المحطة الأولى : أين المذهب المالكي ؟ المحطة الثانية ، مسجد باريس المحطة الثالثة : ترجمة محرّفة المحطة الرابعة : صحوة وغفلة المحطة الأولى : أين المذهب المالكي ؟ كان جثمان إحدى الفجيجيات رحمها الله مسجّى في مسجد " لاكورنوفْ " ، صلى الإمام الراتب ظهر العاشر من أبريل ، ووراءه صفوف كثيرة نسلتْ من كل حدْب وناحية .. ثم تقدم إمام مسجد آخر بصفته من أهل الفقيدة ، بعدما ذكّر بجنْس الميّت ، خاطب الواقفين قائلا : أيها الإخوة الكرام ، صلاة الجنازة أربع تكبيرات : بعد التكبيرة الأولى تقرأ الفاتحة ، وبعد الثانية الصلاة الإبراهيمية ، وتدعو للميت بعد الثالثة ، وفي الرابعة تدعو للميت بما تشاء ، ثم نسلّم إن شاء الله .. سألت نفسي : أين المذهب المالكي في كل هذا ؟ رجعت بي ذاكرتي إلى زياراتي السالفة ، حينها كنت ألاحظ بأسف ضعف حضور مذهبنا ، وخفوت ضيائه في كل المساجد التي ترددت عليها ، رغم إشراف المغاربة على تسيير عدد معتبر منها .. ورحم الله أحد أصدقائي مات وفي نفسه شيء من مالك رحمه الله .. كان يقول لي : أنا مغربي إذن فأنا مالكي .. وكنت أردّ عليه ببيْتيْن نظمتهما، وهما : أنا مغربيّ ،أنا مالكي أنا أشعريّ ولا أدّعي قراءة ورْش سرتْ بدمي وورْد الجُنيْد ينام معي وأجزم أني عرفت هذا الإمام في مساجد القصر قبل أن تبتعد به الأقدار إلى باريس مالكيا مثلنا حتى النخاع .. وسبحان مبدّل الأحوال .. المحطة الثانية ، مسجد باريس : كان يوم الجمعة الثاني عشر من شهر أبريل يوما ممتعا في باريس ، ومنعشا نديا بمطره اللذيذ بالنسبة لشخص فجيجي مثلي تستخفه القطرة والقطرتان .. قصدت المسجد الذي أشترك وإياه في الملامح المغربية المتدفقة بالأصالة والعراقة ، تعرب عن حضوره الدائم مئذنة تعلو ستة وعشرين مترا عن سطح الأرض .. قبل أن يواريني المدخل الرئيس استوقفني أحد أصدقاء الأمس ، سرّته المفاجأة إلى حد السعادة ، عانقني بحرارة .. سأل عن البلاد والعباد ، والنخيل والتراب ، ثم داعبني بالقول ويده على كتفي اليسرى : انظر إلى فرنسا بلاد الحريات والحقوق واحترام الأديان .. كم هي سخية هذه الدولة العظيمة !! بنت لنا مسجدا صلى فيه آباؤنا ، وها نحن نصلي فيه ، مسجدا ليس له بفرنسا ند يساويه في زخرفته ونقشه ومئذنته الفارهة .. إنها جديرة بالإعجاب والاحترام .. اكتفيتُ بإجالة النظر في وجهه ، وقلت : نتكلم في الموضوع بعد الصلاة إن شاء الله .. وقفت أنتظره قريبا من الحديقة الصغيرة المقابلة للمسجد ، طردت بصري على أرصفتها فرأيتُ متسولين ومتسولات من بني يعرب وبني الأصفر، ورأيت بائعات لأصناف الخبز المغربي الشهيّ ، خامرني إحساس وهّاج بأنني خارج من أحد مساجد بلدنا العزيز .. أدركني صديقي ، ذهب بي ضيفا بلا سابق دعوة إلى أحد المطاعم المغربية ، حيث كل طعام حلال حسبما قالوا وما كتبوا على يافطة المدخل المرونقة .. ونحن ننتظر قطعت صمتنا بالقول : علمتني الوثائق يا صديقي الحميم أن مسجد باريس بني بعرق جدي وجدك ، وأجداد كل المغاربة صلوا معنا هنا أو صلوا في بلدانهم .. كل فرنكاتهم مكدّسة هنا حجرا وبلاطا وخشبا ونقشا وزخرفة وطلاء ... - قال لي : لا أصدق هذا ، وأنت حتما تمزح .. فرنسا لا يمكن أن تفعل ذلك أبدا .. إنه هدية منها إلينا .. وعلينا أن نقدّر لها هذا الجميل الخالد .. - قلت له : إذن ، أنت لا تعرف المستعمرين وأفاعيلهم .. صدّقْ أنك تصلي في مسجد لم تنفق فيه فرنسا سنتيما واحدا ، إن لم تكن جنتْ من ورائه فوائد وعوائد .. - قال لي والنادل المغربي يضع فوق المائدة ما قسم الله ، وأنا ألتقط من عينيْه نظرة حيرة واندهاش : هل تعني ما تقول يا صديقي ؟ - قلت : بكل تأكيد ويقين ، وقصة إنشاء هذا المسجد بدأت منذ عام 1920 ، بمراسلات ومناقشات وقرارات انتهت إلى جمع ما يلزم بناؤه على دفعات ، لم تستثن فرنسا المتحضرة أحدا من المغاربة موسرا كان أم معسرا .. وذكّرْني حينما يجمعنا البلد إن شاء الله تعالى كيْما أطلعك على المبلغ الذي ساهم به جدي وجدّك رحم الله تلك الأبدان وأسكن أرواحهم في فراديس الجنان .. وأسوأ من هذا يا صديقي أنهم قضوْا على خصيصة الكفاف والعفاف التي كان يتميز بها المجتمع الفجيجي منذ قرون وقرون ، وأرهقوا أهلنا بشتى التكاليف والضرائب ، وفرضوا عليهم أن يساهموا في أعباء الحربيْن العالميتيْن ، ويوم يتامى الحرب ، وحريق فاس عام 1918 ، وفيضان مستغانم وباريكو عام 1927 ، وإقامة تمثال ليوطي في نفس العام ... وهلمّ جرا إلى ما لا يزال خافيا علينا حتى الآن .. ولا تعجبْ يا صديقي ، فالاستعمار ملة واحدة : نهج قذر ونظام نتن .. ورحم الله شوقي : وللمستعمرين وإنْ ألانوا قلوب كالحجارة لا ترقُّ ومع ذلك ، فمن الإنصاف يا صديقي أن ننسب لفرنسا مزايا لا يمكن لأحد أن يجحدها .. وذلك وجهها الثاني ، لكنه أشد ضآلة من الأول .. المحطة الثالثة : ترجمة محرّفة : بعدما انتزع مني صديقي موعدا للقاء جديد ووشيك ، ودّعته متجها إلى معهد العالم العربي الذي يتربع بثقافته العربية والإسلامية في قلب باريس قريبا جدا من ساحة محمد الخامس ، مشيت في اتجاه تصاعديّ بين رفوف مكتبته الضخمة باحثا عن مصدريْن عرفت مكانهما خلال زيارتي السابقة .. احتللتُ مقعدي أنقل منهما ما يهمني ، ثم ابتلعني تيّار المترو الذي لا يكاد يسْكن إلى منزل العائلة بعد استراحة قصيرة على ضفاف نهر السين الملوّث .. صلينا المغرب جماعة جلسنا أمام التلفاز نتكلم في أي شيء .. كان بيْن يديْ عليّ مصحف يجمع بين الأصل والترجمة ، يقلّب أوراقه بتؤدة وعناية .. ذكّرتني تلك اللقطة بمشهد عايشته أثناء زيارتي السابقة : بينما كنت جالسا في مكتبة أحد الأصدقاء نتجاذب أطراف الحديث ، دخلت شابة فرنسية مسلمة وانغمرتْ بعد سلام حييّ مع صديقي الكتْبيّ في جدال رزين ينم عن ثقافة عالية ، وحب مكين للدين .. لقد اكتشفتْ في النسخة التي اشترتها آية حرفتْ الترجمة معناها تحريفا يرفضه السياق رفضا.. طلبتْ منه أن يفعل شيئا لأجل القرآن والدين بجمعه أو التنبيه عليه وانصرفتْ .. وطلبتُ من محمد أن يعطيني مصحفه ، بحثت عن الآية التاسعة من سورة الأنعام ، قرأتُ ترجمة معناها فإذا هي هي محرّفة كما وجدتُها قبل أزيد من سنة .. أما الآية الأصل ، فهي قوله تعالى : " ولو جعلْناه ملكا لجعلناه رجُلا وللبسْنا عليهمْ ما يلبسون " .. وإليك أخي القارئ نصها الفرنسي كما ورد في ترجمة دار النور الطبعة الأولى 2011 ، ( ص 214 ) : « Si nous avions désigné un ange (comme prophète)Nous lui avions donné une forme humaine, et nous l'avions revètu de vètements semblable aux leurs » ومعناها : " لو جعل الله الرسول إلى البشر ملكا لنقله من صورة الملائكة إلى مثل صورتهم ، ولألبسه من مثل الثياب التي يلبسونها في العادة " .. وفي هذا المعنى من الفساد ما لا يخفى .. سألتُ عليّا إن كان في البيت ترجمة غيرها ، أحضر مصحفا كبيرا ، طبعته دار البراق ببيروت عام 2005 ، وقفت عند الآية ، فاستبشرت وتهلّل وجهي لموافقة ترجمتها المعنى الصحيح للآية الكريمة ، ونصها ( ص 177 ) : « Si nous avions désigné un ange (comme prophète)Nous avions fait de lui un homme , et nous leurs avions causé la méme confusion que celle dans laquelle ils sont » ومعناها : " لو جعل الله الرسول إلى البشر ملكا ، لجعله في صورة رجل ، والتبس عليهم أمره كما يفعلون مع محمد : أي شكّوا في كونه ملكا كما يشكّون في نبوّة محمد " وذاك هو الصواب .. نصحتُ عليّا أن يعتمد هذه النسخة الأخيرة ، ويطرح الأولى ، كما طلبت منه أن ينبه من يعرفه من القرناء والأصحاب إلى الخلل الذي أوقفتُه عليه ، ويرشدهم إلى ما أرشدته إليه .. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل المحطة الرابعة : صحوة وغفلة : كنت أعتقد أن كثرة المصلين في المحطة الأولى مرتبطة بحضور الجنازة .. لكن مع استمراري في التردد على مساجد أخرى عصرا ومغربا وعشاء ، في باريس وفي أطرافها ، أيقنتُ أن الحالة صحية بامتياز تستدعي الاطمئنان والفرح ، وأن أهلنا عامة وشبابنا خاصة في خيْر هناك ، وسيبقوْن كذلك ما التأموا في بيوت الله ، ولا ينقص إخوتنا المغاربة إلا أن يشربوا من عصير مذهبنا المالكي حتى يصبح علامتهم المميّزة .. والذنب ليس ذنبهم فقد رحلوا مالكيين ، ثم تعرضوا لنفحات المذاهب القوية فما كان لهم إلا أن استروحوها ولا يزالون ، حتى يقيّض الله لهم من يعيدهم إلى الأصل ، وإلا فكل المذاهب صالحة والحمد لله ، وإن كنتُ أتمنى أن نعضّ على مذهبنا بالنواجذ كما يعض غيرنا من أهل المشرق .. ولكن العيب في بعثاتنا وإنزالاتنا الرمضانية التي يظهر أنها لا تصيب أهدافها ، ولا تؤتي أكلها .. وعلى كل حال يا إخوتي ، فإن أول ظهر صليته بمسجد القصر بعد عودتي لم يكن وراء إمامنا إلا خمسة ، ليس بينهم سوى شاب واحد !! شبابهم يعيشون صحوة مباركة : من العمل إلى المسجد ، وجلّ شبابنا في غفلتهم يعمهون : من العمل إلى المقهى ، أو من المقهى إلى المقهى .. وفي انتظار شهر الامتلاء نسأل الله لنا ولكم ولهم الهداية والتوفيق ..