فكري الأزراق كدت السنوات الأخيرة أن اقتصاد المغرب غير قادر على تبوأ مكانة الاقتصاد الصاعد الذي يتميز بقدرته على امتصاص الهزات الاجتماعية القوية ، ومواجهة التحديات الخارجية المتمثلة في البترول والقمح والنسيج ... والحفاظ الصعب على التوازنات الاقتصادية ، فالاختيارات والقرارات الخاطئة أحيانا والعشوائية أحيانا أخرى على امتداد الثلاثة عقود الأخيرة لعبت دورا رئيسيا في عدم ضمان الأمن الغذائي والكهربائي بالمغرب، فما هي المؤشرات التي تبعث على القلق؟ وأين موقع الريف من الأزمة الطاقية والغذائية بالمغرب؟ وما هي أسباب هذه التخوفات؟ ... بوادر أزمة غذائية تخيم على المغرب: إلى حدود سنة 1974 كان الميزان التجاري المغربي يتوفر على فائض ومنذ ذلك الحين حتى يومنا هذا تكرس العجز وظل يتسع ولا زال، ومن ثم لم يتحقق ولو هدف تحسين الصادرات لجعلها قاطرة للنمو ، ومع حلول مرحلة التكييف الهيكلي وقع تحرير بعض القطاعات وكانت الغاية جعل القطاع الخاص يمتلك زمام المبادرة ويستفيد من الإمكانيات التي تتيحها السوق الحرة للاستثمار لتكييف الإنتاج لكن في الأخير خرج المغرب بخفي حنين (لا حمار لا سبع فرانك) فلا الصادرات شكلت قاطرة تجر المغرب نحو تحسين الأوضاع المعيشية لأوسع الفئات ولا هو حافظ على درجة تبعث على الاطمئنان بخصوص الأمن الغذائي بالمغرب. في منتصف التسعينات قيل أن المرحلة تستدعي وضع إستراتيجية فلاحية للتنمية القروية ، وكان كل وزير يأتي بتصوره الخاص ويثبته في وثيقة يكون مآلها السبات في رف من رفوف أرشيف الوزارة ، إلى أن وصل المغرب إلى وضعية "حيص بيص" بامتياز ففي مرحلة الحبيب المالكي كان يقال أن المغرب بلد فلاحي وجاء إسماعيل العلوي وقال أن المغرب ليس بلدا فلاحيا وتلاه آخر بتصور آخر، دون أن يبلور أي منهم إستراتيجية واضحة المعالم ومحددة المقاصد والغايات قادرة على الاستجابة لانتظارات أوسع الفئات بالمغرب والضامنة لأمنه الغذائي لتخليصه من التبعية البنيوية للخارج في هذا المجال. في ظل هذا الارتباط ضاع مفهوم الأمن الغذائي إلى أن حلت سنة 2005 ، فكانت الضربة القاضية حين وقع المغرب اتفاقية ترهن مستقبل المغرب والمغاربة وفلاحتهم وغد الفلاحين ، وذلك دون الانطلاق من رؤية واضحة ، لقد وقع المغرب اتفاقيات ستتحكم في مساره لمدة طويلة وهو أعزل لا يتوفر على أي سلاح للتمكن من الدفاع على نفسه عندما تقضي الضرورة بذلك. وهذا ما جعل بلادنا لم تستطع تحقيق الاكتفاء الذاتي من المواد الغذائية لحدود اليوم ، مما أدى إلى مفاقمة الميزان التجاري المغربي والارتفاع الصاروخي لأسعار المواد الغذائية خاصة تلك المحتلة لموقع مركزي في منظومة استهلاك أوسع الفئات ، وكان "صلاح الدين مزوار" وزير الاقتصاد والمالية قد أكد في تصريح له أن المغرب سيستورد ما بين 30 و 50 مليون قنطار من القمح حتى متم سنة 2009 نظرا للمستوى المنخفض للإنتاج الوطني مقارنة مع الحاجيات الملحة. الريف ومشكل الأمن الغذائي: يبدوا أن منطقة الريف تعيش أزمة غذائية بنيوية على غرار باقي المناطق المغربية اعتبارا لعدم تمكنها من تحقيق الاكتفاء الغذائي الذي طالما نادت به العديد من الأصوات منذ الاستقلال فعلى الرغم من عدم توفر معطيات دقيقة حول الأوضاع المعيشية بالمنطقة التي تعرف أكبر معدلات الفقر على الصعيد الوطني،( حيثتصل إلى% 16.5 في المجال القروي مقابل %13.11 في مجموع البلاد ، ومعدلات الفقر في الوسط الحضري تصل إلى %10.1 مقابل %7.6 في كل المناطق المغربية حسب إحصائيات المندوبية السامية) فإن هناك جملة من المؤشرات تؤكد أن المنطقة بدأت تعيش وضعية سوء تغذية لكن لا يتم الحديث عنها ، منها مثلا تكريس التبعية الغذائية للخارج حيث لا زال الأمن الغذائي بالمغرب عامة مقرونا بواردات المواد الغذائية من الخارج، والريف بدوره منخرط في هذه التبعية الغذائية فرغم آلاف الهكتارات من الأراضي السقوية بالريف الشرقي (حوالي 71000 هكتار) ووجود سد محمد بن عبد الكريم الخطابي وسد محمد الخامس وسد مشرع حمادي لا زالت منطقة الريف لم تحقق اكتفاءها الذاتي من المواد الغذائية ، اللهم البرتقال الذي ينتج بالريف الشرقي ويصدر إلى الخارج وباقي الأسواق الوطنية ، أما المواد الأخرى كالقمح والحليب واللحوم... فأغلبها مستوردة إما من الأسواق الوطنية أو الدولية، وكذلك الصيد البحري لم يحقق الاكتفاء الذاتي من الأسماك للمنطقة فرغم تواجد ميناء الحسيمة منذ عهد الحماية وميناء الناظور الذي باشر عمله سنة 1978 وميناء رأس كبدانة الذي انطلق به العمل سنة 1982 فإن أسواق الريف لا زالت تستورد حاجياتها من الأسماك من الأسواق الوطنية الأخرى كأكادير وآسفي... إن الأهداف التي حددتها سياسة تصدير الفلاحة إلى الشمال منذ 1960 همت بالأساس تشجيع التصدير وتنمية إنتاج المنتوجات الموجهة إلى السدود في إطار رؤية تعويض الواردات ، لكن النتيجة كانت فشلا ذريعا على جميع المستويات لأنه لم يتم التوصل إلى إنتاج المواد الأساسية بالقدر الكافي الضامن لتحقيق الاكتفاء الذاتي ، وبذلك تكرست التبعية الغذائية وأضحت مع مرور الوقت أكبر بكثير من السابق. وكانت سياسة السدود قد تمحورت حول مشروع تحديث الفلاحة بمنطقة الريف التي كانت أصلا منطقة فلاحية لجعلها قاطرة تجر الباقي نحو التحديث والعصرنة إلا أن هذا لم يحدث وذلك رغم توظيف إمكانيات هائلة استفادت منها في نهاية المطاف حفنة من المحظوظين وكان من الطبيعي تعميق الفوارق وخلق اختلالات كبرى لا زلنا نعيش أثارها السلبية إلى حدود اليوم. ومهما يكن من أمر فإن ضمان الأمن الغذائي ليس بالأمر المستحيل بالنسبة لمنطقة الريف لكونها منطقة فلاحية %100 وتتوفر على مؤهلات طبيعية هائلة ، وإنما هو بحاجة فقط إلى قرار سياسي تملك الدولة به قوتها ثم قرارها لتحديد اختياراتها دون إضرارها، تحت مختلف الضغوطات للامتثال للأوامر الواردة عليها من الخارج ، لكن متى ستحضر الشجاعة لاتخاذ مثل هذا القرار؟؟؟ أزمة كهربائية مرتقبة : يرى الكثير من المتتبعين أن المغرب سيعرف لا محالة أزمة طاقية، الشيء الذي أثار الكثير من التساؤلات بخصوص الإجراءات المتخذة ونجاعتها ، ومن المؤشرات التي كشفت بوادر هذه الأزمة التفاوت الكبير الحاصل بين العرض والطلب ولا يخفى على أحد الآن أنه حصل خصاص في الطاقة الكهربائية بفعل ضعف الإنتاج الوطني من الكهرباء مما فرض تغطيته عن طريق الاستيراد من الخارج ، وقد بلغت الواردات من المواد الطاقية خلال السبعة أشهر من السنة الجارية أرقاما قياسية حسب المؤشرات الشهرية للمبادلات الخارجية التي نشرها مؤخرا مكتب الصرف، حيث ارتفعت بحوالي %29 مقارنة مع نفس الفترة من السنة الماضية ، وتحسبا لأزمة الكهرباء سعت بلادنا إلى الإقرار بتعاون مع الاتحاد الأوروبي بهدف تحقيق التقارب بين السياسات الطاقية ، وفي هذا المضمار وقع المغرب مع المفوضية الأوروبية تصريحا مشتركا يتعلق بأولويات التعاون في مجال الطاقة وبروتوكول اتفاق حول البرنامج المالي 2007-2010 . ولا زال المغرب يتحاشى الكهرباء النووي علما أن المكتب الوطني للكهرباء سبق وأن أعلن سنة 2007 عن مشروع لإنشاء محطة نووية لإنتاج الكهرباء (700 إلى 1000 ميغواط) في أفق 2017 إلا أنه يبدوا أن الضوء الأخضر بخصوص هذا المشروع لم يعط بعد ، وكان المدير العام للمكتب الوطني للكهرباء قد صرح أن سنة 2008 ستعرف بداية أزمة على مستوى الكهرباء في حين رد وزير الطاقة والمعادن السابق "أحمد بوطالب" بنفي احتمال أية أزمة بهذا الخصوص بحجة أن المغرب عمل منذ العقدين السابقين على خلق الضمانات التي من شأنها تجنيب بلادنا من حدوث أية أزمة كهربائية ، وبعد هذا التصريح ظهر مخطط التجهيز الطاقي 2008 – 2009 خاويا على عروشه باستثناء بعض المحطات الصغيرة القليلة، وفسر العديد من المحللين هذا الارتباك بغياب كلي لرؤية واضحة في مجال الطاقة بالمغرب وما لم يستسغه العقل هو أن معظم المحطات المبرمجة تعتمد على البترول في وقت يشهد سعره ارتفاعات صاروخية، مما يدل على افتقار حكومة عباس الفاسي لإستراتيجية طاقية واضحة المعالم ومحددة المقاصد مما يقوي إمكانية حدوث أزمة طاقية (كهربائية) في الوقت القريب. وتقر وكالة إنعاش المقاولات الصغرى والمتوسطة أن أزمة قطاع الكهرباء واردة مستقبلا بفعل ضعف القدرات الإنتاجية للمغرب في مجال الكهرباء وسيتعاظم هذا الضعف أكثر نظرا لتحاشي المغرب في الانخراط في الخيار النووي من أجل إنتاج الكهرباء رغم وضوح جدواه المالية والاقتصادية. الريف على خط الأزمة الكهربائية : على ضوء ما سبق ذكره حول بوادر الأزمة الكهربائية التي تخيم على المغرب من شماله إلى أقصى جنوبه توجد منطقة الريف في موقع لا تحسد عليها من حيث ضمان الموارد الطاقية حيث تفتقر المنطقة إلى الموارد الطاقية والكهربائية كما تعرف المناطق القروية بالريف غياب تام للأسلاك الكهربائية وهذا ما يفسره المتتبعون بافتقار المسؤولين على القطاع لسياسة طاقية واضحة وبالتبعية الطاقية التي تعرفها الجهة على غرار كل المناطق المغربية ، وكان الكثير من المحللين قد شككوا في الإحصائيات التي أعلن عنها المكتب الوطني للكهرباء وعكسوها للواقع. كل العروض التي قدمها المدير العام للمكتب الوطني للكهرباء أو وزيرة الطاقة والمعادن لم تقنع أحدا بفعل افتقارها لأدنى تصور استراتيجي ولغضها الطرف عن مختلف المشاكل البنيوية التي تعرفها منطقة الريف، مما كشف بجلاء اعتماد الارتجالية كنهج للعمل في هذا القطاع الحيوي ولم يعترف القائمون على أمور طاقتنا إلا بتعثر واحد وهو المتعلق بالبرنامج الوطني للكهربة القروية، في حين أكدت منطقة الريف أنها توجد على أبواب أزمة طاقية اعتبارا لارتفاع استهلاك الكهرباء المتزامن مع ضعف الاستثمارات في القطاع ، علما أن منطقتنا ظلت -من حيث لا يدري القائمون على أمورنا- تعيش وضعية هشة ، ورغم ذلك لم يتم التفكير الجدي في تطوير الطاقات البديلة وإن كان المغرب أول من اهتم بها على الصعيد ألمغاربي في فجر الثمانينات من القرن الماضي وارتهانه إلى السوق الخارجية. وفي هذا الصدد قال أحد العارفين بخبايا القطاع الطاقي في حديثه ل "الشرق" أن هذه عادة المسؤولين عندنا ، لا يأخذون المشاكل بمحمل الجد إلا بعد بروز المشاكل واستفحالها وتساءل مستغربا "لماذا لم تقوى منطقة الريف وهي المنطقة التي تتوفر على إمكانيات طبيعية هائلة وسدود مهمة على تطوير الطاقة الكهربائية المستمدة من السدود؟" هذا في وقت بلغ مستوى نمو الاستهلاك الوطني السنوي للكهرباء% 9 وأن %60 منه آتية من المحروقات حسب ما أكده "يونس معمري" المدير العام للمكتب الوطني للكهرباء نفسه، هذا في وقت يمتلك فيه %98 من المغاربة جهاز التلفاز و%43 من الإقامات على مكيفات هوائية قصد الإشارة فحسب. ويتكلف المكتب الوطني بإنتاج ما يربوا على %30 في حين ينتج المستقلون %60 ، ويستورد المغرب حاليا أكثر من 15.1% من حاجياته الكهربائية، وفاق استهلاك الطاقة خلال سنة 2007 حجم 13 مليون طن من البترول، علما أن الطلب الوطني على الكهرباء تطور بنسبة تفوق %8 خلال خمس سنوات الأخيرة وتتطلع بلادنا لرفع إنتاج الطاقة الريحية إلى 1000 ميغواط في أفق 2012. والأكيد الآن أنه وقع تأخر ملحوظ في إنتاج الطاقة الكهربائية بالجهة الشرقية وحصل خلل على مستوى التوزيع، وفي الوقت الذي يتطلب الوضع التفكير الجدي والسريع في بلورة إستراتيجية جهوية طاقية جديدة تم إتباع خطاب وزارة الطاقة لتغيير 5 ملايين من المصابيح المتوهجة بأخرى ذات استهلاك ضئيل قصد اقتصاد ما يقارب 200 ميغاواط في ساعات الذروة وبذلك يمكن توفير 300 ميغاواط في الساعة سنويا ، وهو إجراء لا يسمن ولا يغني من جوع في مواجهة الأزمة الطاقية المحدقة .