في هذا الحوار نتناول قضايا الشعر المغربي في سياق تجربة حديثة للشاعر المغربي الدكتور مصطفى المسعودي الذي يعتبر بحق احمد مطرالمغربي، كما نتناول جدلية صعود الرواية وافول الشعر، بالاضافة الى تقييم لواقع الشعر المغربي.. 1 لديك الكثير من الاهتمامات ؛منها ماهوسياسي ومنها ماهو ثقافي وشعري ، كيف توفق بين المجالين ؟ شكرا على الاستضافة الكريمة ، أعتقد أن الأصل هو أن يكون التوافق قائما فيما بين المجالين السياسي والثقافي(الإبداعي)،ومن صميم الثقافة العربية الإسلامية أن يكون الشاعر مسكونا أيضا بالفعل السياسي ، وفي شخصي المتواضع يتساكن بالفعل هذا التزاوج فيما بين الشاعر والسياسي وهذا ليس بدعة بل إن الشعراء الذين كتبوا ومارسوا السياسة في الوطن العربي وغير العربي هم كثيرون ؛ وذلك لأن الشاعر قبل كل شئ هو إنسان يتفاعل مع الأشياء والظواهر من حوله ..بل هو شاعر لأنه لربما يشعر أكثر من غيره بعمق الظواهر وأبعاد هذه الأشياء ، وهو شاعر لأنه يستشعر في أعماقه الأصداء المأساوية للأحداث ثم يقوم بصياغة هذه الأصداء عبْر الكلمة المُثقلة بالإحساس والانزياح..ولاأدري كيف يتفاعل الشاعر مع الطبيعة في سكونها ومع الوجود الذاتي في تحوّلاته ثم لا يتفاعل مع ابدالات الواقع في امتداداتها لاجتماعية والسياسية وتناقضاتها الصارخة..من هنا يكون التعبير عن الوجود السياسي قدراً لا مفر منه بالنسبة للشاعر في رأيي،وهذا هو الذي كان باستمرار... فهل التاريخ في أحداثه الكبرى سوى صياغة لأحلام شعراء.. وابحثْ عن أكثر اللحظات حرارة ومرارة وقوة وفاعلية سياسية في التاريخ ستجد أن الشاعر كان حاضرا في صياغتها على مستوى التخيّل كما على مستوى الانجاز أيضا ..لهذا قلتُ إن التوافق هو الأصل ولكن ليس معنى ذلك أن يكون الشاعر صدى خافتا للسياسي كلا.. ذلك هو الذي يُسئ أشد الإساءة للتوافق بين العالمين ، وقوة الشاعر وضعفه تتجليان من خلال القدرة على أن يكون التعبير غير متكلف وغير خاضع لسطوة البعد السياسي . 2 لديك الكثير من القصائد المنشورة في الجرائد والمواقع الالكترونية ، لماذا لم تصدر لحد الآن ديوانك الشعري الأول ؟ في الواقع لم يكن إصدار الديوان الشعري هاجسا يحكمُ تجربتي مع الكلمة ،أنا بدأت الكتابة في وقت مبكر من عمري ، وتحديدا في المرحلة الإعدادية والثانوية حيث كتبت الشعر العمودي ، ثم طوّرت تجربتي في المرحلة الجامعية ،وراكمت الكثير من القصائد إلا أني كنت دائما أتهيّب من النشر احتراما للكلمة الشعرية ، وكنت دائما اعتبر نفسي في طوْر البداية ،وأن الدخول إلى الساحة بالديوان الشعري ينبغي أن يحمل رؤية إبداعية أصيلة وحقيقية ،أما النشر من أجل النشر أو النشر لتحصيل لقب شاعر فذاك ما كنت أرفضه باستمرار ، فكم هو سهلٌ أن تجمع الكثير من الكلام الرّكيك بين دفتيْ كرّاس ثم تضع على الكراس عبارة "ديوان شعري"،ومع الأسف هذا الإجراء صار اليوم يستغرق الساحة بشكل ممْجوج ، إن الديوان ليس هو من يصنع الشاعر ، بل الشاعر هو الذي يصنع الديوان والشاعر هو الذي يصنع نفسه من خلال تجسيد تجربة تفرض ذاتها بقوتها وأصالتها ، وهذا المنهج هو الذي يفسّر علاقة الشعراء المغاربة الكبار بالنشر ، وتحضرني هنا على وجه الخصوص تجربتا الشاعرين الرائدين أحمد المجّاطي ومحمد الخمار الكنوني رحمهما الله . وحتما هذا الكلام لايلغي أهمية الديوان الشعري ، ولا يسقطها من اهتمامي ، أنا الآن في رصيدي أكثر من ثلاثة دواوين شعرية سأعمل على طبعها بحول الله متى سمح المجال بذلك وأتمنى أن أتفرغ للأمر قريبا . 3 البعض ممن قرؤوا قصائدك يشبهونك بالشاعر العراقي" أحمد مطر"،فماهي أوجه الشبه والاختلاف بينكما؟ البعض الأخر كان يرى في تجربتي المتواضعة خلال بدايتها في الثمانينات من القرن العشرين أصداء الشاعر الكبير نزار قباني ،إلا أني كنت دائما أرفض أن أكون صدى لشعراء آخرين ، مغاربة كانوا أومشارقة ..أنا كتبت الشعر الاحتجاجي حتى قبل بروز تجربة الشاعر المتميز أحمد مطر ، وليس كل التقاء في فضاء من فضاءات الشعر الرحيبة يعني التماهي بين التجارب الشعرية، لهذا أظن أن تجربتي المتواضعة هي مستقلة بذاتها ، لها خصائصها التكوينية الذاتية التي تعطيها شرعية الوجود الى جانب كل ما هو موجود ، ألتقي ربما مع الشاعر أحمد مطر في حجم المرارة التي أقرأ من خلالها الأشياء والظواهر إلا أن عناصر الاختلاف من جانب آخر كثيرة ..وان كل قراءة متأنية في تجربتي المتواضعة تقف على مساحات واسعة للتناصّ غير المقصود مع أصوات شعرية عربية وعالمية قديمة وحديثة ، وهي أصوات تقتحمُ لغتي الشعرية دون استئذان حتى ؛هكذا يمكن أن تلمس أحيانا في التجربة المتواضعة عنجهية المتنبي ووقاحة بشار وسخرية أبن الرومي وأبي نواس وجنون قيس بن الملوح، كما يمكن أن تقرأ اثارا من الصراخ الدفين لدى نازك الملائكة وألم السياب وانكسار أمَل د نقل ورومانسية أبي القاسم الشابي وعلي محمود طه ورمزية عمر أبو ريشة وعبثية أدو نيس ..كما قد تجد الحضور القوي للغة القصيدة المغربية المعاصرة مع أسمائها الكبيرة : المجاطي والكنوني ومحمد علي الرباوي وحسن الأمراني ....كما قد تمدك القراءة نفسها أيضا بأصداء الحكي القصصي عند زكريا تامر وأحمد بوزفور ..هذا إلى جانب روافد أخرى عديدة طفولية وأسطورية وغنائية ومسرحية ..وأنا أعتز كل الاعتزاز بهذا الحضور وأعتبره عامل إثراء لتجربتي ، والتي لاغرابة أن تراها في بعض قصائدها تستلهم لغة الشاعر أحمد مطر أو مظفر النواب أو غيرهما لكن دون السقوط في المحاكاة الحاطة من هوية الشاعر وفرادته فذاك ما أرفضه شخصيا ولا أرضاه لنفسي . 4 العديد من النقاد يروجون لمقولة مفادها أن الشعر أفل نجمه بعد تصاعد نجم الرواية ..هل أنتم متفقون معهم ؟ لا..لاأتفق مع هذه المقولة وهذا الترويج خاطئ في طبيعته ،وأتمنى ألا تكون من ورائه خلفيات مُغرضة تريد النيل من مكانة فن الشعر في المحيط الأهلي العربي الإسلامي ،لا يمكن لنجم الشعر أن يختفي من سماء هذا المحيط ولاتملك الرواية أو فن الحكي بصفة عامة أن يزيح الشعر عن سماء الريادة في مجال التداول الإبداعي العربي الإسلامي ؛ وذلك لأن الشعر كان بالفعل وسيظل ديوان العرب ؛فعبر قرون مديدة ترسّخ باعتباره الوسيلة المركزية في التعبير عن الذائقة الفنية ، وطبعا هنا تدخلت العديد من العوامل الحضارية والتاريخية والثقافية والبشرية ...في اختيار الشعر دون باقي الفنون ليأخذ موقع الصدارة تماما كما اختار اليونان القدامى فن المسرح للتعبير عن مِخيالهم الجمْعي ، فيما عزف العرب والمسلمون قديما عن هذا الفن ورأوا فيه بساطة التعبير وسطحيته ، لهذا اعتقد أن الأمة العربية الإسلامية هي أمة شاعرة في المقام الأول وتملك قدرة هائلة على استنطاق الأشياء وفهم الظواهر من خلال الإيحاء الشعري القائم على اللغة وانزياحاتها غير المحدودة ، وإذا كان الغرب اليوم في ظل عولمة مجنونة يسعى جاهدا لفرض خياراته الرمزية والفنية عبر الإكراه الإعلامي في السياسة والاقتصاد والحياة والذوق والفن ...فان التسليم لما يُروَّج من مقولات ليس الردَّ الصحيح على التحدي الحضاري القائم ..الردّ يكمن في حماية هذا الفن البديع (الشعر) وتفعيل حضوره عوض إزاحته ، وطبعا هذا لايلغي البتة أهمية الاحتفاء المُماثل بفن الحكي باعتباره شكلا آخر من أشكال التعبير الأدبي،نحن أمة تتميز بقدرتها على استيعاب باقي الأنماط الحضارية وصهْرها ضمن المنظومة المتميزة ، وهذه القدرة هي التي ينبغي أن تحكمنا اليوم عوض منطق الاستلام لشئ يراد له أن يكون قدرا بكل الوسائل . 5 هناك العديد من الجمعيات والتظاهرات المهتمة بالشعر ،هل يمكن القول بأن الشعر المغربي بخير ؟ يصعب أن نستسلم لوهْم كاذب فنقول إن الشعر المغربي اليوم بخير ،وحتى القول بأن" هناك العديد من الجمعيات والتظاهرات المهتمة بالشعر..."يحتاج إلى ما يؤكده في الواقع ،أين هذه الجمعيات ؟؟كم عددها ..؟ ما حضورها ..؟؟ما تأثيرها ...؟دعْكَ من الضجيج الإعلامي الموْسمي الذي دأبنا على سماعه من سنة لسنة ..السؤال هو هل للشعر في المغرب باعتباره فنا نبيلا من حضور حقيقي في البناء الرمزي والجمالي والثقافي للإنسان المغربي وللناشئة على وجه الخصوص ؟نحن نتحدث عن مؤسسة أوْقلْ مدرسة رمزية هائلة الفعالية في التواصل ،لكن ديناميتها في الواقع ،أوعلى الأقل كما تبدو لي شخصيا، هي جدّ باهتة ..نعم هناك كثير من الكلام والتنظير والاحتفال والحذلقة النقدية وكل يوم تقذفنا المطابع بأسماء جديدة ودواوين جديدة...ولكني "أسمع ضجيجا ولا أرى طحينا"كما يقول المثل ،آلاف النصوص الشعرية تتصدر أعمدة الصحف والمجلات ولكن.. من يقرؤها ...؟ من يتداولها ..؟وهل هي شعر أم شئ آخر...؟هذه كلها أسئلة تصب بالفعل في سؤالك: هل الشعرالمغربي بخير؟ أنا أرى أن وضع الشعر بالمغرب اليوم لا يمكن فصله عن الواقع العام للوجود المغربي خاصة في حيزه الثقافي ، نحن نعيش حالة من التيْه الثقافي ترتبط بأزمة حقيقية تعرفها النخب التي تصدرت الواقع المغربي خلال العقود الأخيرة ،والتي كانت تحمل منظوراتها الخاصة للثقافة والفن والحياة ، هذه المنظورات أعْطتْ أقصى ما لديها ..الآن استنفذت أغراضها ووصلت إلى الباب المسدود ، ولعل أبرز ما ميّز المشاريع التي حملتها هذه النخب تجلى أساسا في حجم التسويق الإعلامي لهذه القيم بحماس منقطع النظير وبكثير من البهارات اللفظية مع ادعاء تمثيل العصر والانتماء إلى أرقى منجزاته الحداثية كما تميزت من جانب آخر بنزعتها الفوضوية القائمة على الميل إلى تدمير "المنطق الداخلي" للشعر العربي ككل بدعوى حرية الإبداع والتخلص من الموروث ، هكذا تمّ التسويق الواسع لشعارات من قبيل :تجاوزا لمتعاليات ..وعدم الخضوع للقاعدة ..والمقصود عدم الالتزام بالأسس الأولية للفعل الشعري في أبعادها الدلالية والزمانية الإيقاعية والتركيبية ...حتى صرنا أمام حالة من "المسْخ"الذي لاهو بالشعر ولا بالنثر ...عبارات تائهة بلا معنى ولا وزن ولا لغة ...وبالنتيجة صرنا أمام الشاعر/ اللاشاعر ،ولأنه تم اغتيال أسُس الخطاب الشعري الأصيل فبإمكان الكل أن يكون شاعرا يكفيه جمع كلمات مبعثرة الأسافل والأعالي ،بتعبير ابن الرومي ،لتجعل منه الماكينة الإعلامية الشاعر الذي يسافر اسمه على أوسع نطاق . وطبعا هذا ليس الوجه الوحيد للوضع الشعري المغربي ..كلا انه الوجه السلبي ، وبالموازاة معه تسمو قامات شعرية مغربية رفيعة ترْشح بكثير من النبل والأصالة والإبداع ، وهي أسماء تفرض وجودها برغم الحصار وتشق طريقها يوما بعد أخر وتعدُّ استمرارا طبيعيا لنفس مدرسة الشعرالمغربي المعاصر التي وضع أسسها شعراء من أمثال أحمد المجاطي ومحمد الخمار الكنوني.. 6 ماهو تقييمك لواقع الشعر المغربي مقارنة مع الشعر في المشرق العربي ؟ لا ينفصل واقع الشعر في المغرب عن الواقع الشعري في المشرق العربي ؛فالمغرب بالرغم من كل المحاولات الاستعمارية الخبيثة التي كانت ولازالت تعمل لفصله عن محيطة الاستراتيجي العربي الإسلامي ، يظل في طبيعته التكوينية الحضارية جزءا لا يتجزأ من هذا المحيط الواسع، وهذا هو الذي يفسر ماهية القصيدة الشعرية المغربية باعتبارها إبداعا متميزا ضمن منظومة حضارية مشتركة تم إثراؤها بروافد شتى إثراء ينمُّ عن كثير من العبقرية والنبوغ وهذا ما نجد مثاله قديما في الشعر الأندلسي والشعر المغربي كمانجد نفس الإثراء المتبادل في الزمن الراهن حيث التقط الشعراء المغاربة النفسَ الإحيائي والتجديدي منذ انبثاقه في المشرق العربي مع بداية النهضة ، ثم طوّروا التجربة مع الامتداد في الزمان ، ويُلاحظ في هذا الصدد أيضا أن واقع الشعر في المشرق اليوم لا يختلف كثيرا عن واقع الشعر المغربي الذي بسطنا بعض مظاهره في السؤال السابق ، فهنالك نقرأ أيضا تجليات الفشل الذي صار إليه التيار الحد اثوي ونقرأ العزلة التي انتهت إليها شعاراته ، كما نقرأ من جانب آخر امتداد التجارب الأصيلة وعودتها التدريجية بقوة إلى الساحة الإبداعية الأمر الذي يُنبئ بميلاد مدارس شعرية عربية واعدة تخرج من قلب الرماد الثقافي الهجين بحول الله .