"وأوحي ربك إلي النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون" (108) .. هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في بداية النصف الثاني من سورة النحل, وهي سورة مكية, وعدد آياتها(128) بعد البسملة وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي تلك المجموعة المباركة من الحشرات المعروفة باسم النحل لأن الله( تعالي) قد نحل إناثها القدرة علي جمع رحيق الأزهار, ومابها من غبار الطلع( حبوب اللقاح) من العديد من النباتات المزهرة, وهضمه وتحويله في بطونها إلي ذلك الشراب المختلف الألوان الذي فيه شفاء للناس والمعروف إجمالا باسم عسل النحل ولو أنه يشمل مركبات عديدة بالإضافة إلي هذا العسل من أهمها غذاء ملكات النحل, والشمع, وحبوب اللقاح, والمعكبر( صموغ النحل), وسم النحل. ويدور المحور الرئيسي للسورة حول قضيتي العقيدة الإسلامية, والدعوة إلي مكارم الأخلاق, وكلتاهما من ركائز الإسلام, واستشهدت في سبيل الدعوة إلي تلك الركائز بالعديد من الإشارات الكونية التي صيغت صياغة علمية غاية في الدقة, والشمول والكمال مما يشهد للقرآن الكريم بأنه كلام الله الخالق, ويشهد للنبي والرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة. من ركائز العقيدة في سورة النحل أعلن رئيس جامعة الأزهر أحمد عمر هاشم أن الجامعة تنوي إنشاء شبكة تلفزيونية دينية تبث عبر الأقمار الاصطناعية من أجل التصدي للحملات الغربية ضد الإسلام. وقال هاشم في تصريحات نشرت اليوم إن التلفزيون الجديد الذي لم يوضح موعد إطلاقه ستكون مهمته "دحض المفاهيم الخاطئة عن الإسلام والتصدي للحملات الغربية المستمرة الرامية لتشويه صورته". (1) الإيمان بالله( تعالي) ربا, واحدا أحدا, فردا صمدا, لم يلد, ولم يولد, ولم يكن له كفوا أحد, وتنزيهه ( سبحانه وتعالي) عن الشريك, والشبيه, والمنازع, والصاحبة, والولد, وعن كل وصف لايليق بجلاله, وتوحيده( تعالي) توحيد الألوهية: فلا يعبد سواه, وتوحيد الربوبية: فلا يخلق ولايرزق غيره, وتوحيد الأسماء والصفات: فلا يسمي ولا يوصف إلا بما سمي به ذاته العلية من الأسماء الحسني, ووصف به جانبا من صفاته العليا. والإيمان بأن الله( تعالي) هو خالق كل شيء وربه ومليكه يجعل كل ماسواه مخلوقا بأمره, والخالق يختلف اختلافا كليا عن خلقه, كما أن المخلوقين يختلفون اختلافا كليا عن خالقهم, ومن هنا فلا يجوز لهم أن يضربوا الأمثال للخالق( سبحانه وتعالي) وهو الذي يعلم كل شيء وهم لايعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا. ومن صفات الله( تعالي) التي أوردها لنا في سورة النحل أن له غيب السماوات والأرض, وأن أمره نافذ عاجل لايرد( وهو بين الكاف والنون), وأن الدين له( سبحانه وتعالي) لأن وحده, لايشاركه في ذلك شريك, ولا ينازعه منازع, وأن الله علي كل شيء قدير. واليقين بأن الخلق يشهد لخالقه بالربوبية, والألوهية, والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه جزء لايتجزأ من الإيمان بالله( سبحانه وتعالي), الخلق يشهد لخالقه بطلاقة القدرة, وبديع الصنعة, وإحكام الخلق, وبالعلم المحيط, والهيمنة الكاملة علي جميع ما في السماوات والأرض وكلهم له عبد, يسجد لجلاله طوعا وكرها. (2) الإيمان بحقيقة الوحي, ومن معانيه أن الله( تعالي) ينزل ملائكته بالهداية الربانية لخلقه علي من يشاء من عباده الذين يصطفيهم بعلمه وحكمته, وهم الأنبياء والمرسلون الذين يبعثهم الله( سبحانه) بتعاليم الدين. والدين قائم علي ركائز أربع من العقيدة( وهي غيب مطلق لايستطيع الإنسان الوصول إليه بعقله ولابحواسه منفردا) والعبادة( وهي أوامر إلهية كاملة لايليق بالإنسان أن يكون له فيها رأي) وعلي كل من الأخلاق والمعاملات( وهي ضوابط للسلوك, والتاريخ يؤكد لنا عجز الأنسان دوما عن وضع ضوابط صحيحة للسلوك من عند نفسه الأمارة بالسوء). ومن رسالة الوحي: دعوة الناس إلي الإيمان بالله تعالي وبملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر, وبالقدر خيره وشره, ودعوتهم إلي توحيد الله( جل جلاله) توحيدا خالصا لاتشوبه أدني شبهة من شرك, وإلي عبادته( تعالي) بما أمر, وتقواه في كل أمر, واجتناب الطاغوت, وأن الله( سبحانه وتعالي) قد أكمل للإنسانية دينها, وأتم نعمته عليها, ورضي لها الإسلام دينا ببعثة الرسول الخاتم( صلي الله عليه وسلم), وأنه ما علي الرسول إلا البلاغ المبين. (3) اليقين بحقيقة الآخرة, وبحتميتها, وفجائيتها, وبأن موعدها قد اقترب, واليقين بحقيقة كل من البعث, والحساب, والجنة, والنار, وبأن الجنة هي مثوي المتقين, وبأن النار هي مثوي المتكبرين الذين لم يؤمنوا بالله ولا برسالته, أو أشركوا غيره في عبادته, ولم يعتبروا بتكرار عقاب الأمم العاصية من قبلهم. وتؤكد الآيات في سورة النحل أن الله( تعالي) سوف يبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم في يوم القيامة, وأن خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) سوف يشهد علي أمته, وعلي جميع الأمم من بعدها إلي يوم الدين لأنه( عليه الصلاة والسلام) مبعوث للناس كافة. (4) الإيمان بأن كل نعمة اختص الله( تعالي) بها عبدا من عباده هي من فضل الله العلي العظيم الذي لاتحصي نعمه ولاتعد أفضاله, وأن الله( جل جلاله) قد فضل بعض خلقه علي بعض في الرزق, لحكمة يعلمها, وأن من نعمه( تعالي) علي عباده أن جعل لهم من أنفسهم أزواجا, وجعل لهم من أزواجهم بنين وحفدة, وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة حتي يكتسبوا بها المعارف والعلوم لأن الله( سبحانه) يخرج المواليد من بطون أمهاتهم لايعلمون شيئا. (5) الإيمان بأن الجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام الإسلام, وبأن الهجرة في سبيل الله أجرها عظيم في الدنيا, وثوابها في الآخرة أعظم. وأن الذين مكروا السيئات في الدنيا لايأمنون أن يخسف الله( تعالي) بهم الأرض أو أن يأتيهم العذاب من حيث لايشعرون. وأن من عمل صالحا من ذكر أو أنثي وهو مؤمن فسوف يحييه الله حياة طيبة ولسوف يجزيه أجره بأحسن ما كان يعمل, وأن الذين زين لهم الشيطان أعمالهم سوف يكون هو وليهم يوم القيامة, وأن لهم عذابا أليما, ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك علي ظهر الأرض من دابة, ولكن يؤخرهم إلي نهاية الأجل حيث لامهرب منه, ولا تأخر عنه. (6) التسليم بأن الحاكمية لله( تعالي) وحده, ومن ثم فإن له وحده حق التحليل والتحريم, ولايجوز ذلك لأحد من المخلوقين أبدا. (7) القناعة بأن الله( تعالي) قد وهب الناس عقولا مدركة تفكر, وإرادة حرة تختار وتوجه, وتبين لهم طريق الاستقامة الموصل إلي الخير, وطرق الانحراف المفضية إلي الشر, وترك الخيار كاملا لكل فرد, فمن وجد خيرا فليحمد الله, ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. من مكارم الأخلاق في سورة النحل
(1) الدعوة إلي إقامة عدل الله في الأرض, وإلي الإحسان إلي الخلق, والوفاء بالعهد, واحترام الايمان, وإلي غير ذلك من مكارم الأخلاق, وضوابط السلوك, وقواعد المعاملات بين الناس, علي أن ينطلق ذلك كله من منطلق تقوي الله, ورجاء رضوانه, ومخافة عقابه, بعد القناعة الكاملة بضرورة ذلك من أجل استقامة الحياة علي الأرض. (2) الدعوة إلي الإنفاق في سبيل الله وإيتاء ذي القربي. (3) الدعوة إلي رفض الظلم بكل أشكاله وصوره, وبضرورة مقاومته بكل وسيلة مشروعة, فإن تعذر ذلك فلتكن الهجرة في سبيل الله. (4) التحذير من الوقوع في الفتن ماظهر منها ومابطن, ومن أخطرها فتن الكفر بالله أو الشرك به, وما أكثرها في هذه الأيام. (5) النهي القاطع عن الفحشاء والمنكر والبغي, والتذكير الدائم بنعم الله العديدة علي الخلق, والحض المستمر علي دوام شكرها, فبالشكر تدوم النعم, وتنكسر حدة الغرور في النفس الإنسانية التي تدرك أن ليس لها من مخرج في كل شدة من الشدائد التي تمر بها إلا اللجوء إلي الله( سبحانه وتعالي), والتذكير كذلك برحلة الإنسان في هذه الحياة الدنيا من النطفة إلي النطفة الأمشاج, إلي العلقة ثم المضغة المخلقة وغير المخلقة, ثم خلق العظام, ثم كسوتها باللحم, ثم إنشاء الجنين خلقا آخر, ثم اخراجه من بطن أمه لايعلم شيئا, ثم مابعد ذلك من مراحل الطفولة, ثم الشباب والفتوة, ثم الكهولة, والشيخوخة, والضعف والهرم حتي لايعلم من بعد علم شيئا, ثم الاحتضار والموت, وما يتخلل ذلك العمر من فترات الرخاء والنعمة, وفترات الابتلاء والشدة, ومحصلة ذلك عند لحظة الموت. من الإشارات الكونية في سورة النحل (1) التأكيد علي قضية خلق السماوات والأرض, وخلق كل شيء, وإفراد الله( سبحانه وتعالي) بذلك, ومنه خلق الإنسان من نطفة لاتري بالعين المجردة, وعلي الرغم من ذلك فإنه بمجرد بلوغه مرحلة الشباب والفتوة كثيرا مايقابل فضل ربه عليه بالجحود والنكران, وقد خلق له الأنعام من مثل الإبل والبقر والضأن والماعز, وجعل فيها منافع كثيرة, وخلق له الخيل والبغال والحمير وغير ذلك من وسائل الركوب والزينة وحمل الأثقال المعروفة في زمن الوحي والتي استجدت من بعده, والله الخالق قادر علي أن يخلق ما يعلمه الناس وما لايعلمون. (2) الإشارة إلي دورة الماء حول الأرض بذكر إنزاله من السماء مصدرا للشراب ولإنبات الشجر والزروع من مثل الزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات, وجعل ذلك آية للذين يتفكرون. (3) الاستشهاد علي طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في جنبات الكون بتسخير الأرض كي تكون صالحة للعمران وذلك بتكويرها, وتدويرها حول محورها أمام الشمس حتي يتبادل عليها الليل والنهار, وتسخير كل من الشمس والقمر والنجوم بأمر من الله( تعالي) كي تستقيم الحياة علي الأرض وفي الكون كله. وتؤكد السورة الكريمة دوران الأرض حول محورها كذلك بالإشارة إلي ظاهرة مد الظل وقبضه واعتباره صورة من صور السجود لله( تعالي). (4) الإشارة إلي نشر مختلف صور وأشكال وألوان المخلوقات من الأحياء والجمادات في الأرض, وإعطاء الإنسان قدرات من مختلف صور الحس تعينه علي تمييزها والتمتع حتي يشهد بطلاقة القدرة الإلهية المبدعة في جنبات الكون. (5) ذكر تسخير الله( تعالي) البحر للإنسان بما فيه من أحياء ذات لحم طري يؤكل, وهياكل للحيوانات تصلح لصناعة الحلي التي تلبس, وقدرة علي حمل الفلك ذات الأحجام المختلفة التي تجري بمصالح العباد شاقة عباب مائه, وعباب ما فوق الماء من هواء. (6) الاستشهاد بإلقاء الجبال علي الأرض, وجعلها رواسي لها كي لاتميد ولا تضطرب, وارتباط قمم الجبال يتكون منابع الأنهار, ودور تلك المجاري المائية في تفتيت الصخور, وشق الفجاج والسبل, وتكوين تضاريس الأرض التي تصبح علامات دالة للاهتداء بها في وضح النهار, كما جعل النجوم علامات للهداية بالليل. (7) وصف عقاب بعض الأمم السابقة وصفا ينطبق بدقة فائقة علي ماتحدثه الهزات الأرضية العنيفة( الزلازل) في زماننا, وذلك من قبل أن يدرك أحد من الخلق تفاصيل حدوث تلك الهزات الأرضية. وخسف الأرض بعدد من الأمم الباغية في القديم والحديث يؤكد أن الزلازل كغيرها من صور الابتلاءات الدنيوية هي جند من جند الله يسلطها علي من يشاء من عباده: عقابا للمذنبين المجاهرين بالمعاصي من الكفار والمشركين وعصاة المسلمين, وابتلاء للصالحين, وعبرة للناجين. (8) تأكيد لمحة الإعجاز في خلق الأنعام, وفي تكوين اللبن في ضروعها من بين فرث ودم, وخروجه من تلك الضروع لبنا خالصا سائغا للشاربين. (9) الاستشهاد بما في ثمرات كل من النخيل والأعناب من الرزق الحسن, وإن أساء بعض الناس استخدامها في صناعة المسكرات. (10) الإشارة إلي خلق أمة نحل العسل, وإلي إعطائها قدرا من الوعي والإدراك, ومنحها القدرات الفطرية علي تنظيم مجتمعاتها تنظيما مبهرا دقيقا تتوزع فيه الاختصاصات والمسئوليات والمهام في عيش جماعي تكافلي رائع, ومن هنا كانت الإشارة إليها بالجمع في تسمية السورة( سورة النحل) وفي الآيات التي جاء ذكر النحل فيها. وإعطائها كذلك قدرا من الحرية الكبيرة في اختيار بيوتها من الجبال ومن الشجر, ومما يعرشون, وقدرا من معرفة الأماكن والاتجاهات, وقوة علي الطيران بسرعات فائقة حتي تغطي أكبر مساحة ممكنة من الأرض تجني الرحيق وحبوب اللقاح من أزهار نباتاتها, ومنحها القدرة علي تحويل ذلك في بطونها إلي شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس. (11) الاستشهاد علي طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في خلق الإنسان باستخراج هذه البلايين من الرجال والنساء من نفس واحدة هي نفس أبينا آدم( عليه السلام) التي خلق منها زوجها, وبث منهما رجالا كثيرا ونساء, وخلق من هذه الأزواج البنين والحفدة, في دورة مبهرة للحياة, وجعل من كل هؤلاء من يتوفي مبكرا, ومنهم من يرد إلي أرذل العمر وضعف البنيان الجسدي, ومن أبرز مظاهره فقدان الذاكرة جزئيا أو كليا. (12) الإشارة إلي السمع قبل البصر في هذه السورة المباركة وفي العديد من السور القرآنية الأخري, والدراسات العلمية تؤكد السبق في تخلق حاسة السمع علي حاسة البصر في أجنة الإنسان وفي أجنة غيره من المخلوقات. (13) التلميح إلي الإمساك بالطيور مسخرات في جو السماء وإلي حقيقة أنه لا يمسكهن إلا قدرة الله البالغة. (14) استخدام تعبير سرابيل تقيكم الحر بمفهوم كل من الحرارة والبرودة لأن كلها درجات حرارة وهي مفاهيم نسبية فإذا كانت درجة الحرارة فوق المعتاد كانت تعبيرا عن الحر, وإذا كانت دون المعتاد كانت تعبيرا عن البرد, وهي حقيقة علمية لم تكن معروفة في زمن الوحي, ولا لقرون متطاولة من بعده. (15) تحريم أكل كل من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به, والبحوث العلمية أثبتت أخطار ذلك كله علي صحة الإنسان. وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها, ولهذا فسوف أقصر الحديث هنا علي النقطة العاشرة من القائمة السابقة التي عبرت عنها الآية الكريمة رقم(68) من سورة النحل, وقبل استعراض دلالتها العلمية لابد من الرجوع إلي كلام عدد من المفسرين في شرح هذه الآية الكريمة *وأوحي ربك إلي النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون... النحل.(68) * ذكر ابن كثير يرحمه الله ما مختصره: المراد بالوحي هنا( الإلهام) والهداية والإرشاد للنحل, أن تتخذ من الجبال بيوتا تأوي إليها, ومن الشجر ومما يعرشون. * وجاء في الظلال لسيد قطب رحم الله ما نصه: والنحل تعمل بإلهام من الفطرة التي أودعها إياها الخالق, فهو لون من الوحي تعمل بمقتضاه, وهي تعمل بدقة عجيبة يعجز عن مثلها العقل المفكر سواء في بناء خلاياها, أو في تقسيم العمل بينها, أو في طريقة إفرازها للعسل المصفي. وهي تتخذ بيوتها حسب فطرتها في الجبال والشجر ومما يعرشون أي مايرفعون من الكروم وغيرها... * وجاء في بقية التفاسير كلام مشابه لا أري حاجة لإعادته هنا. من الدلالات العلمية للآية أولا: في قوله( تعالي): * وأوحي ربك إلي النحل...: واضح من هذه الآية الكريمة أن النحل المقصود هنا هو نحل العسل بدليل قوله( تعالي) في الآية التي تليها:... يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس... و(الواو) حرف عطف لايدل علي الترتيب, وقد تكون بمعني( مع) لما بينهما من المناسبة لأن( مع) تعني المصاحبة, وواضح الأمر هنا أنها للجمع بين الشيئين دون الترتيب, فبعد أن ذكر الله( تعالي) عددا من دلائل قدرته في إبداع خلقه ومنها إخراج اللبن إلي ضروع الأنعام من بين فرث ودم, وإخراج الرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب( وإن أساء بعض الناس استخدامه), ذكر ربنا( تبارك وتعالي) في هذه الآية الكريمة قدرته البالغة في الإيحاء إلي الشغالات من نحل العسل أن تتخذ من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون, ثم أن تأكل من كل الثمرات وتسلك سبل الله المذللة لها, وأن تخرج من بطونها ذلك الشراب المختلف الألوان الذي فيه شفاء للناس, ولذلك جاء الخطاب في هذه الآيات موجها إلي أنثي عسل النحل( من الشغالات) لأنها هي التي تبني البيوت, وهي التي تطير إلي عشرات الكيلو مترات لتجمع رحيق الأزهار وحبوب اللقاح من العديد من النباتات المزهرة, وهي التي أعطاها الله( تعالي) القدرة علي إنتاج ذلك الشراب المعروف إجمالا باسم عسل النحل. والفعل( أوحي) هنا من معانيه الإلهام والتسخير, ومن معاني الوحي الإلقاء بالأمر أو بالخبر في خفاء وسرعة, والوحي من الله( تعالي) إلي نحل العسل قد يكون نوعا من الإلهام الفطري الغريزي الذي زرعه الله( تعالي) في جبلتها أو في الشفرة الوراثية الخاصة بنوعها, أو ألقاه في روعها بعلمه, وحكمته, وقدرته وكلا الأمرين يشي بشيء من الغرائز الفطرية لدي نحل العسل تعطيه قدرا من الذكاء, والوعي, والإدراك, والشعور, والإحساس الذي يمكنه من تمييز الأشياء, والأماكن, والاتجاهات, والأوقات, كما يمكنه من تنظيم, وترتيب, وضبط حياته الاجتماعية بعدد من القواعد الدقيقة التي وهبه الله( تعالي) إياها. وهذا العلم الوهبي الذي من الله( سبحانه وتعالي) به علي نحل العسل, لم يحرم منه أيا من مخلوقاته التي وهب كل أمة منها قدرا منه يتفاوت بتفاوت الدور المخطط لها في هذه الحياة, وفي الحدود التي خططها لها الله( سبحانه) بعلمه وحكمته وقدرته. وقد تعرف علماء الحشرات علي أكثر من12000 نوع من أنواع النحل, منها حوالي600 نوع يحيون حياة جماعية في مستعمرات متباينة الأحجام, والباقي يحيون حياة فردية. ونحل العسل المقصود في الآية القرآنية الكريمة التي نحن بصددها يحيا في جماعات منظمة تنظيما دقيقا للغاية, ولذلك جاء اسم السورة الكريمة بصيغة الجمع( النحل), وجاءت الإشارة في الآيتين الكريمتين المتعلقتين بهذه الحشرة المباركة بصيغة الجمع أيضا حيث يقول ربنا(تبارك وتعالي): * وأوحي ربك إلي النحل ... ويتراوح عدد الأفراد في خلية نحل العسل سنويا من40000 إلي80000 شغالة من إناث النحل العاقرات( العواقد), وحوالي المائتين من ذكور النحل, وملكة واحدة تبيض حوالي1500 بيضة في اليوم, ومايلقح من هذا البيض ينتج إناثا وملكات, ومالا يلقح ينتج الذكور. ووظيفة ذكر النحل منحصرة في إخصاب الملكة, بينما تقوم شغالات النحل العقيمة بجميع أعمال الخلية. والملكة تمثل أكبر الأحجام في الخلية, يليها في الحجم الذكور, ثم الشغالات. وتتمثل دورة حياة نحل العسل في المراحل الأربع التي تتحرك فيها من طور البيضة إلي طور اليرقة, إلي طور العذراء, ثم إلي طور الحشرة الكاملة. وواضح الأمر ان النحل المقصود في الآية الكريمة التي نحن بصددها هو نحل العسل, ويوجد منه أربعة أصناف هي كما يلي: (1) النحل الكبير(Apisdorsata). (2) النحل الصغير(ApisFlorea) (3) (النحل الهندي( الشرق(Apiscerana) (4) النحل الغربي(Apismelifera) والأصناف الثلاثة الأولي لاتزال تحيا حياة برية في العديد من دول جنوب شرق آسيا, والرابع هو الصنف المستأنس والمنتشر في غالبية دول عالم اليوم, ولذلك فهو أهم هذه الأنواع الأربعة. ونحل العسل لايستطيع العيش إلا في جماعات منظمة تنظيما دقيقا, فإذا انعزلت إحداها عن جماعتها لسبب من الأسباب فعليها أن تنضم إلي جماعة أخري من صنفها إذا قبلتها أو أن تموت. وجاء التعبير عن وحي الله( تعالي) إلي النحل بصيغة الماضي( وأوحي ربك إلي النحل) لأن ذلك يشمل الزمن كله من الماضي إلي الحاضر والمستقبل. وذلك لأن الزمن الذي يحد المخلوقين بحدود آجالهم, كما يحد أقوالهم وأفعالهم في حياتهم, هذا الزمن نفسه هو من خلق الله( تعالي), والمخلوق لايحد خالقه أبدا, وعلي ذلك فإن الزمن لايحد الله( جل جلاله), ولا يحد أفعاله وأوامره وفي ذلك يقول ربنا( تبارك وتعالي): * ويوم يقول كن فيكون قوله الحق.... الأنعام.(37) (ويقول( عز من قائل: * إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ... النحل .(40) (ويقول( جل جلاله: * ... سبحانه إذا قضي أمرا فإنما يقول له كن فيكون ... مريم.(35) (ويقول( سبحانه وتعالي: * إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ... يس.(83) ويقول( عز من قائل: * ... فإذا قضي أمرا فإنما يقول له كن فيكون... غافر.(68) وانطلاقا من ذلك فإن كلا من الماضي والحاضر والمستقبل بالنسبة إلي الله( تعالي) هو حاضر, لأن (الله( تعالي) فوق الكون بأماكنه, وأزمنته, ومختلف صور المادة الطاقة فية ومرجعية كل شيء في (الكون ومرجعية الكون كله إليه( سبحانه وتعالي. بالإضافة إلي ذلك فإن أقدم أثر للنحل في صخور القشرة الأرضية يرجع إلي أكثر من مائة وخمسين مليونا من السنين, وأمر الله( تعالي) إلي النحل, وإلهامه إياه بهذا السلوك المنظم الدقيق قد غرسه أو غرزه ربنا( تبارك وتعالي) في جبلة نحل العسل( أي في شفرته الوراثية) منذ الخلق الأول لأمة النحل, وجعل ذلك جزءا من فطرتها التي فطرها الله( تعالي) عليها, ولذلك تعرف باسم الفطرة أو الغريزة, ولما كان ذلك قد تم منذ أكثر من مائة وخمسين مليونا من السنين فهو بالنسبة لنا يرجع إلي ماض بعيد جدا. ولما كان الأمر أو الإلهام الإلهي إلي النحل مستمرا من هذا الماضي البعيد جدا إلي زمننا الراهن, وممتدا في المستقبل إلي أن يرث الله( سبحانه وتعالي) الأرض ومن عليها, كان التعبير عن عملية الوحي هذه بصيغة الماضي هو الأنسب لتغطية هذا الحدث القديم والمستمر إلي أن يشاء الله( تعالي). * ثانيا: في قوله( تعالي): وأوحي ربك...: و(رب) كل شيء هو مالكه, والمتكفل برزقه, وقضاء حاجاته, ومنشئه, ومنميه, ومربيه, والرقيب عليه, والمتكفل بإصلاح حاله, و(الرب) اسم من أسماء الله( تعالي), ولايقال لغيره إلا بإضافة, وقد استخدم هنا التعبير( ربك) ليفيد بأن الله( سبحانه وتعالي) هو رب كل شيء ومليكه, وهو واهب النعم, ومجري الخيرات, وموزع الأرزاق, ومسخر الكائنات لخدمة بعضها بعضا, ولخدمة ذلك المخلوق المكرم المعروف باسم الإنسان أو بني آدم ولم يستخدم تعبير( إلهك) لأن الإله هو المعبود المقدس المنزه عن صفات خلقه, وعن كل وصف لايليق بجلاله, والمقام هنا مقام التحدث بنعمة من أعظم نعم رزق الله علي الإنسان ألا وهي نعمة عسل النحل الذي فيه شفاء للناس, والأنسب في حال ذكر النعم هو مقام الربوبية, كما أن الأنسب في حال ذكر وجوب الخضوع للخالق الأعظم بالطاعة والعبادة هو مقام الألوهية. وضمير المخاطب في قول الحق( تبارك وتعالي): * وأوحي ربك إلي النحل.... يعود في المقام الأول إلي خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم), ثم من بعد ذلك إلي كل من يقرأ هذه الآية الكريمة أو يسمعها ليعلم أن له ربا كريما, عليما, حكيما أنشأ له هذه الحشرة المباركة التي وهبها من القدرة علي صناعة هذا الشراب المختلف الألوان, الذي فيه شفاء للناس, ما تعجز عنه البشرية مجتمعة. ثالثا: في قوله( تعالي)* :... أن إتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون والخطاب هنا إلي إناث النحل الشغالات اللائي يقمن بالبحث عن المكان المناسب لبناء بيوت النحل, ويقمن بالبناء بذواتهن, وبصيانة وتنظيف وترميم البناء, وعلي حمايته وتهويته, وهذا القدر من الحرية الكبيرة الذي أعطاه الله تعالي إلي لأمة نحل العسل في اختيار مسكنها, أي المكان الذي تبني فيه بيوتها من الجبال, ومن الشجر, ومما يعرشون له حكمة بالغة لأنه يتيح لهذه الحشرة الصغيرة الحجم فرصة الاستفادة بأكبر عدد ممكن من البيئات المختلفة وبما فيها من متنوع النباتات حتي تنوع ذلك الشراب المختلف الألوان, الذي يخرج من بطونها والذي فيه شفاء للناس, ويجعل الله تعالي من أنواعه المختلفة شفاء لأمراض متباينة. وهذا بخلاف العديد من الحيوانات بصفة عامة ومن الحشرات بصفة خاصة التي حدد الله( تعالي) لها بيئات لاتستطيع الخروج عنها وإلا هلكت. واتخاذ أي تجمع من تجمعات أمة نحل العسل القرار ببناء بيوت لها يحتاج إلي عمليات استطلاع وبحث وتشاور مكثفة حتي يتم الإجماع علي اختيار المكان, وتبدأ الشغالات في بناء مستعمرة النحل من الشمع الذي تفرزه من غدد خاصة في أسفل بطن كل منها تعرف باسم الغدد الشمعية وعددها أربعة أزواج. ومن إلهام الله( تعالي) للشغالات بناء بيوت النحل علي الهيئة السداسية الأضلاع للقضاء علي المسافات البينية التي يمكن ان تنشأ عن الأشكال الأخري, ولبناء أكبر عدد ممكن من البيوت في مساحة محدد, ولملاءمة هذه الاشكال السداسية لنمو يرقات النحل الاسطوانية الشكل. ويقوم علي حراسة الخلية عدد من الشغالات بالتناوب علي باب الخلية من الداخل, فإذا حضر مهاجم لدغته النحلة الحارسة وماتت علي الفور. ويقوم فريق آخر من الشغالات بأعمال صيانة وترميم ونظافة خلايا النحل باستمرار, ومن عجائب الأمور أن النحل لا يتغوط أبدا في داخل الخلية, ولايبقي فيها أدني قدر من القاذورات, كما تقوم بعض شغالات النحل بتلميع وترميم وصيانة الخلية من الداخل باستمرار وبسد أي شقوق يمكن أن تحدث فيها باستخدام صموغ( غراء) نحل العسل, وهي مواد صمغية( راتنجية) لزجة, وتجمعها شغالات النحل من براعم بعض النباتات ومن فلق بعض الأشجار, وتستخدمها أيضا في الإحاطة التامة ببقايا بعض الحشرات المهاجمة كي لا تتعفن قبل إلقائها إلي خارج الخلية. ويقوم فريق ثالث بتهوية الخلية وتكييفها, وفريق رابع يقوم علي العناية بالصغار في مراحل النمو المختلفة من البيضة إلي الحشرة الكاملة. هذه الدقة العلمية الفائقة في الإشارة إلي ما وهب الله( تعالي) النحل من ذكاء فطري وعلم وهبي تحاول المعارف المكتسبة اليوم الكشف عن شيء منه, والذي أشارت إليه الآية الكريمة بالفعل( أوحي). واستخدام صفة الربوبية للخالق( سبحانه وتعالي) بدلا من صفة الألوهية في مقام التحدث عن نعمة من نعمه, ومن توحيد الربوبية لله الخالق وصفه( تعالي) بأنه وحده هو واهب النعم ومجري الخيرات, بينما توحيد الألوهية يقتضي ألا يعبد سواه. كذلك فإن استخدام ضمير المخاطب في قول الله( تعالي): وأوحي ربك قصد به في المقام الأول خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم), ولكنه ينسحب أيضا علي كل قاريء أو مستمع لهذه الآية الكريمة. ثم إن في الإشارة إلي النحل بصيغة الجمع. ونحل العسل لا يعيش إلا في جماعات كبيرة, وفي توجيه الخطاب إلي المفردة من إناث النحل( الشغالات) بالفعل( اتخذي) وهن اللائي يقمن بالبحث عن السكني, كما يقمن علي بناء البيوت وصيانتها وحراستها ونظافتها وترميمها وتكييفها, وتهويتها, وفي هذه المساحة الهائلة من البيئات المتعددة التي وهبها الله( تعالي) لأمة نحل العسل, علي عكس غيرها من المخلوقات. كل ذلك يؤكد ان القرآن الكريم لايمكن ان يكون صناعة بشرية, بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله وحفظه بعهده في نفس لغة وحيه علي مدي أربعة عشر قرنا أو يزيد دون أن يضاف إليه حرف واحد أو أن ينتقص منه حرف واحد, وسوف يبقي محفوظا كذلك إلي أن يرث الله( تعالي) الأرض ومن عليها. فالحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمدلله علي نعمة القرآن, والصلاة والسلام علي النبي الخاتم الذي تلقاه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين.