صار من المعلوم أن الأصل الذي تجمع عليه السكان مند ما يزيد عن 6000 سنة قبل الميلاد في هذه المنطقة، هو الماء، وعبر التاريخ كان المصدر الأصلي للعيش، هو الصيد والفلاحة، وبذلك استقروا على ضفاف الأنهار، ومارسوا الفلاحة على الأراضي المحيطة بها، إلى غاية تاريخنا هذا، إلا أنه بعد استقلال المغرب، وفي إطار عملية ترسيم الحدود مع الجزائر، أصبحت جل هذه الأراضي محسوبة على التراب الجزائري، ولعل هذا ما يفسر الهجرة الكبيرة التي شهدتها المدينة، إلى حد يمكن وصفه بالإخلاء الجماعي، للبحث عن مصادر عيش بديلة، وما زاد الطين بلة، هو التقسيم الإداري الذي عمدته السلطات المغربية، خصوصا بعد إحداث جماعة عبو لكحل من جهة المنفذ الوحيد للمدينة على المغرب، حيث أصبحت تشكل طوقا حقيقيا على عنق هذه المدينة، لأن هذه الجماعة الفتية والتي لا يتعدى عدد سكانها بضع عشرات، وهم محسوبون تاريخيا على الواحة، أصبحت تتصرف في مساحات أرضية تعد بعشرات أضعاف المساحة المحسوبة على جماعة مدينة فجيج التي تغوص في عمق التاريخ إلى أزيد من 8000 سنة من الآن، هذا ما تؤكده التقارير العلمية التي استندت على النقوش الصخرية المتواجدة في منطقة حيتاما، وكذلك المقابر الجماعية المعروفة في المنطقة بالكراكير( les tumulus ) ثم الأدوات التي وجدت فيها، والمستعملة في ذلك الزمان. وتأتي الضربة الموجعة عندما تم اعتبار فجيج تابعة لمنطقة تافيلالت في إطار الجهوية، والمعروف أن المدينة مند التاريخ، وهي مرتبطة ارتباطا عضويا بالجهة الشرقية، خصوصا بمدينة وجدة، إلى درجة يعتبرها الفجيجيون امتدادا سوسيولوجيا وسيكولوجيا واقتصاديا للمدينة، رغم مسافة 380 كلم، التي تفصل بينهما، وذلك من خلال الترابط القوي للعائلات التى أصبح نصف بعضها في فجيج، والنصف الآخر في مدينة و جدة، وكذلك من خلال الحركة التجارية بين المدينتين. هذا الإجراء، يدخل في مجال المقولة المعروفة" تمسك غريق بغريق" لأن منطقة تافيلالت حالها حال مدينة فجيج، تحتاج إلى الدعم بربطها بمناطق ذات الاقتصاد المتحرك، والقوي لبلوغ التنمية المستدامة، لا بربطها بالمناطق الفقيرة والضعيفة، التي قد تشدها إلى الخلف لأنها ستشكل عبئا إضافيا يسبب تأخيرا في وتيرة النمو. لقد شكلت المحاور الأربعة: 1 فقدان الأراضي التي أصبحت في العمق الجزائري، وبدون أي تعويض، علما أنه كانت المصدر الوحيد للعيش للكثير من الأسر، ثم الحالة النفسية والإحساس بالغبن، لأن الارتباط بالأرض يدخل ضمن الثالوث الذي قد يقتل من أجله الإنسان" الأرض والعرض والنفس"، وإثبات أجهزة ورادارات للمراقبة، بشأنها تحرم الساكنة حتى من ولوج ما تبقى من أراضيهم على الشريط الحدودي المصطنع. 2 التقسيم الإداري للمجال الترابي الذي بقي مبهما، ولم تتوصل الجماعة بأي وثيقة رسمية تحدد ما لها، وما عليها. 3 التقسيم الجهوي الذي قطع الحبل السري الذي يربط مدينة فجيج بالجهة الشرقية، وعندما يقطع الحبل السري الذي يؤمن الغداء والحياة، فماذا ينتظر غير الخناق و الموت؟ 4 القطاع الصحي الذي يمكن وصفه بشبه المنعدم، فأي علة تصيب المواطن في هذه المدينة تستوجب التنقل إلى مدينة بوعرفة، أو مدينة وجدة، و نقل المريض لمسافات طيلة يضيف على معاناته الكثير. وكم من مريض أو امرأة حامل لفظوا أنفاسهم الأخيرة وهم في الطريق إلى المستشفى؟ الأسباب الجوهرية التي أشعلت فتيل الاحتجاج، وبالتالي عندما رفع السكان شعارات حول رفع الحصار، فإنها لم تكن مزايدات، أو مبالغات كما قد يتبادر إلى أذهان البعض، فبماذا يمكن أن نصف ما ذكرناه غير الحصار؟ فأي نتيجة قد تترتب عن ذلك غير الموت والانقراض؟ هكذا عبر الجميع عن جنازة محتملة يترحمون فيها عن مدينتهم، إن لم تتحرك الجهات المعنية للبحث عن حلول حقيقية. رسالة قوية وجد معبرة، تقول للمسؤولين ما لا يمكن قوله باللسان، يوجد من المؤشرات ما يؤكد ذلك، يكفي أن أذكر أن تتبع المبيان الديموغرافي في كل مكان على وجه البسيطة، يبين أنه في تزايد إلا في هذه المدينة، تراجع في سنوات قليلة أكثر من النصف، مؤسسات تعليمية أصبحت شبه فارغة بعدما كانت تشكو من الاكتظاظ، فعلى سبيل المثال، لا الحصر، ثانوية النهضة الإعدادية، تراجع فيها عدد التلاميذ من عدد يفوق 800 تلميذ، إلى 200 تلميذ، في مدة تمتد من أواخر الثمانينات إلى الآن، أي أكثر من أربعة أضعاف،ى وهذا ليس لأنه أحدثت مؤسسات جديدة، بل الوضع بقي كما كان عليه. حقول وبساتين كانت فيحاء، أصبحت عبارة عن أطلال، نخيلها يعبر عن واقع أهلها . ألا يستدعى هذا طرح تساؤلات كبيرة؟ ألم يحن الوقت لدق ناقوس الخطر؟ ألا يكفي من المعطيات ما يبرر إعطاء بعض الاستثناءات لهذه المدينة العتيقة، على غرار بعض المدن الحدودية، كانت أول المدن التي وقفت صامدة تطارد توغل المستعمر إلى الأراضي المغربية عبر الجزائر، ساهمت في الاقتصاد الوطني عبر أبنائها بمئات من التجار، ورجال الأعمال الناجحين الذين يساهمون في تشغيل آلاف المواطنين على مستوى الوطن، ساهمت بتوفير كميات كبيرة من العملة الصعبة عبر الحوالات التي تبعث بها جالية المدينة خارج الوطن، حيث احتلت في سنة من السنوات المرتبة الثانية وطنيا من حيث العملة الصعبة التي توفرها الجالية، رغم أن المدينة ليس فيها إلا بضع من الكيلومترات. في الشأن الثقافي والتربوي، ساهمت بعشرات الأساتذة الجامعيين، والكتاب، والمفكرين، والشعراء والأدباء... ومئات الأساتذة بين ابتدائي، وإعدادي، وثانوي. في المجال الصحي ساهمت بمئات الأطباء، والجراحين، والممرضين، كما أن جالية فجيج شرفت المغرب، مثلته في الخارج أحسن تمثيل، بتوفير أطر، وأساتذة، وأطباء، ورجال الأعمال، أي أنها جالية منتجة ومساهمة في تنمية البلدان التي يستقرون بها... ونقصد بالاستثناءات، أنه يتوجب على الدولة أن تنتج قوانين متحركة، تأخذ بعين الاعتبار خصوصيات بعض المناطق. لنأخذ على سبيل المثال نظام التأمين على السيارات. المواطن في بعض المدن الصغيرة على غرار مدينة فجيج، يحرك سيارته لمرات قليلة في الشهر، حتى وإن تنقل بها فإن احتمال حدوث الحوادث ضعيف جدا، أو غير موجود، فلا يعقل أن يؤدي واجبات التأمين مثله مثل الذي يتنقل في المدن الكبيرة، واحتمالات الحوادث فيها وارد بقوة، أي أن هذه المناطق لا تكلف ميزانية التأمين شيئا. نفس الشيء بالنسبة للعديد من الضرائب، يجب أن تراعي هذه المتغيرات... لقد قدم أهل فجيج ملفات يطرحون فيها مشاكلها، ويقترحون فيها العديد من البدائل والحلول للسلطات المعنية، ويبدو أنها بقيت على الرفوف، وبهذا تكون السلطات تساهم في نشر ثقافة الاحتجاج، لأنها لا تبادر إلى حل المشاكل حتى تقوم الاحتجاجات، و بقدرة قادر تنزل الحلول من السماء. هذا ما تعكسه التجارب؛ لأن المواطن أصبح على قناعة بأنه لا يمكن أن ينال حقوقه، إلا بالتظاهر والضغط، وإثبات المقولة المشؤومة" الحقوق تنتزع ولا تعطى".