وجدن أنفسهن في مواجهة مصير مجهول، بعد أن أصبحت كل واحدة منهن تحمل لقب أرملة، وبعد رحيل الزوج الذي كان المعيل الوحيد للأسرة، فلقد أرغمهن واجب الأمومة على ركوب الصعب من خلال خروجهن إلى ميدان العمل لإعالة أسرهن، التي تحملن بمفردهن مسؤولية الإنفاق عليها في غياب من يتقاسم معهن أعباء الحياة. استندت على الجدار لتجلس فوق كرسيها الخشبي الصغير وشرعت في ترتيب فطائر «البغرير» و «المسمن» التي تعرضها للبيع منذ بداية شهر رمضان في الحيز الصغير بمدخل باب سيدي عبد الوهاب الذي تتخذه مقرا دائما لممارسة تجارتها. كريمة ذات الخامسة والأربعين عاما لم تختر طواعية الخروج إلى ميدان العمل وقضاء ساعات الصيام الطويلة تحت أشعة الشمس الحارقة، لكنها وجدت نفسها في مواجهة مع تلك الظروف القاسية مرغمة على ولوج سوق الشغل لتأمين احتياجات أبنائها الثلاثة، بعد رحيل زوجها إلى دار البقاء نتيجة تعرضه لحادث حين كان يحاول عبور الطريق السيار. «مالقيتش لعوين..والأولاد باقين صغار وكيقراو والمصاريف كتيرة عليا» تقول سمية متحسرة على وضعها، لكنها في الوقت ذاته ظلت محافظة على ابتسامتها التي تستقبل بها زبناءها، الذين يحرص العديد منهم على اقتناء الفطائر التي تعدها حتى خارج أيام الشهر الكريم. «الحمد لله هاد الساعة وخا لوقت صعابت كاين باش نعيشو» بنبرة ملؤها الرضا عبرت سمية عن شعورها بالاطمئنان على حالها وأسرتها، لأنها تمكنت من القيام بواجبها في إعالة أبنائها على أكمل وجه، فهي تلتزم بدفع ثمن إيجار الشقة الصغيرة التي تعيش بها رفقة أسرتها، كما تتحمل إلى جانب ضروريات العيش من مأكل ومشرب مصاريف أبنائها المدرسية، في إصرار تام على استكمال دور زوجها في الدفع بأبنائها نحو طريق النجاح والمستقبل الزاهر. وتحمل حكاية سمية بين طياتها معاناة مزدوجة، فلقد شاء القدر لها أن تصبح أرملة وهي لا تزال امرأة في ريعان شبابها، بعد أن اختطف الموت شريك حياتها الذي تقاسمت معه أجمل سنوات عمرها داخل منزل والديه، حيث استقرت منذ زواجها. سمية الشابة اليتيمة ذات الرابعة والثلاثين سنة، تزوجت حين كان عمرها لا يتجاوز ستة عشرة عاما، وانتقلت من القرية التي ولدت فيها إلى مدينة وجدة حيث يشتغل زوجها، كي تعيش معه في منزل أسرته بأحد الأحياء الشعبية. وجدت سمية دفء الأسرة الفعلية في منزل حمويها، وزاد انتماؤها إلى أسرة زوجها بعد أن رزقت من الأخير بمولودة أدخلت الفرحة إلى حياتها، لكن سرعان ما ستنقلب الأمور رأسا على عقب عندما سيصاب زوجها بمرض عضال يرغمه على التخلي عن عمله، وإنفاق كل ما ادخره من مال من أجل اقتناء الأدوية التي يحتاج إليها. استمرت معاناة الزوج مع المرض لسنوات قبل أن يضع الموت حدا لها، بينما لم تبدأ معاناة سمية الحقيقية إلا بعد رحيل شريكها إلى دار البقاء، بحيث لم تستفد من تعاطف حمويها بعد أن أصبحت أرملة ابنهما، بل سيتغير أسلوب تعاملهما معها إلى الأسوإ، بعد أن وجدا نفسيهما مضطرين لتحمل مسؤوليتها والإنفاق عليها رفقة طفلتها. سمية التي غادرت مقاعد الدراسة في سن مبكرة، دون أن تتعلم أبجديات القراءة والكتابة، كانت تدرك جيدا أنها لن تستطيع الاعتماد على نفسها لتأمين احتياجاتها، ما دفعها إلى تحمل مختلف أشكال سوء المعاملة التي أصبحت تتعرض لها في منزل صهريها. صبر سمية وتعايشها مع الوضع الجديد لم يضمن لها البقاء داخل المنزل الذي عاشت فيه سنوات تزيد عن نصف عمرها، بحيث ستطالبها حماتها في أحد الأيام بمغادرة البيت وبضرورة بحثها عن عمل كي تستقل بسكنها رفقة صغيرتها، بعد أن افتعلت معها شجارا حادا، لأنها تريد لابنها المقبل على الزواج أن يستقر بالشقة التي كانت تعيش فيها مع زوجها الراحل. لم تجد سمية أمامها من وسيلة تؤمن لها مورد رزق سوى أن تعمل كخادمة، لتبدأ في التنقل بين البيوت، وتطرق أبوابها لتعرض خدماتها المنزلية، وهي التي كانت إلى أجل غير بعيد «مرات الراجل» تترفع عن العمل في وجود زوج يلبي كل احتياجاتها. على عكس سمية اختارت نجاة أن تستقل بسكناها رفقة إبنيها بعد وفاة زوجها، نظرا للمعاملة السيئة التي صارت تتعرض لها من طرف أسرة الأخير، والتي وصلت حد حرمانها وإبنيها من تناول ما يكفيهم من طعام بحجة أن ميزانية الأسرة لا تسمح. «خدامة خدامة اللهم نخدم على أولادي» بهاته العبارة لخصت نجاة الوضع الذي آلت إليه بعد وفاة زوجها، فلقد صارت تتحمل بمفردها عناء القيام بمختلف الأعمال المنزلية، لكن بالرغم من ذلك لم تعد كل المجهودات التي تبذلها في منزل صهريها تشفع لها لدى أفراد أسرة الزوج المتوفي الذين صاروا يرون فيها عبءا ثقيلا يجب التخلص منه، كما هو الشأن بالنسبة لابنيها الذين كانوا يستثنون دوما من مختلف الامتيازات التي يحظى بها باقي أطفال الأسرة من هدايا ولعب وملابس. نفد صبر نجاة التي فقدت الأمل في تغير الوضع نحو الأفضل، لتقرر الانتقال إلى منزل شقيقها، حيث ستقضي بضعة أسابيع، ثم تقرر المغادرة بمجرد أن تتاح أمامها أول فرصة عمل بإحدى المقاهي الشعبية، حيث ستوكل إليها مهمة تحضير وجبة «لحريرة» وبعض المأكولات الخفيفة. إلى جانب عملها الأساسي تعمل نجاة أيضا ك«طيابة» في الأعراس والمناسبات في سبيل تأمين دخل إضافي لتلبية متطلبات طفليها المتزايدة حتى لا يشعر أي منهما بالنقص أو الحرمان، وكي لا تضطر في يوم من الأيام لطلب يد العون من الآخرين.