تحل، يومه الاثنين، الذكرى الثامنة لأحداث 16 ماي 2003، والمغرب لازال يرزح تحت خطر حقيقي تزداد حدته ويتسع مداه. إنه خطر الإرهاب الذي غدا صناعة محلية، على درجة عالية من الإتقان في أساليب التأطير والاستقطاب والتنظيم. تحل الذكرى الثامنة والمغرب يلملم جراحه بعد انفجار جديد كانت مقهى أركانة بمدينة مراكش مسرحا له، خلف العديد من الضحايا الأبرياء الذين استهدفهم هذا العمل الإجرامي، وتلته حملات تنديد دولية ووطنية، وسلسلة من الوقفات بساحة جامع الفنا، كان آخرها الوقفة التي نظمها حزب التقدم والاشتراكية، مساء أول أمس السبت، برئاسة أمينه العام نبيل بنعبد الله. وتتواصل، منذ أمس الأحد، الوقفات المخلدة للذكرى الثامنة لأحداث 16 ماي، ومنها التي سينظمها حزب التقدم والاشتراكية مساء يومه الإثنين بساحة الحمام بالدار البيضاء، وغيره من التنظيمات الحزبية والجمعوية. وهي لقاءات ترمي التشديد على مناهضة الشعب المغربي قاطبة للسلوك الإرهابي، وتهدف التأكيد على بلوغه مرحلة الوعي الكامل بضرورة التعبئة واليقظة، لمقاومة شردمة تبتغي النزعات التكفيرية والميولات الفاشية منهجا، والإرهاب والفتنة والقتل أسلوبا مستباحا. لقد كان رد فعل الوقفات المخلدة لأحداث 16 ماي 2003 من طرف كل الفعاليات التي تصدح بصوت المواطنين، سواء من خلال ما عبرت عنه، هذه السنة أو على مر السنوات السبع الماضية، من مشاعر الشجب والاستنكار والإدانة، أو عبر ما تم التأكيد عليه، بعد حادث أركانة، من إرادة صريحة لمواجهة كل المؤامرات التي تستهدف استقرار وأمن ووحدة البلاد، دليلا ساطعا على تشبث المغاربة بالقيم الأصيلة للتسامح والتعايش، وبرهانا على وعي كامل بالطبيعة المركبة والمعقدة للإرهاب، كظاهرة تختزن أسبابا كثيرة ومتداخلة، تسهم جميعها في إنتاجه بنسب متفاوتة، ولها دورها في تفريخه، وفي نشر الكراهية والأحقاد، والدفع نحو ردود فعل جنونية، عند من لا يجدون في أنفسهم القدرة على التعبير عن الذوات وحماية الحقوق والمصالح بالطرق السليمة المشروعة. ويمكن القول إجمالا إن هناك رأيين متقابلين حاولا إيجاد مكان لهما في خضم التفسيرات التي أعقبت انفجار مراكش كامتداد للأحداث الإرهابية التي سبقته. رأي يحاول ربط الإرهاب بأياد خارجية تستغل هشاشة الواقع الديمقراطي في البلاد. ورأي آخر لا ينفي العامل الخارجي لكنه يركز بالمقابل على اتساع دائرة الفقر كنقطة ضعف تيسر مهمة التغلغل الخارجي. صحيح أن الإشكالية الديمقراطية في المغرب لا زالت تسيل الكثير من المداد وتؤثت لحوارات ومناقشات عديدة في أكثر من منبر، وصحيح أيضا أن الفقر المدقع انتشر ببلادنا نتيجة سياسات العولمة والرأسمالية المتوحشة واستفحال ظاهرة الباحثين عن عمل والتي قضت على آمال الشباب في ممارسة حياتهم الطبيعية كغيرهم من المواطنين، وأدت إلى اتساع الفجوة الطبقية بين الأغنياء والفقراء. لكن في التفسيرين المتقابلين أعلاه إجحاف للحقيقة، وقصور عن الرؤية الشاملة للواقع المغربي الذي فتح آفاقا واعدة لكل المغاربة بعد خطاب التاسع من مارس الذي كان بمثابة نسمة ديمقراطية هبت على الكيان المغربي، زادت في دعم الحراك الاجتماعي وأفضت إلى دينامية في القرار الحكومي الذي تعهد بانفراج على المستوى الاقتصادي والاجتماعي سواء فيما يخص التشغيل أو تحسين دخل موظفي القطاع العام وشغيلة القطاع الخاص. فما معنى الضربة الإرهابية غير المتوقعة في سياق هذا الحراك وهذه الرغبة الجامحة في تمكين البلاد من دستور جديد وآليات اشتغال مؤسساتية قادرة على رفع التحديات المنتظرة وعلى معالجة الثغرات الكامنة؟. لقد حملت التحريات الأمنية عقب الأحداث العنيفة المتوالية منذ ماي 2003 بالدار البيضاء، بعض عناصر الجواب التي تشير إلى أن الإرهاب والتطرف في بلدنا لا علاقة له بالواقع الاجتماعي والاقتصادي الذي لم يعد عسيرا على الفهم بعد خطاب تاسع مارس، بل يستمد كينونته من مرجعية إيديولوجية وفكرية صرفة. لقد أبانت التحريات أن الشريحة التي اختارت الأسلوب الدموي الشنيع تتبني رؤية للعالم تتسم بالانغلاق الفكري والجمود العقائدي. تمارس الإرهاب والعنف منطلقة من عقلية امتلاك الحقيقة المطلقة، وعدم احتمال الرأي الآخر ولا تتسامح مع تنوع الآراء، وترفض الحوار رفضا مطلقا، وتسعى إلى تغيير الواقع بقوة العبوات الناسفة، حتى لو أهدرت دماء مواطنيها ألف مرة كما قال عادل العثماني بكل برودة أعصاب عند إعادة تمثيل الجريمة الشنعاء بمقهى أركانة. لقد عانى المغرب الكثير من الفتن التي أنتجها الراكبون على صهوة الانحباس الفكري لإثارة النقع في الحقل السياسي، وترسيخ التمزق والاضطراب في المجال الاجتماعي، من خلال فرض وترويج توجهات متطرفة توظف حالات التأزم الاجتماعي، لخلق أجواء الانغلاق، والانحراف عن المنهج الجماعي للمغاربة، في تعبئة أذهان الناشئة، واستقطابهم نحو توجهاتها. هذا الواقع، يفرض على المغرب وهو يستحضر أحداث تفجيرات 16 ماي، إعادة قراءة ظاهرة الإرهاب من زاوية سياسية، وبذل مزيد من الجهود لنشر الوعي الصحيح وفسح المجال لحرية الفكر والرأي، ومعالجة المشاكل والضغوط التي يعاني منها المجتمع بشكل شفاف وصريح، وحل القضايا الجوهرية للمواطنين المغاربة، كمقدمة لا محيد عنها لخوض معركة الصراع الفكري والإيديولوجي، في مواجهة النزعات المتطرفة. بمعنى آخر، على المغرب وهو يستحضر صفحة 16 ماي الدموية من تاريخه، أن يعتمد مقاربة شمولية في التصدي لظاهرة الإرهاب، تتضمن، من جهة، الجانب الأمني لحماية المواطنين والممتلكات واستقرار البلاد، ومن جهة أخرى، تسريع وتيرة الإصلاحات التي دعا إليها الخطاب الملكي لتاسع مارس من أجل وضع قطار التنمية وبناء الديمقراطية والنظام الحداثي على السكة الصحيحة. لقد كان حزب التقدم والاشتراكية محقا عندما أكد، في وقفته التضامنية لأول أمس السبت بجامع الفنا، على أن الأحداث الإرهابية تدعو كل القوى الحية الفاعلة في البلاد إلى مهام كبرى، هي في صلب المشروع الديمقراطي الحداثي. مهام ومسؤوليات طالما نادى بها حزب التقدم والاشتراكية، تتمحور أساسا حول المضي دائما إلى أمام على درب الإصلاح الشامل وفي كل الميادين، إصلاح يضمن حق المواطنين في سياسة اجتماعية واقتصادية هاجسها التوزيع العادل للخيرات الوطنية، وتعميم التمدرس وبلوغ قضاء مستقل ونزيه وتأهيل المجتمع.. كرد صارم على إرهاب لن يثني المغرب القوي بمؤسساته وبصرحه الأمني عن مواصلة المسير. فتحية، في هذه الذكرى، لكل رجال الأمن والدرك ولكل القوات الأمنية. ورحم الله الشهداء الذين قضوا في أحداث لن تزيد المغاربة إلا عزما على مواصلة الجهاد الأكبر لتحقيق الطموحات في التنمية والتقدم، ومجابهة كل المخاطر التي تستهدف مجتمعا ظل وسيبقى متحليا دوما بالانفتاح والتسامح وروح السلم والتعايش، معاديا بالفطرة لكل نوازع التطرف والعنف متصديا بالسرعة والحزم والصرامة التي تستدعيها خطورة الجريمة الإرهابية التي تمتح قوتها من الجهل وغشاوة التحريف للمقاصد المتعارف والمتوافق بشأنها من طرف كل المغاربة.