"أعتقد أن أي عمل أكاديمي، أي قراءة، أي مشاركة بمؤتمرات، مشاهدة أفلام وثائقية أو سماع قصص وروايات، لم تكن لتسمح لي بإدراك الواقع هنا"، هكذا كتبت ريتشيل كوري، الناشطة الأمريكية، في رسالة لوالديها، قبل أن تدهسها جرافة تابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي، وتفارق الحياة في رفح، غزة، بفلسطين، في أحد أيام 16 مارس من سنة 2003. أتذكر الحادث المروع الذي تعرضت له ريتشيل في بداية ربيعها الثاني، كانت القنوات الفضائية قد رتبته على رأس نشرات الأخبار، الصدمة كانت كبيرة لدى بعض المشاهدين، ليس فقط من "العرب" بل ربما كذلك من الغربيين، فالصورة المفترض استقبالها على شاشات التلفاز، أن تكون الضحية من أصل فلسطيني كما جرت العادة. ريتشيل الفتاة الوسيمة، هي أيقونة لدى شباب غربيين يلتزمون بالدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، ونقل الواقع المرير الذي يعيشه المحاصرون في قطاع غزة، والذي كتبت عنه في رسالتها الآنفة الذكر: "لا يمكن تخيل ذلك إذا لم تشاهده بنفسك، وحتى بعد ذلك تفكر طوال الوقت بما إذا كانت تجربتك تعبر عن واقع حقيقي". قبل ثلاثة أشهر التقيت، ضمن فعاليات مهرجان تورينو الدولي للسينما، بإيطاليا، بخمسة شباب إيطاليين، نشطاء حقوقيون سلاحهم الكاميرا، يمشون على خطى ريتشيل، يناصرون الشعب الفلسطيني المعزول بغزة، من وجهة نظر فنية، لذلك وقعوا جميعا على إخراج، الفيلم الوثائقي، التسجيلي "ستريب لايف"، الذي حاز، في مهرجان تورينو المذكور، على جائزة لجنة التحكيم لأحسن وثائقي. فاليريا شابة إيطالية، ابتسامتها تشبه نظيرتها لريتشل، الفتاة الوحيدة ضمن مخرجي "ستريب لايف"...كان لي معها حديث مقتضب ليلة تتويج الفيلم، في نونبر الماضي، عبرت لي عن سعادتها العارمة وهي تقدم شيئا بسيطا في نظرها للفلسطينيين، رفقة زملائها، لكنها أيضا بدت لي مندهشة من شبه غياب للشاب"العربي" من المهاجرين الذين تغص بهم مدينة تورينو. هناك من يروج في صفوف شباب بلدي المغرب، لمقولة "تازة قبل غزة"، في إشارة إلى مدينة مغربية، ويعتبر أن القضية الفلسطينية ملهاة عن قضايا تهم الوطن، العبارة المذكورة في تقديري حق، لكن أريد به باطل... لأجل نسيان القضية الأم، وطن الكل (في تقديري طبعا)، والتطبيع مع الواقع الظالم. لن يرادف الظلم الحق، فما يقع في غزة خاصة، وفلسطين عامة، من اعتداءات،سواء كان مصدرها فعل صهيوني، أوفلسطيني خائن، هو ظلم في حق الإنسانية، فلسطين أرض كل الديانات السماوية وليست لديانة واحدة، لذلك لبّت الناشطة ريتشيل واجب الإنسانية، حينما ناصرت أرض فلسطين، حيث الحق، وطن الكل. *إعلامي، باحث في الاتصال والسينما مقيم بإيطاليا