفة «ميرور» ذات الميول اليسارية، على «توني بلير أن يبتر أحد أعضائه ويتبرع به للفيلق البريطاني»، مضيفا أن هناك «أولادا سيظلون حبيسي الكراسي المتحركة طوال حياتهم بسبب هذا المنافق التقي الأصولي». وكتب ماكس هاستنغز في صحيفة «ديلي ميل» اليمينية أن «الخمسة ملايين جنيه استرليني التي سيتبرع بها بلير تهدف إلى منحه إحساسا بشعور أفضل»، وأشار إلى أن «هناك تقليدا قديماً يقضي بأن يمنح كبار المحتالين هبات سخية للأعمال الخيرية». ولعل رد الفعل هذا هو الذي دفع بلير إلى التوجه إلى الولاياتالمتحدة يوم إطلاق كتابه، لحضور حفل عشاء في البيت الأبيض، على صلة بمحادثات السلام في الشرق الأوسط. إنها إحدى المفارقات الغريبة في السياسة البريطانية الحديثة أن ينتهي الأمر بشخصين هيمنا طوال 30 عاما بلير والليدي تاتشر، رئيسة الوزراء المحافظة السابقة بأن يحظيا باحترام أكبر في الولاياتالمتحدة عما يحظيان به في المملكة المتحدة. مساومات أن الحقائق على الأرض تؤكد أن ما يحدث هو عملية إعادة تجميل للاحتلال لأهداف انتخابية لإدارة أوباما وأن الأسوأ مازال ينتظر بلاد الرافدين، خاصة أن واشنطن تساوم طهران على منحها دورا أكبر مقابل تنازل إيراني عن بعض حلفائها المحليين بالمنطقة العربية. ورغم أن عدد القوات الأمريكية انخفض كثيرا عما كان عليه في 2007 وهو 170 ألف جندي، إلا أن المزاعم حول أن مهمة نحو 50 ألف جندي أمريكي الذين سيبقون في العراق تنحصر فقط في تقديم التدريب والمساعدة والمشورة للجيش العراقي هو أمر يشكك في جديته. ما يحدث هو استخفاف بعقول الكثيرين بالنظر إلى إعلان وزارة الخارجية الأمريكية عشية انتهاء المهام القتالية أنه يجب تعويض النقص في عدد القوات الأمريكية بالمتعاقدين الأمنيين كشركة «بلاك ووتر»، هذا بالإضافة إلى إعلان قائد القوات الأمريكية في العراق الجنرال راي أوديرنو في 22 أغسطس أن بلاده مستعدة لاستئناف دورها القتالي في حال عجزت القوات العراقية عن ضبط الوضع الأمني. بل إن هناك من أشار إلى أن مهمة القوات الأمريكية المتبقية ستركز أساسا على القصف الجوي وعمليات الاغتيال كما يحدث في وزيرستان الباكستانية. لو كانت بغداد تقدر أن تسقط لكانت قد سقطت على يد هولاكو فلا تنهض مجددا. ولكنها نهضت. ومن كل مجزرة تالية، ظلت تنهض ولتنحر الغزاة الذين نحروها. وقد فعلتها بغداد، في تاريخها، 12 مرة. ومرة أخرى ستنهض عاصمة حضارة الستة آلاف عام.