المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة    ارتفاع رقم معاملات السلطة المينائية طنجة المتوسط بنسبة 11 في المائة عند متم شتنبر    إيداع "أبناء المليارديرات" السجن ومتابعتهم بتهم الإغتصاب والإحتجاز والضرب والجرح واستهلاك المخدرات    بلومبرغ: زيارة الرئيس الصيني للمغرب تعكس رغبة بكين في تعزيز التعاون المشترك مع الرباط ضمن مبادرة "الحزام والطريق"    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    أشبال الأطلس يختتمون تصفيات "الكان" برباعية في شباك ليبيا    مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الرباط.. إطلاق معرض للإبداعات الفنية لموظفات وموظفي الشرطة    بوريطة: الجهود مستمرة لمواجهة ظاهرة السمسرة في مواعيد التأشيرات الأوروبية    اللقب الإفريقي يفلت من نساء الجيش    منتخب المغرب للغولف يتوج بعجمان    ‬النصيري يهز الشباك مع "فنربخشة"    الجمارك تجتمع بمهنيي النقل الدولي لمناقشة حركة التصدير والاستيراد وتحسين ظروف العمل بميناء بني انصار    عبد الله بوصوف.. النظام الجزائري من معركة كسر العظام الى معركة كسر الأقلام    نهضة بركان يتجاوز حسنية أكادير 2-1 ويوسع الفارق عن أقرب الملاحقين    عمليات تتيح فصل توائم في المغرب    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    بعد قرار توقيف نتنياهو وغالانت.. بوريل: ليس بوسع حكومات أوروبا التعامل بانتقائية مع أوامر المحكمة الجنائية الدولية    أنشيلوتي يفقد أعصابه بسبب سؤال عن الصحة العقلية لكيليان مبابي ويمتدح إبراهيم دياز    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة        المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة الجاحظ ويحافظ على حصته من التونة الحمراء    التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي    اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور        قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب        19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلات أجنبية في مغرب القرن التاسع عشر
نشر في الوجدية يوم 12 - 03 - 2010


الكونت موريس دو شافانياك
société de geographie
3triméstre 1887
تقديم:
على مدى القرن التاسع عشر –وبعده- جاب العديد من الأجانب بلاد المغرب,لأغراض مختلفة ؛فتنقلوا بين بواديه وحواضره ,سهوله وجباله ,سواحله وصحاريه...خالطوا السكان عن كثب ,وتعرفوا على العادات والتقاليد ,والمناخ ,والمنتوج الفلاحي ,والمعدني ,والصناعي ,متى وجد.
قلة منهم كان هدفها ,فعلا,السياحة وإشباع الفضول المعرفي؛أما الأغلبية فكانت مكلفة من قبل دولها بتقصي وضع البلاد والعباد, وانجاز تقارير استخباراتية مهدت للمد الكولونيالي.
ومهما يكن موقفنا من كتابات هؤلاء الأجانب ,فيجب أن نطلع عليها لأنها –وهي الأجنبية-
تقربنا من الوضع الذي كان عليه المغرب ,في القرن التاسع عشر ,وأوائل القرن العشرين.
يجب أن نعرف كيف كنا حتى نقدر ,حق قدره,ما نحن عليه اليوم.
إن العيون الأجنبية ,وان لم تكن بريئة دائما,قادرة على الملاحظة الدقيقة ؛وحتى الصدق في رسم الصورة.
سأنتقي لهذه الزاوية نصوصا رحلاتية لفرنسيين, بالخصوص؛ وسيكون المعيار هو صدق الكتابة ,وموضوعيتها ولوالنسبية,ودقة الوصف ومتعته.وسأحرص أن تغطي هذه النصوص –تباعا-
أغلب مناطق المغرب.
من فاس الى وجدة
الكونت موريس دو شافانياك
société de geographie
3triméstre 1887
أنجز الكونت دو شافانياك هذه الرحلة ما بين 7و17 فبراير1881؛وهي ممتعة حقا ؛من حيث أسلوبها ودقة ملاحظة صاحبها ,واهتمامه بالتفاصيل ؛ولا اخفيكم أنني ,بعد أن أنهيت قراءتها , وحتى خلالها ,وقفت على مدى الفارق الكبير بين مغرب الأمس ومغرب اليوم ,على مختلف المستويات.انه قرن ونيف لاغير لكن الفارق كبير ,جدا جدا.
اخترت أن أبدأ من نهاية الرحلة ,حيث غطى شافانياك مساره من قصبة سيدي ملوك:العيون الشرقية الحالية؛وصولا الى مدينة وجدة.
ها نحن ننعم إذن,والى غاية مدينة وجدة,بحماية باشا قصبة سيدي ملوك:السي احميدة ,وأخيه السي قدور.لقد حضينا بدعوتهما الطيبة للاستراحة مدة يوم ؛رغم تضايقنا من المكان الذي خيمنا فيه.انه ,في الواقع, مربط خيول,وبفعل البلل الذي أصابه,من أمطار البارحة,غدت رائحة الروث لاتطاق؛لكن التعب الذي عليه دوابنا يجعل هذه الاستراحة ضرورية؛إضافة إلى كوننا ,هنا, في مأمن.
في المساء بعث إلينا السي احميدة من يخبرنا بورود خبر موت أحد أبنائه ,من فاس؛وعليه فلن يتمكن من مرافقتنا غدا,وسينيب عنه أخاه.
كلفنا أنطونيو بإخباره بأننا نشاطره أحزانه.
على الساعة الثامنة والنصف(صباحا),ولدى خروجنا من القصبة ,وجدنا,في انتظارنا, مجموعة الفرسان التي سترافقنا ,وعلى رأسها السي قدور ممتطيا حصانا رماديا جميلا,في أبهى حلله؛ويرافقه كاتبه , وهو رجل ثقة لايفا رقه أبدا.
بلغ عدد الرجال الذين سيشكلون حراستنا عشرين؛دون احتساب الجنديين اللذين معنا .هؤلاء أحسن كسوة من جنود السي احمد؛واذا لم تكن خيولهم أفضل ,فهي ,على الأقل أحسن مظهرا.أغلبها من أصل فرنسي. .لقد قيل لي بأن هذه الخيول تناسلت من اثني عشر فرسا قدمت هدية من طرف نابوليون الثالث ؛وقد بعثت ضمن حركة إلى هذه الجبال.لقد قيل أيضا بأنها,بدون شك, خيول مسروقة ,وقد بيعت.
بعضها الآخر مستورد من الجزائر.
كل الرجال ,تقريبا,مسلحون ببنادق صيد ذات طلقتين,من صنع فرنسي ؛ما عدا اثنين أو ثلاثة بحوزتهم بنادق بارود.
كوكبة الحراسة ,هذه, تسير بانتظام ,يتقدمنا عشرة فرسان,وخلفنا السي قدور وكاتبه,ووراءهما الدواب محملة بالأمتعة؛أما بقية الفرسان فيغلقون الطريق خلف الجميع.
لقد ألححت على السي قدور بأن يسير إلى جانبي ,لكنه أصر على الرفض قائلا:
"لقد تلقيت أوامر من أخي ,وأعي ما أنا ملزم به من احترام لك". اضطررت إلى الانصياع لرغبته؛لكن تجاذب الحديث كان صعبا ,ونحن متباعدان.
خلال الطريق علمت بأنه لم يسبق له ,ابد,أن زار مدينة وجدة,وأنه لايغادر القصبة الا نادرا,وأنه لم يمتط حصانا منذ مدة.
رغم هذا حرص أخوه على أن يرافقنا ,ممتطيا هذا الحصان النشيط واللعوب؛بدل امتطاء البغل . نال منه التعب خلال الطريق مما اضطره إلى استبدال حصانه بحصان كاتبه ,القصير والهرم.
بعد ساعة من مغادرتنا القصبة عبرنا مجرى واد جاف(وادي بورديم)؛على يسارنا تتراءى جبال بني واسين ,وعلى يميننا جبل الزكارة,وقمته تشبه قمة جبل مغرسهوم. تتواجد بهذا الجبل غزلان الأروية
mouflons
وتحكي الأسطورة الشعبية بأن هذه الغزلان تندفع,أحيانا, من أعلى قمة في الجبل, فتتهاوى من علو شاهق,ولدى ارتطامها بالأرض تنغرس قرونها في التربة ,وتموت على هذه الحال.
تتواصل الطريق,تارة وسط السهل ,وطورا منحرفة يسارا.يتسع السهل ويضيق ,في كل حين,من هذه الجهة ؛أما من الجهة اليمنى فيحافظ دائما على عرضه.تبدو الجبال التي تحد السهل ,شمالا, بمظهر واحد تقريبا:نفس القمم المستديرة ,نفس التربة الجافة والقاحلة.
الكيلومتر التاسع والعشون بعد الثلاثمائة(329)(من فاس) .الساعة تشير الى العاشرة والنصف ؛تبدو على يميننا, في السهل, أطلال قصبة تدعى أبوك أموان
الكيلومتر الرابع والأربعون بعد الثلاثمائة(344)؛تمام الساعة الواحدة ,يظهر يسارنا,على بعد مسيرة يوم,جبل سفران ؛وهو غريب الشكل ,بارتفاع ألف وخمسمائة متر 1500م تقريبا.على ارتفاع ثلاثة
أرباع منه يظهر نجد دائري ,يبرز منه جبل آخر حاد القمة.تتواجد على هذا النجد قرية يقطنها اليهود خاصة.
في سفح الجبل ,وسط الزيتون والبساتين ,توجد مدينة صغيرة تقطنها قبيلة بني وكيل.
الكيلومتر السادس والخمسون بعد الثلاثمائة(356).على يميننا , والساعة تشير الى الثالثة والنصف, يظهر,في مقدمة مفازة جبلية, ضريح سيدي موسى , وهو على مسافة نصف يوم ؛تحيط به بعض المنازل والأشجار ,وقليل من الخضرة.
بعد مسافة قليلة ,إلى الأمام,-لكن في نفس الخط الموازي- يظهر جبل بني يعلا حيث توجد ,حسب الزعم, مناجم ذهبية غنية .بعيدا ,دائما في نفس الخط,يوجد جبل( المشايعة)؛وعلى يسارنا جبل (سريدة) ويقطنه بنو وكيل .قريبا من الطريق يوجد دوار لهم يحمل اسم ( بكريس),وهو مركون إلى جبل صغير ,حيث لاحظت وجود أطلال منازل ,وتحصينات بساتين منهارة.
علينا أن ننزل لدى قبيلة من رحل بني وكيل ,لكن إذا كانت مضاربها معروفة منذ شهور ,فإننا ,اليوم, لا نعرف مكان تواجدها.
أمام هذا الوضع قررنا مواصلة السير إلى وجدة ؛ومهما يكن فهذا الدوار في شبه تمرد على الباشا.
لكن ,ونحن نهم بمواصلة السير أقبل نحونا فارس مسرع؛انه من قبل باشا وجدة ,بعث ليخبرنا بأنه ,ونظرا للساعة المتقدمة,من الأفضل لنا أن نحط الرحال لدى دوار بني وكيل ؛وقد وجه إليهم فارس ليخبرهم ,حيث هم ,بعيدا عن ضريح سيدي محمد بن عيسى,الذي يظهر لنا يسارا,أمام جبل (لكرابا).
أخذنا بالنصيحة ,فوجدنا دوارا لم نر أكبر منه فيما رأينا:خمسون خيمة تحيط, بانتظام , بخيمة الرئيس ؛بحيث تبدو الأبواب كلها مشرعة نحوها.تشكل هذه الخيام دائرة كبيرة قطرها ثلاثمائة متر تقريبا.
الخيام كبيرة ,وفي حالة حسنة؛إنها أكثر نظافة مما رأينا إلى حد الساعة.
جمعت قطعان الماشية وسط هذه الدائرة, ويقوم على حراستها سكان خيمتين.
كل أفراد هذه القبيلة شرفاء؛وعلى أي ففي المغرب الكثير من الشرفاء ,على هذه الشاكلة, بحيث لم يعودوا يثيرون الانتباه.
إن كونهم شرفاء لم يحل دون تمردهم (على السلطة ),ونظرتهم إلينا تشي بهذه الحالة ؛بحيث بدوا متذمرين من تزويدنا بكميات قليلة من المونة(الزاد) ,والشعير لدوابنا.لقد اضطر الرجل المتطوع الذي انظم إلينا في الأيام الأخيرة الى تهديد أحد هؤلاء الشرفاء بخنجره الطويل, حتى يمكنه من التبن الذي وضعه الرئيس تحت تصرفنا .يضاف الى هذا عدم وجود الماء في الجوار ؛وبالكاد أذنوا لدليل ليرافق رجالنا,وبمعيتهم الدواب, الى موارد ماء عفنة وشحيحة ,في فجوات بعيدة.
لدى وصولنا إلى الدوار ,بدا على السي قدور تعب شديد بحيث تم إنزاله, من على ظهر حصانه,بمشقة,وحمل الى خيمته. رغم حالته هذه لم يكف عن تكرار :" لاباس الحمد لله,لاباس
لقد وصلنا الى مأمن. لقد أوصلتكم الى هنا دون أن تصابوا بأذى ,كما أمرني بذلك أخي ؛لكن هاأنذا أوشك على الموت الآن"يقول لنا كل هذا لكن بنوع من الاستسلام الشديد الهزل؛بحيث لا زلت اضحك كلما تذكرته.
رغم ما أصاب هذا الرجل الشجاع من تعب ,أصر على مراقبة نصب خيامنا ,جاعلا إياها جوار خيمته ؛مرددا باستمرار :"أنا مسؤول عنكم " ولم ينم الا بعد أن رتب كل شيء حسب رغبته.
واصلنا سيرنا في الساعة التاسعة؛ وبعد أن عبرنا وادي اسلي ,وهو جاف,وخلفنا على يسارنا جبل بني وسين ,سرنا بين تلال صخرية مباغتة ,تراءت لنا من أعلاها مدينة وجدة:بيضاء وسط البساتين والزيتون والخضرة الشاسعة المحيطة بها.
وصلنا على الساعة الحادية عشرة ,وعبرنا من خلال طريق ضيق طوله كيلومتر واحد ؛يخترق أشجار الزيتون ,ويحفه من الجانبين صبار كثيف صعب الاختراق.
هذ الممر الضيق موحل من جراء تدفق مياه السقي ؛لكننا, ورغم كل شيء, لم نسأم من التملي في هذه الخضرة ,واستنشاق ما ينبعث منها من شذى.لم نمر منذ خمسة عشر يوما الا بأراضي قاحلة ,حيث تنبت ,بكيفية بئيسة, بعض الأشجار القزمة. من لم يمر بما مررنا به ,لا يمكن أن يشعر بمدى ما نحس به من متعة وارتياح ,ونحن نصل إلى وسط هذه النضارة والخضرة . يبدو أن القلب يتسع ,وأن ثقلا كبيرا انزاح عنه ,بعد ضغط شديد؛ بحيث عاودتنا الرغبة في الكلام, والضحك.لقد تلاشى كل تعبنا.
لا مانع في أن نتمرغ ,بعفوية, وسط الحشائش النضرة؛إننا نغار من بغالنا ,وهي تقضم من هنا وهناك ,لدى مرورها.
وجدة:377كلم.خارج الأسوار نمر بمقبرة عربية,وضريح؛وبعد أن نلج إلى الداخل نمر بضريح آخر ,في حالة متردية جدا؛رغم ما به من زخرفة بديعة ,لاتزال بادية للعيان.
نمر بأبواب عديدة متراصة,قبل أن نصل إلى ساحة واسعة,تحيط بها غرف صغيرة ,يقطنها الجنود؛والى جانبهم رباطات خيولهم.
باب منزل الباشا مشرعة على هذه الساحة؛وقد خرج لاستقبالنا بعد إخباره بقدومنا.رافقنا الى غرفة صغيرة بالطابق الأرضي,منفتحة على حديقته.
بعد عبارات الترحيب المألوفة ,قدم لنا وجبة طعام دسمة؛لكن ما سرنا أكثر هو أن نرى على مائدتنا فجلا طريا ,وسلطات رائعة شديدة الطراوة ؛ينتجها ,بوفرة بستاني الباشا ,وهو من أصل مالطي.
إن الغرفة التي نوجد بها هي نفسها التي يعقد بها الباشا اجتماعاته.لقد تكرم بوضعها رهن تصرفنا ,لكننا رفضنا عرضه ,مفضلين نصب خيامنا في ساحة تشرف على الحديقة؛بدل حرمانه من غرفة عمله؛وهي ,على كل حال لاتخلو من براغيث ,رغم حرصه على أن ينظف كل شيء بها ,قبل أن تفرش بالزرابي ,وتوضع بها الأسرة الحديدية المخصصة لنا.
أثناء تناولنا للغذاء:الباشا ,السي قدور وكاتبه الى جوارنا, لكنهما جالسين على الأرض,برهنا ,مرة أخرى,على أنهما ,رغم عدم استعمال الملاعق والشوكات, يحققان – معنا- نفس النتائج؛الوسائل وحدها تختلف.
باشا وجدة هو علي بن محمد بن الحاج ,في الأربعين من عمره تقريبا؛يشي وجهه بالذكاء,دون علامة مميزة.ما ينقصه على مستوى البنية الجسدية يعوضه بلباقته.انه إداري جيد ,ورجل كرم ,رغم الندرة الشديدة لهذه الصفة ,بهذا البلد.
في كل جمعة يوزع , من ماله الخاص,على الفقراء والسجناء, كمية كبيرة من الخبز.
نعرف أنه في المغرب , كما في أغلب الدول العربية, تترك الحكومة أمر تغذية السجناء للأهل والأصدقاء.
للثناء على خصلة الكرم هذه ,المحبوبة لدى الباشا, بعثت إليه بمائة فرنك ليخصصها لهؤلاء البؤساء؛لكنه رغب في أن يحضر أحد رجالي عملية توزيع الخبز,وقد اقتناه بنصف المبلغ,وأخبرهم بنفسه بأنه ,وبعد ثمانية أيام ,سيوزع عليهم نفس الكمية,وبأن عليهم أن يشكروا (على هذا) ضيوفه المسيحيين.لقد أعجبني كثيرا تصرفه.كان بإمكان باشا آخر ,مكانه,أن يحتفظ بالمبلغ لنفسه ؛أو على الأقل ما كان ليستغل الفرصة لشكر هؤلاء النصارى ال.............(حذفت,تأدبا, الوصف الذي استخدمه شافانياك)
مدينة وجدة أكثر نظافة وعناية من كل المدن التي زرناها ؛إن جهود علي بن محمد هي التي حققت هذه النتيجة.بفضل عنايته أحيط السوق السنوي المهم الذي يقام هنا , والذي تعرض فيه كل منتوجات الجنوب ,بعدد من الأسوار.سوق البهائم يبدو بدوره حديثا.تحصينات المدينة , وهي مشيدة باللبن, موضع عناية جيدة ,تعلوها ,على مسافات , أبراج مربعة.
وبأوامر الباشا أنجزت أشغال سقوية ,حولت مشارف المدينة إلى واحة خصبة, تناقض جدب الأراضي المجاورة.
لا يشتكي الباشا من تصرفات مرؤوسيه تجاهه؛ الثورات نادرة,لكنه أخبرني بأنه كثيرا ما ييأس, ويمل من الغضب, من جراء التجدد المستمر للشقاق , والمواجهات الدموية بين الساكنة.
تشكل أعمال النهب ,التي يسهلها القرب من الحدود , أحد مشاغله .بعد ارتكاب هذه الأعمال ,سواء بالجزائر أو المغرب,يعبر الفاعلون الحدود ,للافلات من العقاب.
لدى وصولي الى الجزائر,أدهشت أشخاصا متنوعين وأنا أحدثهم عن الضيافة الصادقة والكريمة ,التي حظينا بها,بدون تحفظ؛وعما شعرت به ,باستمرار ,من أحاسيس صادقة لدى علي بن محمد.التزاما بالصدق أقول بأنه بدا لنا متحليا بخصال عديدة لانلاحظها عادة لدى العرب.خصاله هذه لاتقابل بالجحود من طرف مواطنيه فقد سمعتهم , في مرات عديدة, يثنون كثيرا على مؤهلاته الادارية ,وكرمه الشخصي.
استجابة لرغبته مكثنا عندة ثلاثة ايام ,وقد بدا سعيدا باحتفاظه بنا؛وكان كثير السؤال عن الممارسات الفرنسية في مجال الادارة والاقتصاد؛مبديا آراءه بخصوص ما يراه جيدا أو رديئا.
التقيت عنده برجل حرب مغربي,مشهور كثيرا بشجاعته؛يسمى سيدي بكر ؛يكلف ,عادة من طرف السلطان, بقمع الثورات بهذه الجهات .رجل طويل القامة ,أسود اللحية,بشرته برونزية ,ومظهره يوحي بالصرامة.كلامه مقتضب وحاد,ويدل على ذكاء كبير.كل ما فيه يلزم بالاستسلام ,ويوحي بالاحترام.فحص باهتمام أسلحتنا ,وأطلعنا على اسلحته ؛وقد لاحظت ,من بينها, بندقية صغيرة ذات طلقتين ,عيار24مم,بارتداد مركزي وماسورتين مخططتين. أخبرنا بأنها سلاحه المفضل ؛السلاح الذي يحمله في خرجاته.
نقضي وقتنا في التجوال بمدينة وجدة ,وأسواقها .رغم ما تحضى به هذه الأسواق من شهرة ,لم اعثر بها على ما يلفت الانتباه. كل السلع التي نصادفها - تقريبا- من انتاج فرنسي؛وعبثا حاولنا العثور على منتوجات من الجنوب.
ما عدا في ايام المعرض السنوي الذي ينعقد بها ,لا يحتفظ التجار بسلع الجنوب.تؤكد المعلومات التي افادني بها الباشا بخصوص اهمية سوق المدينة ,تؤكد أنه ,ونظرا لصعوبة ادخال السلع الى الجزائر , فانها في تناقص سنة بعد أخرى ؛على حساب ازدهار المدينة.
لا حظنا أثناء تجوالنا خارج المدينة أن امن السكان, وخدمات السقي, يسهر عليهما العديد من الحراس.
من أعلى تل صغير ,جنوب المدينة ,يعلوه ضريح موقر ,لكنه في وضعية متردية,(لعله ضريح سيدي امعافة:المترجم)؛نستكشف المدينة وأسوارها .من هذا الموقع تمكنت من رسمها.لم يكن هذا ممكنا من الجهات الأخرى لأن أشجار الزيتون تحجب المدينة كلية ؛وقد غرست حتى في أسفل الأسوار.
غداة يوم وصولنا ,غادرنا السي قدور راجعا الى بلدته؛ لكن ليس بدون شرب شاينا وأكل حلوياتنا؛لقد ملأ جيوبه بالحلويات والبيسكويت ,وباختصار بكل هذه اللذائذ التي يمكن ان نحصل عليها ؛ ذاهبا بها لأخيه ,واعدا بأنه سيخبره بأنها هدية منا اليه ,كما اقسم بأنه سيدعو الله لنا كل يوم حتى يزيدنا من نعمه.
أخبرنا بأنه " سعيد بالتعرف على مسيحيين ,يتكلمون ويضحكون ,من كل قلوبهم- يقول- لقد استضفت ,السنة الماضية,انجليزيا برفقة زوجته,ولم يحصل أن رأيناهما يبتسمان . لقد تساءلت -يقول- هل كل المسيحيين على هذه الشاكلة؟وخمنت أن الانسان سيشعر,ببلادهم,بضجر شديد.لقد راقني أن أعرف أن هذا غير صحيح؛وأن الانسان بامكانه,وهو يستطلع ويستمع ,طلبا للفائدة, أن يتحث بانشراح ,وأن يكون ضيفا محبوبا.....
لم يعد بحوزتي ما أمنحه له ؛احترت في أي تذكار أقدمه له ,فلم أجد بدا من خلع منظاري الذي حملته معي وسلمته له. سعد بالهدية وقال:" سأسلمها لأخي على أنها من قبلك"؛وهكذا كشف مرة أخرى عن أهم شيء لديه في هذا العالم.
يمتلك السي علي بن محمد زنجيا صغيرا ,في عمر الزنجي الذي برفقتي؛لكن هذا الطفل البئيس يبدو سقيما وحزينا.كان ينظر ,باستمرار, إلى الثياب الجديدة التي يرتديهامسعود ,وكأنه يتمنى لو كانت له؛في حين أن هذا الأخير – وعلى عادة المزاج العربي- يقابله بنظرات افتخار ,موليا لنفسه أهمية.
إن إخراج مسعود من المغرب يقلقني بعض الشيء ؛إذ يمنع كليا على العرب - وبالأحرى على مسيحي لا حق له حتى في الشراء- أن يعبروا بالعبيد الحدود.
لكن حينما كلفت من يطلب من الباشا الرخص الضرورية لاصطحاب رجالي إلى الجزائر ,لم تكن هناك أية صعوبة , سواء بالنسبة للزنجي الصغير , أو الآخرين؛وقد بعث لي ,أيضا, بشهادة لم أطلبها ,تتضمن
أنني سافرت من فاس إلى وجدة ؛وأنه كان في غاية السرور وهو يستضيف من أوصى به السلطان خيرا.
قبل أن أفارقه اعتذرت عن كوني لم يعد معي ما أقدمه له كتذكار عدا مسدسي الأمريكي ,المطلي بالنيكل
وذي الطلقات الخمس. كان لهذه الهدية وقع كبير على نفسه ؛فبعد أن فحص السلاح بعناية , وبعد أن أكثر ن تجريبه ,أقدم على ما لم أر أي عربي يفعله: ليقابل هديتي بالمثل ذهب في الحين إلى منزله وأتاني منه بوسادة مخملية مطرزة بالذهب ,وحايك أبيض جميل ,مخطط بالحرير والصوف.قدم لي الهدية معتذرا بكونه اخذ على حين غرة ,وليس لديه ما يقدمه لنا أفضل من هذا.
ودعناه في غمرة من التحايا لاتنتهي ,وأماني السعادة."تاركين في نفسه ,على حد عبارته, ذكرى عذبة ودائمة , عن مرورنا بوجدة".
من جهتنا لم ننس أبدا السي علي بن محمد ,ضيافته الحلوة الشمائل ,وأحاسيسه الممتازة؛وأجد متعة في ذكر ذلك هنا.
بعد مضي أربع ساعات على مغادرتنا وجدة ,وصلنا , مخفورين بعشرة جنود, إلى مغنية ؛بعد ان قطعنا ,من فاس, مسافة أربعمائة وواحد كلم,استغرقت منا سبعة وستين ساعة من المشي.
رمضان مصباح "فضاء الترجمة" بغوغل
http://sites.google.com/site/esptraduction/to-dos
.................................
الصورة
ساحة الكوميسارية بوجدة في بداية القرن الماضي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.