عندما وصل باراك اوباما إلى سدة الحكم في البيت الأبيض في يناير سنة 2009 كان قد حدد مع طاقمه ومجموعات حكمه هدفين أساسيين فيما يخص التحديين الرئيسيين اللذين تواجههما الولاياتالمتحدة على الصعيد الخارجي، وهما أولا استكمال ما قدر سياسيون وعسكريون في واشنطن أنه الطريق الذي يقود إلى الفوز في العراق، وثانيا تحقيق النصر في الحرب في أفغانستان. على البوابة الشرقية للأمة العربية كانت تقديرات أوباما أن التكتيكات التي اتبعت في الأشهر الأخيرة من ولاية سلفه بوش والتي اعتمدت على سياسة تغليط بعض الأطراف العراقية خاصة في الوسط العشائري بشأن هوية قوى المقاومة العراقية وتجنيدها لقتالها في نطاق ما سمي بوحدات الصحوة، وإستغلال التقسيم الطائفي والعشائري والقومي إضافة إلى التحالفات الإقليمية لتشتيت وحدة وتماسك بلاد الرافدين، قد نجحت في ضبط وتحجيم قدرات المقاومة العراقية التي كادت تصل إلى نقطة الحسم في الحرب خلال سنة 2007. وعلى أساس هذا النجاح كانت خطط أوباما وفريقه تقوم على استكمال المسيرة، وضبط الأوضاع لصالح الإحتلال على الأرض العراقية خاصة عن طريق إتمام صفقة تقاسم النفوذ والغنائم مع ساسة طهران الذين تفاخروا مرارا وعلنا منذ أبريل سنة 2003 أنه لولا تعاونهم ومساندتهم لما تمكنت واشنطن من احتلال العراق. أوباما قدر أنه سيمكن تقليص الوجود العسكري الأمريكي في العراق إلى 50 الف جندي في نطاق وحدات تتمركز في القواعد الرئيسية الأربعة عشر الموزعة على التراب العراقي، وترك أمر ضبط الأمن ومواجهة المقاومة إلى قوى خليطة من المليشيات الطائفية المهيمنة كذلك على قوى الأمن والجيش، ووحدات الحرس الثوري الإيرانية، وينضاف إلى كل هؤلاء قوات المرتزقة التابعة لشركات الأمن الخاصة مثل بلاك ووترز الأمريكية ومثيلاتها البريطانية والإسرائيلية التي قدرت آخر احصائيات قامت بها منظمات مستقلة، عدد أفرادها بالعراق بحوالي 120 الف مسلح. الإعتماد المرتزقة أثار قلقا لدى عدد من دول الجوار ولكن البيت الأبيض لم يبال بذلك وهو ما دفع تركيا مثلا على التعبير عن معارضتها علنا، فيوم 23 يونيو صرح مدير المعهد التركي العربي للدراسات د. محمد العادل ليومية العرب اليوم، أن الشركات الأمنية الإسرائيلية في العراق خطر على الأمن القومي التركي خاصة من خلال نشاطها في منطقة كردستان العراقية، وأضاف أنه لولا التحرك التركي الصارم لكان مشروع الدولة الكردية في شمال العراق قاب قوسين أو أدنى، فالدبلوماسية التركية هي التي أثنت الإدارة الأمريكية على الأقل مرحليا عن مساندتها لمشروع الدولة الكردية، وأضاف ندرك تماما أن أنقرة كانت تتحرك وفق مصالحها أولا وحاجة أمنها القومي لكنها بذلك خدمت وحدة العراق. سحب القوات الأمريكية إلى مواقع آمنة المشروع الأمريكي في العراق في عهد أوباما يقوم على تجنيب قوات بلاده خسائر بشرية مع أي طرف من المقاومة العراقية عن طريق تحديد وجود الخمسين ألف جندي الذين سيبقون في القواعد المحصنة ولا يغادرونها إلا في حالة الضرورة القصوى، وبهذا الأسلوب لا يتعرض الساسة في البيت الأبيض لضغط شعبي محلى لسحب الجنود من العراق. وقدر محللون أنه لو قلصت الخسائر البشرية الأمريكية في العراق سواء بسبب عمليات الخصوم أو ما يسمى بالحوادث العرضية إلى ما دون ال 40 قتيل سنويا، فإن الرأي العام الأمريكي سيتقبل الوضع خاصة إذا نجحت الحكومة الأمريكية وشركاتها متعددة الجنسية في استغلال جزء مهم من بحر النفط العراقي المقدر احتياطيه بأكثر من 480 مليار برميل بعد أن كان محددا رسميا قبل غزو 2003 ب 114 مليار برميل. يظهر أن هذه التمنيات لا يمكن تحقيقها فيوم الخميس 17 يونيو 2010، ذكرت صحيفة «واشنطن تايمز» إن وزارة الخارجية الأمريكية طلبت من وزارة الدفاع تشكيل «جيش صغير» في العراق لحماية الدبلوماسيين الأمريكيين عقب انسحاب القوات الأمريكية في 2011 وتجمعها في قواعدها المحلية. وطلبت الوزارة قائمة بالأسلحة الثقيلة والطائرات التي يجب أن يمتلكها هذا الجيش، مما يعني أن الخارجية لا تعول كثيرا على أجهزة الأمن العراقية في هذا الأمر رغم ملايين الدولارات التي صرفتها عليها. وأشارت الصحيفة إلى أن الخارجية طلبت من البنتاغون أن تلعب الشركات الأمنية الخاصة دورا في حماية الدبلوماسيين، وهذا يشكل تحديا لتعهدات الرئيس الأمريكي بعدم الاعتماد على هذه الشركات. السراب الحديث عن تحقيق نصر أو على الأقل تجنب هزيمة أمريكية في العراق يظهر الأن في النصف الثاني من سنة 2010 بمثابة سراب يضمحل تحت أشعة شمس تغرب. يوم 23 يونيو 2010 كتب المحلل باتريك كوكبيرن في صحيفة «الاندبندنت» البريطانية : «بعد سبع سنوات على اجتياح الولاياتالمتحدة وبريطانيا للعراق، ما زالت البلاد غير مستقرة ومنقسمة بشكل كبير. لا شيء من هذا واضح جدا للعالم الخارجي، لأن السياسة الأمريكية منذ 2008 كانت إعلان نصر شهير وسحب قواتها. هذا الأسبوع، انخفض عدد القوات الأمريكية الى 92 ألفا، ولأول مرة أصبح أقل من عدد الجنود الأمريكيين في أفغانستان. الجيش الأمريكي يريد الحفاظ على أسطورة أنه قد حول الحرب في العراق، بطريقة ما، الى نصر من خلال «الزيادة العددية» ثم خرج بنجاح من الصراع. كان هذا الزعم مبالغا فيه دوما. التمرد على الاحتلال الأمريكي ترسخ بين جماعات السنة العرب، وحينما هزمته الحكومة وقوات الميليشيا الشيعية في 2006 - 2007، لم تكن هناك خيارات كثيرة بالنسبة للسنة سوى البحث عن تسوية مع الأمريكيين. التغير الأهم في العراق كان يتعلق بنتيجة الصراع السني الشيعي أكثر من الابتكارات التكتيكية للجيش الأمريكي. لهذا السبب، يكتشف الجنرالات الأمريكيون أن «الزيادة العددية» في أفغانستان هذا العام، والمفترض أن تنافس النجاح في العراق، تظهر هذه النتائج المخيبة للآمال». هيمنة الجيش على السياسة الخارجية على الذراع المدني للحكومة الأمريكية تعززت بالحرب في العراق. ويضيف باتريك كوكبيرن: سلطة النخبة الحاكمة الحالية في العراق يمكن أن تكون مؤقتة. إذ يبدو أن العديد من اللاجئين العائدين مع غزو 2003 يرغبون في نهب ما يقدرون عليه في أسرع وقت قبل أن يرحلوا الى أوروبا والولاياتالمتحدة، أو إلى إي عاصمة عربية تتعاطف معهم. يمكن أن يخلفهم أشخاص أكثر كفاءة. ولكن الفشل في تشكيل حكومة جديدة والاعتقاد المتزايد بأن الحكومة الحالية غير شرعية، تجعل العراق مضطربا لدرجة لا تمكنه من بناء نفسه من جديد». خلال شهر يونيو 2010 صنفت دراسة صادرة عن معهد الاقتصاد والسلام في أستراليا، العراق في آخر سلم الدول الأكثر أمنا من بين 149 دولة، مستندة في ذلك إلى عدة عوامل تشمل مستويات العنف و»الإرهاب» والجريمة المنظمة وعدد اللاجئين. المحللون الغربيون الذين يطعنون في المقولة الأمريكية عن قرب الحسم في العراق، أكدوا أن هذه الدراسة كافية لدحض كل الإدعاءات عن النصر الأمريكي، وأشاروا أن ما نجح البنتاغون في تحقيقه هو تخفيض خسائره المعلنة بينما يجري طمس جزء كبير من خسائر حلفاء القوات الأمريكية في العراق خاصة هؤلاء الذين ينتمون إلى شركات الأمن الخاصة أو وحدات الحرس الإيرانية ومختلف المليشيات الطائفية. من جانبها وصفت أوساط حليفة للبيت الأبيض التقرير بالمبالغ فيه. بيئة حربية الخبير الأمني العراقي اللواءالمتقاعد مهند العزاوي ذكر أنه لا يرى أية مبالغات في الأمر. وقال إن البيئة العراقية بيئة حربية لأنها «تخضع لوجود قوات الغزو أولا، ووجود النفوذ الإيراني المتمثل بالنفوذ المليشياوي والمخابراتي ثانيا، ناهيك عن انتشار عصابات الجريمة المنظمة الموجودة على أرض العراق التي باتت تصعد من عملياتها بشكل كبير». وذكر أن هناك بعض السياسيين العراقيين في السلطة «مرتبطون بمليشيات» وأن قسما آخر «ذو خلفية مافياوية مما يدفعه إلى استعادة خلفيته بهذا المجال على أرض العراق». وأكد العزاوي أن طبيعة القوانين والقوى السياسية التي شكلها الاحتلال هي التي تغذي العنف، خصوصا إذا علمنا أن إستراتيجية الأمن القومي بين عامي 2007 و2010 تضع المواطن العراقي في مقدمة التهديدات الأمنية كما تضعه بين قوسين تحت لافتة الإرهاب. وقال إن أرض العراق أصبحت ساحة صراع من أجل أجندات دولية وإقليمية لتحقيق إراداتها على حساب المواطن العراقي وأمنه. واستبعد العزاوي استقرار الوضع الأمني بعد تشكيل الحكومة القادمة، قائلا إن الانتخابات الأخيرة لم تفرز شيئا جديدا، بل هي نفس الوجوه والشخصيات ونفس الطبقة السياسية، التي صنعها الاحتلال وتخضع لأوامره، وهي نتيجة المحاصصة الطائفية التي أوجدها الاحتلال». مع بداية صيف سنة 2010 بدأت عملية تجنيب القوات الأمريكية في العراق تكبد خسائر في عمليات قتالية تتعرض لنكسات، فيوم 11 يونيو 2010 اعلن الجيش الامريكي مقتل اثنين من جنوده واصابة ستة آخرين بجروح بهجوم انتحاري بواسطة سيارة مفخخة في منطقة جلولاء بمحافظة ديالى، التي تبعد مسافة 160 كلم شمال شرق العاصمة العراقية، ويسكنها خليط من العرب السنة والاكراد. بعد ذلك بأيام أعلن البنتاغون عن مقتل جندي آخر فيما سماه حادث عرضي. وبذلك، يكون ما مجموعه 4406 جنود او عاملين مع الجيش الامريكي قد قتلوا او لقوا حتفهم في العراق منذ اجتياحه ربيع العام 2003، بحسب ارقام البنتاغون. أرقام اللغط الأمريكي عن التقدم في العراق تنفيه كل الأبحاث والتقارير المحايدة. فهذا القطر العربي فقد جيل المستقبل خلال أبشع عملية تصفية في القرن الحادي والعشرين. حيث أنه إذا رجعنا الى النسب المسجلة من منظمات ولجان واقسام خاصة بحقوق الانسان والمراصد الخاصة بمنظمات العفو الدولي والمفوضية التابعة للامم المتحدة لوجدنا ارقاما تشيب لها الولدان وتذهل العاقل وتحير المفكر، فمثلا يوجد الآن خمسة ملايين طفل يتيم في العراق كما يوجد خمسمائة الف مشرد منهم وتوجه نحو مليون منهم الى العمل، كما ان 28 في المائة منهم يعانون سوء التغذية و10 في المائة مصابون بامراض مزمنة واكثر من 40 في المائة من دون رعاية صحية، وازدياد حالات التشوه المزمن يصل الى 15 ضعف عما كان في الاعوام الماضية وخاصة في مدينة الفلوجة، كما ادى ذلك الى ارتفاع حالات السرطان في مقتبل الحياة، وأن من بين 170 حالة ولادة توفي 24 في المائة منهم خلال سبعة ايام و75 في المائة كانوا مشوهين. وبلغ عدد الأميين أكثر من 5 ملايين طفل في حين أنه مقارنة مع عام 1991 تم القضاء على الامية، وتفيد التقارير أن أقل من 30 في المائة من التلاميذ يذهبون الى المدارس. وأكدت الأممالمتحدة في لجنة حقوق الانسان أن اكثر من 25 في المائة من اطفال العراق يعانون عدم توفر الطعام مما يسبب سوء التغذية وأن أكثر من مائة الف طفل عراقي لقوا حتفهم منذ بداية الغزو، كما جاء في دراسة مدير برنامج الطوارئ في رعاية الطفل التابع للامم المتحدة أن ما يقرب من 2 مليون طفل مهجرون او لاجئون خارج العراق حيث يشكلون نصف اللاجئين في الخارج. ثورة الكهرباء يوم 24 يونيو جاء في إفتتاحية جريدة العرب التي تصدر في لندن تحت عنوان «ثورة الكهرباء.. مدخل حقيقي إلى تحرير العراق». «أكثر من سبع سنوات مرت على احتلال العراق، ولم ينجح الغزاة الأمريكيون والبريطانيون والإيرانيون في مسعاهم لفرض الأمر الواقع وتحقيق استقرار يوفر لهم الفرصة ليهيمنوا على آبار النفط ويتلاعبوا بالمال العراقي في مسرحية إعادة الإعمار التي تساوي النهب والسرقة والرشاوى. لا شيء يسير باتجاه الأفضل، والمفارقة أن لعنة الفشل تطارد الغزاة من داخل المنظومة التي خلقوها والآليات التي وظفوها لتأبيد الغزو وإدامة النهب وتكريس الاقتتال المذهبي والطائفي. فالعملية السياسية التي أريد لها أن تضفي شرعية على الاحتلال، وألبست لبوس الديمقراطية والتعددية أصبحت الآن عنوانا للفشل التام، فهي تصيب الحياة السياسية والقانونية والمدنية والأمنية بالشلل التام في ظل غياب حكومة تمتلك الصلاحيات القانونية والدستورية لممارسة دورها. إن الصراع على رئاسة الوزراء، الذي فرض فراغا دستوريا منذ قرابة أربعة أشهر، يخفي صراعا أكبر ومعارك أشرس للي الذراع بين مختلف القوى المرتبط بالاحتلالين الأمريكي والإيراني، فرغم التحالف الانتهازي الذي تم لفرض الاحتلال والإطاحة بالنظام الشرعي سنة 2003، إلا أن طهرانوواشنطن يحاول كل منها ربح مواقع على حساب الآخر. فإيران التي تقول إن تحالفها مع «الشيطان الأكبر» كان الهدف منه استدراجه إلى مستنقع العراق حتى يتسنى لها إلهاؤه، تحاول الإمساك بالمفاصل الكبرى للعملية السياسية وقد فرضت لأجل ذلك على مختلف الأطياف الشيعية أن تصطف في تحالف واحد رغم ما بينها من صراع وتناحر حول الزعامة والمال العام والنفط. أما الاحتلال الأمريكي فيبحث عن قشة نجاة توصله إلى استقرار يمكنه من انسحاب باتجاه القواعد العسكرية التي بناها في أرض العراق وفي دول الخليج العربي. وبمقابل سعي الاحتلال الأمريكي للدفع باتجاه «الاستقرار» الأمني والسياسي، تعمد المليشيات المرتبطة بإيران إلى توتير الوضع الأمني وذلك من خلال تفجيرات عبثية عادة ما تسند إلى تنظيم «القاعدة» أو من خلال التصفيات المنظمة لفرق ومجموعات الصحوات. ونعتقد أن الفراغ الدستوري سيستمر طويلا وأن المستقبل القريب سيشهد عودة قوية للحرب الطائفية المحركة بإتقان أمريكيا وإيرانيا، وستستفيد هذه الحرب من الواقع الاجتماعي المتردي في بلد ينهض على الكثير من الخيرات والإمكانيات. ولعل «معركة الكهرباء» هي أولى شرارات الحرب في ظل تقارير دولية تضع العراق في مراتب متأخرة جدا من حيث الفساد المالي والإداري، والوضع المعيشي المتردي، وغياب أدنى شروط الحياة الكريمة ومختلف حقوق المواطن العراقي. وفي ظل هذه الصورة المتردية ينتظر العراقيون الفرج من مقاومة وطنية تحسن توظيف الصراعات القائمة لفائدتها وتستثمر كراهية العراقيين للاحتلال وما ارتبط به من مشاريع وأحزاب ومؤسسات، والحقيقة أن «ثورة الكهرباء» التي تعم مختلف المناطق يمكن أن تكون شرارة التحرير، فالعراقيون، بمن في ذلك الذين أداروا ظهرهم للسياسة وملوا من صراعات الكراسي، تأذوا من الاحتلال والحرب العبثية التي تخوضها الفصائل والمليشيات المرتبطة به. فلدى كل عراقي قصة ألم ومعاناة في ظل أرقام مذهلة عن أعداد القتلى، والجثث المجهولة، والأرامل، واليتامى، والمشردين، ولا أحد بالعراق يريد أن تستمر المعاناة إلى ما لا نهاية، فهل تستطيع المقاومة الوطنية أن تلعب على تناقضات المحتلين وعلى الغضب الشعبي العارم ضدهم لتكثف جهدها المقاوم عسكريا وسياسيا وإعلاميا وتكون في مستوى المهمة التي ينتظرها الشارع العراقي؟. الأمل كبير في هذه المقاومة التي كان لها الفضل في إرباك الاحتلال الأمريكي ودفعه إلى استعجال الانسحاب بكل الوسائل على أن تضع مهمة التحرير أولى مهماتها وألا تستغرق جهدها ووقتها في الصراعات الهامشية لتصبح من حيث لا تشعر أداة أمريكية أو إيرانية مثل ما جرى للصحوات التي تحولت بين عشية وضحاها من مجموعات مقاتلة ضد الاحتلال إلى أدوات بيده يصفي بواسطتها الرموز الوطنية المناهضة لوجوده». أفغانستان أو مقبرة الإمبراطوريات في الوقت الذي تقدر فيه عدة مصادر رصد بما فيها تلك الموجودة في ألمانيا نهاية ما تعرفه مصادر أمريكية بمرحلة الإنتقال من جو الهزيمة في العراق إلى السبيل الذي يقود إلى النصر، تعقدت الأوضاع بالنسبة لتحالف «إيساف» أو حلف الاطلسي وما يحب الغربيون وصفه بالتحالف الدولي في أفغانستان، ووصلت إلى نقطة تحول يمكن أن تكون عملية تسارع العد العكسي لنهاية الوجود الأجنبي العسكري في بلاد جبال الهندوكوش. أجبر الجنرال الامريكي ستانلي ماكريستال قائد القوات الغربية في افغانستان على الإستقالة يوم الأربعاء 23 يونيو أثر نشر مجلة «رولينغ ستون» انتقادات ساخرة له عن اوباما وكبار مساعديه فيما يخص تسيير الحرب في أفغانستان. وسخر ماكريستال وأعوانه في المقالة التي خصصتها له المجلة تحت عنوان «الجنرال الخارج عن السيطرة»، من نائب الرئيس جو بايدن ووصفوا مستشار الأمن القومي في البيت الابيض جيمس جونز بأنه «مهرج»، كما عبروا عن «خيبة أمل» ماكريستال أثر لقائه الاول مع اوباما. وحسب المجلة، وجه ماكريستال نفسه انتقادات ساخرة الى الموفد الخاص الامريكي الى افغانستان وباكستان ريتشارد هولبروك، كما قال أنه شعر بأنه تعرض «للخيانة» من قبل السفير الأمريكي في كابل كارل ايكنبري حين وجه الاخير انتقادات مباشرة الى استراتيجيته الحربية. وكتب الصحافي مايكل هاستينغز الذي وقع مقالة رولينغ ستون، ان فريق ماكريستال يتألف من «مجموعة من القتلة والجواسيس والنوابغ والوطنيين والمحنكين سياسيا». وقال له الجنرال «اموت من أجلهم ويموتون من أجلي». وكان ماكريستال مهندس سياسة ارسال التعزيزات إلى افغانستان. فقد أقنع الرئيس باراك اوباما بارسال 30 الف جندي اضافي (طلب ارسال 40 الفا). لكنه قال أنه وجد فترة التفكير الطويلة التي سبقت قرار الرئيس اوباما «مضنية». ولم يبذل الجنرال مجهودا لاخفاء التوتر مع البيت الابيض، وهي توترات ظهرت للملأ في الخريف الماضي عندما انتقد وجهات نظر نائب الرئيس جو بايدن حول استراتيجية التصدي للتمرد. فاستدعاه الرئيس اوباما آنذاك على متن الطائرة الرئاسية اير فورس وان لتذكيره بضرورة التقيد بالقوانين. وكالة فرانس برس ذكرت أن العديد من منظمات حقوق الإنسان تعتبر ستانلي ماك كريستال مجرم حرب حيث أنه عندما كان قائدا عاما للقوات الأمريكية الخاصة ولمدة خمسة اعوام عاث فسادا في العراق قبل أن ينقل ليصبح قائدا عاما في أفغانستان في عام 2009 بعد عزل سلفه الجنرال ديفيد مكيرنان بسبب ما فسره معظم الخبراء على أنه نفاد صبر واشنطن ازاء الفشل العسكري لقيادته في مواجهة طالبان. ونقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عن بروس ريدل المتخصص الإقليمي بمؤسسة بروكينغز الذي ساعد فى صياغة استراتيجية الإدارة الامريكية الأولى المتعلقة بأفغانستان في مطلع 2009 قوله.. إن الأمور لا تبدو جيدة وليس هناك مؤشرات كافية إلى التغيير الذي يأمله الناس. ونقلت الصحيفة عن مسؤول عسكري رفيع قوله: إن ظن أي أحد أن مسألة قندهار ستحل هذه السنة فهو بالطبع يكذب على نفسه وقال مسؤول آخر رفيع المستوى في الإدارة الامريكية إن هناك أشخاصا يريدون دائما إعادة النظر في الاستراتيجية. ولفتت الصحيفة إلى أن الجنرال ستانلي ماكريستال، قال قبل إقالته إن العمليات في قندهار، معقل حركة طالبان ستجري بأقل سرعة مما كان مخططا لها. ونقلت أيضا عنه قوله أنه شعر أنه «تعرض لخيانة» من خلال تسريب برقية سرية من السفير الامريكي لدى افغانستان كارل ايكينبري في عام 2009 حيث أثارت الشكوك بشأن فعالية ارسال مزيد من القوات. وكانت صحيفة نيويورك تايمز الامريكية قد ذكرت قبل ذلك أنه بعد ستة أشهر من اتخاذ الرئيس أوباما قرارا بإرسال قوات إضافية إلى أفغانستان فإن التقدم البطيء في الحرب «بلور توترات داخل الإدارة بشأن صلاحية و قابلية تطبيق خطته لبدء الانسحاب بحلول يوليو2011». انقسام خلال شهر يونيو 2010 رفض جيف مولر المتحدث بإسم وزارة الدفاع الامريكية خلال مؤتمر صحفي تلميحات بوجود انقسامات داخل الجيش والإدارة حول استراتيجية الحرب في افغانستان وقال إن أي فجوة بين وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس ورئيس هيئة الأركان المشتركة مايك مولن حول الأهمية الاستراتيجية لتأمين قندهار هي في الأساس لغوية وليست جوهرية. من جانبه اكد مولن أمام الكونغرس الأمريكي أن الحملة العسكرية على مدينة قندهار الجنوبية ستكون حاسمة بالنسبة للحرب كلها. يرى بعض المحللين أن الخلاف بين ماكريستال وقادة البيت الأبيض يعكس «تمردا» من الجهاز العسكري الأمني الأمريكي على السلطة الموصوفة بالمدنية، ويخشى أن تكون تلك الأحداث مؤشرا على تزايد احتمالات خروج الجيش عن لعبة التوازن مع السياسيين وذلك في تحول جذري جرى تسجيل مثيله في عدد من الأنظمة السياسية التي واجهت هزائم متكررة وأفول نجمها كقوة كبرى إقليمية أو عالمية. وقد حرص البيت الأبيض بعد إبعاد ماكريستال على التشديد على ضرورة احترام تحكم الإدارة السياسية في الجهاز العسكري. لكن يبقى أن تجروء الضابط أمريكي على الرئيس حدث استثنائي فريد لا يمكن تصوره في دولة تجاهر بديموقراطيتها التي يأتمر فيها العسكر من السلطة المدنية ويتبعون تعليماتها الحرفية، لا سيما أن ذلك الجنرال البارز كان يجاهر بولائه الديمقراطي وبصوته الذي منحه إلى أول رئيس أسود في تاريخ أمريكا. يقدر محللون أن وراء تمرد الجنرال عدة أسباب غير أن أهمها أن ذلك الرجل أراد أن يتبرأ من هزيمة لا مفر منها في أفغانستان. فالجنرالات نادرا ما يدلون بآرائهم، ولكنهم لا يفعلون ذلك من دون ان يكونوا واقعين تحت ضغوط ميدانية حقيقية. وبينما رحب العديد من اعضاء الكونغرس بتعيين الجنرال ديفيد بترايوس في محل ماكريستال واعتبروه «نصرا للحكمة»، فما أفلت من الملاحظة هو ان الجنرال بتريوس هو المسئول عن ماكريستال بوصفه قائدا للقيادة المركزية المسئولة عن الحربين في العراق وافغانستان معا. أي أن لا نصر، في المسألة، ولا حكمة. بل مجرد لعبة كراسي موسيقية في ظل أزمة يبدو ان الولاياتالمتحدة لا تعرف كيف تخرج منها. يوم الخميس 24 يونيو حاول ساسة البيت الأبيض استبعاد هذه التقديرات، حيث نفى وزير الدفاع الامريكي روبرت غيتس ان تكون الولاياتالمتحدة قد فشلت في احراز تقدم في أفغانستان وقال أن القوات التي يقودها حلف الاطلسي تحقق بعض التقدم. وأعرب غيتس في رسالة إلى القوات والحلفاء و»الخصوم» عن تأييده للتغيير في قيادة الجيش، إلا أنه قال أن ذلك لا يعني أي تغيير في الاستراتيجية أو في التزام واشنطن بالحرب في افغانستان. وقد غادر الاميرال مايك مولن رئيس هيئة الاركان المشتركة الولاياتالمتحدة الخميس للقيام بجولة في افغانستان وباكستان لطمأنة قادتها على أن استراتيجية واشنطن لن تتاثر برحيل ماكريستال. وأعرب مولن عن تاييده لقرار اوباما اقالة ماكريستال وقال ان تلك الخطوة كانت ضرورية لاثبات ان الجيش الامريكي لا يزال مؤسسة «محايدة» مسؤولة أمام السلطات المدنية. وفي وصفه للتحدي الذي تمثله المهمة في افغانستان, استشهد مولن بما قاله القائد الجديد في افغانستان الجنرال ديفيد بترايوس بأن المهمة «صعبة ولكنها ليست مستحيلة». وجاءت الضجة على تصريحات ماكريستال في الوقت الذي تواجه ادارة اوباما شكوكا جيدة في الكونغرس بشان سير الحرب التي لا تلقى شعبيه في الولاياتالمتحدة. وقد كان شهر يونيو 2010 اكثر الاشهر دموية بالنسبة للقوات الاجنبية التي تقودها الولاياتالمتحدة في الحرب المستمرة منذ تسع سنوات، حسب احصاءات وكالة فرانس برس. وقتل 79 جنديا اجنبيا حتى يوم الخميس 24 يونيو في الحرب الأفغانية، حسب الاحصاءات التي تستند الى موقع «ايكاغوالتيز.كوم» المستقل، ليبلغ 1870 عدد الجنود الاجانب الذين قتلوا منذ بدء الحرب في افغانستان في اواخر 2001. تسييس المؤسسة العسكرية ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» أن على اوباما أن يواجه معركة مع الجيش الذي يشعر أنه استغله لزيادة عدد القوات من خلال التسريبات والتعليقات العامة. غير أن معضلة اوباما تظل قائمة حتى بعد تخلصه من ماكريستال من ناحية ان هذا الرجل دافع عن استراتيجية افغانستانالجديدة وصممها لتقوم على جانبين مدني وعسكري، أي مكافحة طالبان من جهة واكتساب قلوب وعقول الافغان. ونقل عن ماكريستال تعليقه لأحد مساعديه أن مكافحة التمرد عسكريا استراتيجية غير ناجحة وأضاف أن «الروس قتلوا مليون افغاني ولم تنجح الاستراتيجية». ولاحظ تحليل في صحيفة «لوس انجليس تايمز» أن هناك دافعا لمقارنة انتقادات ماكريستال لاوباما بتلك التي وجهها الجنرال دوغلاس ماك ارثر للرئيس ترومان اثناء الحرب الكورية قبل ستين عاما، لكن ما حدث في يونيو 2010 يشير إلى التغييرات التي حصلت داخل المؤسسة العسكرية خاصة القيادة التي تعرضت للتسييس. وتشير الصحيفة إلى أن الجيش ظل في الأمور السياسية على الحياد وحتى عام 1976 حيث ظل قادته يقدمون انفسهم على انهم «مستقلون» لكن حرب فيتنام ومحاولات الحزب الديمقراطي تحدي الاجماع حول الحرب الباردة بدأ قادة الجيش بالتخلي عن استقلاليتهم، وزاد الأمر مع وصول رونالد ريغان إلى السلطة حيث زادت نسبة المؤيدين للحزب الجمهوري من 33 بالمائة إلى 54 بالمائة عام 1984. وبحلول عام 1996 وصلت نسبة كبار الضباط المؤيدين للجمهوريين الى 67 بالمائة. ويتوقع التحليل تواصل عمليات تسييس الجيش وتعتمد على ارقام من اكاديمية ويست بوينت. وتشير النسب الى ان عددا من قادة الصف (نسبة 65 بالمائة) يرون انه من المقبول تحدي قادتهم المدنيين والخروج علنا وانتقاد سياسات يرون انها تصب في مصلحة الجيش مقارنة مع نسبة 29 بالمائة ترى غير ذلك. وبناء على هذا ترى الصحيفة انه بدلا من الاصرار على استقالة ماكريستال على الرئيس اوباما الطلب من قادة الجيش التفكير بمبادئ الدستور ورأت ان هناك حاجة الى لجنة رئاسية لدراسة العلاقة بين الإطار العسكري والمسؤولين المدنيين وهو ما تراه الرد المناسب لتسارع عمليات التسييس في الجيش الامريكي. يجب أن لا ينسى أحد أنه قبل عملية عزل الجنرال ماكريستال قام أوباما في شهر يونيو 2010 بعزل مدير المخابرات الوطنية دينيس بلير بعد أن قضى ستة عشر شهرا في هذا المنصب وعين مكانه الجنرال المتقاعد جيمس كلابر فيما اعتبر انعكاسا لصراع في واشنطن بين الأجهزة المتحكمة في أمن البلاد. النهاية الآن مهما كان اتجاه النقاش، فالواضح أن الحرب في العراق وأفغانستان ومع نهاية العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين تسير في عكس الاتجاه الذي حدده هؤلاء الذين أرادوا رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط الكبير. واستعيد هنا بتصرف كلمات صحفي عراقي قال: من يعتقد ان العراق وأفغانستان لقمة سهلة سائغة يمكن ابتلاعها بسهولة فهو واهم. ومن يصر على الحاق الاذى بالشعبين العراقي والافغاني تحت ذريعة «القاعدة» فهو يخفي بذلك حقيقة اخذت تتوضح يوما بعد آخر تؤشر إلى أن هناك «مسرحية من صنع» سي اي ايه» تهول شيئا فشيئا وتنفخ في مجهول اسمه «القاعدة» التي هي اساسا من صنع وابتكار هذه المخابرات وان الحملات العسكرية الامريكية ستتواصل تحت هذه الكذبة واصبحت مشروعة ويتقبلها الكثيرون في أية بقعة تختارها في العالم والحجة «متوفرة انها القاعدة والارهاب» ومن يعترض على ذلك فسوف تلاحقه لعنة الارهاب والارهابيين اينما يولي وجهه. الذين يوجهون الحروب الأمريكية لا يأبهون للتاريخ كثيرا، لكن الذي يقرأ التاريخ ينبغي أن يعلم أن العراق وأفغانستان كانا مقبرة لكثير من الإمبراطوريات التي غزت العالم من قبل، لكن لم يستقر لها مقام في العراق أو أفغانستان، فهل يعتبر أوباما بمن سبقه، أم سيضيف اسم بلاده لقائمة الإمبراطوريات المهزومة.