«الانقلاب الإيراني في العراق» تعبير ليس من عندي، فهو تعبير استخدمه محللون وكتاب غربيون كبار في الاسابيع القليلة الماضية. وب «الانقلاب» يقصدون تحديدا الطريقة التي تعاملت بها ايران مع الانتخابات العراقية الأخيرة ونتائجها. هذا الانقلاب الايراني كانت ذروته دفع القائمتين الشيعيتين الكبيرتين، ائتلاف دولة القانون والائتلاف الوطني، الى التوحد في ائتلاف واحد من اجل تشكيل الحكومة العراقية القادمة على اساس طائفي، ومن اجل قطع الطريق نهائيا أمام اياد علاوي، الفائز الأكبر في الانتخابات من خلال قائمته «العراقية»، وحرمانه من حق تشكيل الحكومة. الانقلاب الايراني له مقدمات كثيرة، وله خفايا كثيرة، وله تبعات وأخطار كثيرة. والأخطار ليست اخطارا تهدد العراق وحسب، وانما هي اخطار تهدد الخليج والعالم العربي. لهذا من الأهمية بمكان ان نحاول تتبع خطوات هذا التدخل وابعاده واخطاره. بطبيعة الحال، من المفهوم انه قبل ان تجري الانتخابات العراقية بأشهر، كانت الاستعدادات الايرانية جارية على قدم وساق من اجل العمل على ضمان فوز حلفاء ايران من القوى الشيعية في الانتخابات، وبالمقابل من اجل ان يخسر اياد علاوي والقوى الأخرى في قائمته «العراقية». ومن اجل تحقيق هذا الهدف، اتبعت ايران اساليب وتكتيكات كثيرة. كان في مقدمة هذه الاساليب والتكتيكات دفع حلفاء ايران في العراق الى استخدام ما يسمى بلجنة اجتثاث البعث برئاسة احمد الجلبي الحليف الموثوق، كأداة للنيل من علاوي ومن المرشحين السنة، خصوصا على قائمته. كما هو معروف، وضعت اللجنة في ذلك الوقت اكثر من 500 من المرشحين، أغلبهم من السنة، على قائمة الممنوعين من خوض الانتخابات، ومن بينهم قيادات سياسية معروفة، بحجة انتمائهم الى حزب البعث أو تأييده. وما حدث بعد ذلك بخصوص هذه القضية معروف. لم يكن الهدف من هذا السعي حرمان بعض القيادات الكبيرة المعروفة في قائمة علاوي، وخصوصا من السنة، من الترشح فحسب، ولكن ايضا وبالقدر نفسه من الأهمية شن حملة واسعة لتشويه سمعة هؤلاء، وسمعة المرشحين على قائمة علاوي عموما، بتصويرهم على انهم يريدون اعادة حكم البعث. ولعلنا نذكر هنا ان الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد نفسه لم يتردد عشية الانتخابات في ان يدخل شخصيا طرفا في هذه الحملة ويتحدث عن البعثيين الذين يجب الا يعودوا ابدا الى اي حكومة عراقية. وفي اطار حملة التشويه هذه نذكر ايضا كيف تم تصوير علاوي وقائمته كما لو كانوا مجرد عملاء لدولة خليجية يتلقون التمويل منها. وكأن تلقي القوى العراقية التمويل من ايران فضيلة، وتلقي اي قوى دعما من بلد عربي عمالة للخارج. وبالطبع، من اهم الاساليب التي لجأت اليها ايران قيامها بتمويل الحملات الانتخابية للقوى الشيعية الموالية لها. على اي حال، في الفترة التي سبقت اجراء الانتخابات، بذلت ايران كل ما في وسعها كي تضمن نجاح حلفائها وسقوط قائمة علاوي. وجرت الانتخابات في السابع من مارس الماضي، وتم اعلان نتائجها بعد ذلك على النحو الذي بات معروفا. ايران اعتبرت ان نتائج الانتخابات مفزعة. لماذا الفزع الإيراني؟ كما هو معروف، انتهت الانتخابات بفوز قائمة علاوي، وان بفارق مقعدين فقط عن قائمة المالكي. لكنها خرجت كأكبر قوة فائزة، واعتبرت ايران هذه النتيجة مفزعة لها للأسباب التالية: 1 - اعتبرت ان فوز قائمة علاوي بما هو معروف من ان السنة في العراق كانوا القوة الاكبر وراء هذا الفوز، هو مؤشر واضح على انهم قرروا ان يشاركوا بفعالية في العملية السياسية، والا يتركوا الساحة للاحزاب الطائفية الموالية لايران. وهذا تقدير يتفق عليه بالفعل اغلب المحللين والمراقبين للأوضاع في العراق. 2 - ان نتائج الانتخابات تشير الى ان قطاعات واسعة من الشعب لا يستهان بها قد ضاقت ذرعا بالاحزاب الطائفية التي ترعاها ايران، وبالطائفية عموما، واظهر مؤشرات واضحة على رغبتها في الخروج من اسر هذه الطائفية. 4 كما اعتبرت ان فوز قائمة علاوي هو في جانب اساسي منه انتصار لقوى عربية وخصوصا السعودية التي اتهموها بدعم علاوي. والخطورة بالنسبة اليها ان هنا تمثلت في ان هذا الفوز يمكن ان يكون بداية قوية لانتصار مشروع عربي في العراق هو على النقيض من المشروع الايراني. والامر هنا باختصار هو بالفعل على نحو ما رأى الدكتور عبد الخالق عبد الله استاذ العلوم السياسية في الامارات عندما فرق بين المشروعين وقال: «ايران تريد عراقا طائفيا ضعيفا مقسما، بينما السعودية وكل دول مجلس التعاون تريد عراقا لا طائفيا موحدا وقويا». على ضوء هذه الاعتبارات مجتمعة، نظرت أيران للامر انه لو ترك المجال لعلاوي لتشكيل الحكومة العراقية الجديدة، فإنها ستكون كارثة كبرى بالنسبة لها ولمشروعها في العراق وفي المنطقة. النتائج والمسرحية فور اعلان نتائج الانتخابات كان الهدف الايراني واضحا تماما، وهو الحليولة دون ان يتولى علاوي رئاسة الحكومة من دون ان يكون للسنة اي دور حاسم في الحكومة! وضمان الا يخرج تشكيل الحكومة ابدا عن قضبة القوى الشيعية الموالية لها. وتحركت ايران فورا على اكثر من جبهة، استدعت على الفور قادة كل القوى الشيعية الموالية، والقوى الكردية ايضا. فقد جرى النقاش حول الضرورة الحاسمة لاحتواء الخلافات بين القوى الشيعية الموالية، وهي خلافات معلنة ومعروفة وخصوصا بين التيار الصدري والمالكي. تلا هذه الاستدعاءات عدة تطورات عملية. شهدنا جدلا اثاره المالكي وقائمته حول ما المقصود بالكتلة الاكبر التي يحق لها ان تشكل الحكومة، وقيل ان المقصود ليس القوة التي حصلت على اكبر عدد من المقاعد في الانتخابات، وانما التي تستطيع تشكيل اكبر ائتلاف في البرلمان، هذا مع ان المبدأ الديموقراطي البسيط يشير الى ان القوة التي تحصل على اكبر عدد من المقاعد من حقها على الاقل ان تأخذ الفرصة الاولى لمحاولة تشكيل الحكومة. ثم شهدنا المسرحية الهزلية التي عرضها المالكي عندما زعم ان هناك عمليات تزوير، في بغداد خصوصا، حرمت قائمته من مقاعد كثيرة، ومطالبته باعادة الفرز يدويا وهي العملية التي اتت نتيجتها بتكذيب مزاعمه. ولم يكن هدف المالكي مجرد التشكيك في النتيجة، ولكن كان ايضا اضاعة الوقت حتى يتسنى لطهران وحلفائها بحث كيف سيتعاملون عمليا مع المعضلة، اي كيف سيتمكنون من حرمان علاوي من حق تشكيل الحكومة. في غضون ذلك، طرأ تطوران مهمان. : كان التطور الاول، هو الانباء التي ترددت بقوة عن جهود سرية حثيثة تبذلها اميركا باتجاه اقناع قائمتي علاوي والمالكي بتشكيل حكومة وحدة وطنية يتناوبان رئاستها. وكان التطور الثاني، استضافة السعودية لقادة كل الكتل العراقية تقريبا، وبالطبع جرى في اللقاءات بحث جهود تشكيل الحكومة. وترافق مع هذا ايضا قيام علاوي بزيارات لاكثر من بلد عربي، كل هذا جعل ايران تستشعر الخطر. وقررت انه آن الاوان للاقدام على الخطوة الحاسمة المتمثلة في تشكيل التحالف بين الائتلافين الشيعيين الكبيرين، ائتلاف دولة القانون والائتلاف الوطني، بحيث لا يخرج تشكيل الحكومة عن حلفائها الشيعة. روايتان واجتماعات هنا روايتان، لا تناقض بينهما في الحقيقة: الرواية الاولى نشرتها مجلة «نيشن» الاميركية نقلا عن سياسيين عراقيين، تقول انه قبل اعلان ائتلاف القائمتين العراقيتين بنحو اسبوع، اجتمع حسن كاظمي قمي، السفير الايراني في العراق مع ممثلي الاحزاب الشيعية في الاجتماع وابلغهم نقلا عن القيادة الايرانية، رسالة واضحة قاطعة محددة. الرسالة هي «ان ايران تعتبر ائتلاف القوى الشيعية، وتنحية خلافاتها جانبا من اجل تشكيل الحكومة، هي مسألة امن قومي ايراني». وبناء على ذلك قال لهم السفير قمي: «ايا كان ما عليكم ان تفعلوه من اجل تحقيق هذا الهدف، يجب ان تفعلوه». دور الحرس الثوري الرواية الثانية: ان ايران اوفدت الجنرال قاسم سليمان، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الايراني والمسؤول عن ملف العراق، الى بغداد، وعقد سلسلة اجتماعات مع ممثلين عن القائمتين العراقيتين، وابلغهما الرسالة نفسها بحتمية الائتلاف بين القائمتين لقطع الطريق على اياد علاوي وقائمته، والحيلولة دون اي احتمال لنجاحه في تشكيل الحكومة. وبحسب المصادر التي تحدثت عن هذه اللقاءات، فان سليماني اكد لممثلي الاحزاب الشيعية انه لا اعتراض على التحالف مع القوائم الكردية، لكن محظور على اي قائمة شيعية التفكير في اي احتمال بتكوين ائتلاف مع «العراقية» قد يعرضه علاوي، بحسب هذه المصادر، فان من الممكن التعاون لاحقا مع افراد من العراقية في تشكيل الحكومة كمجرد متعاونين، اي كمجرد اتباع، ولكن ليس كشركاء في تشكيل الحكومة. العنف الطائفي هكذا اذاً نفذت ايران تدخلها في العراق. والشعب العراقي، بسنته وشيعته، حين صوت لقائمة علاوي، انما اراد ان يبدأ على الاقل مسيرة الخروج من اسر الطائفية، ومن سطوة الاحزاب الطائفية. لسنا هنا بصدد الحديث عن اهداف ايران الاستراتيجية، وعن مشروعها في العراق، لكن كما هو مفهوم الامر يتعلق بتخطيط ايراني لابقاء سيطرتها على مقدرات العراق. وهي تعتبر هذه السيطرة ركيزة مشروعها الاقليمي. وهي في الوقت الحاضر تعتبر احكام هذه السيطرة ضرورة استراتيجية اكبر من ذي قبل في الوقت الذي تستعد فيه الولاياتالمتحدة لسحب قواتها من العراق. وهي تريد العراق ساحة مقايضة ومساومة مع اميركا في الصراع حول البرنامج النووي الايراني، وفي التخطيط الايراني انه حين تنسحب القوات الأميركية يجب ان يكون العراق في القبضة الايرانية. ثلاث حقائق ثمة حقائق ثلاث لا بد من تسجيلها: الحقيقة الأولى: انه ما كان لايران ان تنفذ تدخلها هذا في العراق، وان تفرض سيطرتها عموما في الساحة العراقية لولا الغياب العربي. صحيح اننا شهدنا في الفترة الماضية بعض الجهود العربية على ساحة العراق، وبالأخص الجهود التي بذلتها القيادة السعودية، لكن الأمر المؤكد انه لا يوجد اي جهد جماعي عربي لمواجهة النفوذ الايراني بأي شكل من الأشكال الفاعلة. الحقيقة الثانية: انه ما كان ايضا لايران ان تنفذ مخططاتها في العراق على هذا النحو لولا العجز الفعلي للادارة الاميركية، أو عدم رغبتها في ان تفعل شيئا. حقيقة الأمر ان ادارة أوباما رفعت عمليا الراية البيضاء. الحادث ان كل ما اصبح يشغل الادارة الاميركية اليوم هو الترتيب لانسحاب قواتها من العراق وفق ما خططت له بأقل قدر ممكن من الخسائر. وهي في سبيل ذلك لا تريد لا مواجهة الاحزاب الشيعية ولا مواجهة ايران على الساحة العراقية. حقيقة الأمر انه لم يعد يهم اميركا كثيرا أي مصير يتجه اليه العراق سواء غرق في حرب أو ظل غارقا في التجزئة والتقسيم. الحقيقة الثالثة: ان رفض النفوذ الايراني ليس امرا مقتصرا على السنة فقط كما قد يتبادر الى ذهن الكثيرين، وانما يمتد الى قطاعات واسعة من شيعة العراق ايضا. هذا على الأقل ما اظهرته بوضوح نتائج استطلاع لرأي العراقيين أُجري اخيرا. نتائج الاستطلاع الاستطلاع اجراه مركز «بيتشر لاستطلاعات الرأي في الشرق الأوسط»، وهو مركز مقره في برنستون، واجرى الاستطلاع بالتعاون مع مركز ابحاث عراقي. الاستطلاع اجري في اواخر شهر مارس الماضي وشمل ثلاثة آلاف عراقي من كل انحاء البلاد. نتائج الاستطلاع اظهرت ان %43 من الشيعة كان رأيهم سلبيا وغير راضين عن «علاقات ايران مع القادة السياسيين العراقيين»، في مقابل %18 فقط كان لهم رأي ايجابي. وأبدى الشيعة في اغلبهم رفضا للتدخل الايراني في الشؤون العراقية، اذ عبّر %58 من الشيعة عن رفضهم للنفوذ الايراني في تمويل الحملات الانتخابية في الانتخابات الأخيرة، و%48 منهم يرون ان لايران نفوذا كبيرا على انشطة الميليشيات. المحللون الذين تناولوا نتائج هذا الاستطلاع فسروها بان شيعة العراق هم في نهاية المطاف شيعة عرب وليسوا تابعين لايران. هذا الاستطلاع يعني ببساطة انه عندما نقول ان ايران بتدخلها اختطفت ارادة الشعب العراقي، فان الامر ليس قصرا على السنة، وانما يلتقي في هذا السنة والشيعة معا. والسؤال موجه الى القادة العرب: الى متى تتركون العراق رهينة بيد ايران؟ التمويل الإيراني المحلل الأميركي المعروف ديفيد اجناتيوس ذكر هنا في احد مقالاته انه في الأشهر التي سبقت الانتخابات، كانت ايران تدفع 9 ملايين دولار شهريا للمجلس الاسلامي الأعلى لتمويل حملته الانتخابية، و8 ملايين دولار شهريا للتيار الصدري. طبعا هذه الأرقام متواضعة، والأرجح ان ما دفعته ايران للقوى الموالية لها اكبر من هذا بكثير. القبس السيد زهرة (ينشر بالتزامن مع صحيفة «أخبار الخليج» في البحرين)