ذاك اليوم، كان وقعُ خبرِ فصلِها ضربةً ما بعدها وهلة، جعلَ الكلَّ في ذهولٍ وحيرةٍ يتهامسون ويتساءلون: ماذا حدث؟ ماذا فعلت؟ لماذا فصلت؟ في الصّباح وقف المديرُ أمامَ طوابيرِ الطلاب الصّباحيّة، وأعلن أمامَ الجميع أنّ جدران المدرسةِ تحوي الطلاب للتعليم فقط، وليست صالون للتجميل ولعرض الأزياءِ وللقاءِ الأحبّة، وأن حقائب الطلاب ينبغي أن تحوي الكتب الدراسيّة والموادّ القرطاسيّة اللازمة، وليس المرآة والمشط وعلبة المكياج وعلبة الدخان، ومَن يريد غيرَ ذلك فمصيره الفصل، وليبحث عن ضالّتِه في مكان آخر! كانت هدى فتاة جميلة جدًّا، تلفت الأنظارَ ببسمتها وقدّها الممشوق وجمالِها العربيّ السّاحر، ولم تمضِ شهور قليلة على فصلها إلاّ وتمّت خطوبتها، وفي غضون شهورٍ أخرى أتمّت الثامنة عشر وتزوّجت، وظلت هدى مضربَ مثلٍ يتداوله الطلبة والأساتذة وعبرةٍ لمَن يعتبر، حول أهمّيّة العلم وخاصّة للفتاة، ومخاطر الزواج المبكّر، وأهمّيّة دور الأهل في توجيهِ آفاق الفتيات واهتمامتهنّ صوبَ العلم أوّلاً. بعدَ سنواتٍ طوال وقفت إيمان صديقة هدى أمام طالباتها، لترى في معظمهنّ هدى، بتسريحة شعورهنّ وتلوينها، يتغاوينَ في مشيتهنّ كعارضات أزياء، يتجمّلن ويتمكيجن على مرأى من أهاليهنّ وأساتذتهنّ، وليس هناك مَن يُحرّكُ ساكنًا لتوجيههنّ أو لفصلهنّ من المدرسة. بألم يعتصرها تبلعُ ذكرياتها، وتقضمُ لسانها لئلا يعترض على ما وصلَ إليه حالُ بعض العائلات، مَن يسمحون لفتياتهنّ بالظهور في المدرسة على هذه الشاكلة، والسّماح لهنّ ببناءِ علاقاتٍ غراميّة! مأساتُها أنّها تعدّت الأربعين، وقد طالَت قلبَها همهماتُ حبّ لم يكتملْ بزواج، وهذا الذي يكسرُها أمام بعض تساؤلاتِ الطالبات والأمّهات عندَ توجيهِ بعض طالباتها، ولم تتورّع إحدى الأمّهات بتعييرها بعنوستها وبغيرتها من طالباتها. هذا المسلسلُ المأساويُّ وبكلّ أسفٍ آخذٌ في ازديادِ رصيدِ جُهّالِهِ مِن الأهل، الذين يسعَوْنَ إلى التباهي بفتياتهنّ اللّواتي يتسابقنَ في إبراز أنوثتهنّ مُبكّرا، وتخطيبهنّ وتزويجهنّ في سنّ مبكّر خوفًا من العنوسة، وتحت مبرّرات طائلة: "ظِلّ رجل ولا ظل حيط"، و"همّ البنات للممات"، وأسوأ ما في الأمر هي العلاقة المطّردة بين الزواج المبكّر ونسبة الطلاق الآخذة في الارتفاع، لتعودَ المطلقة طليقة الحال كسيرة الجناح والخاطر مع أولادِها إلى حضن والديها. لماذا تحملُ الأنثى وجعَ زواجها الفاشل وطلاقِها وعنوستِها، وكأنّها وحدَها المسؤولة عن كلّ ما آلَ إليه حالُها؟ وهل كلُّ أنثى غيرُ مطلقة هي في سعادة ممّا هي فيه؟ كيفَ يمكن للأنثى أن تتعايش مع مُتعاطي كحول؟ متعاطي مخدّرات؟ لاعب قمار؟ وأصنافٌ أخرى من أزواج لا يولون الأسرة والزوجة دورًا مهمّا من اهتماماته الأوليّة؟ كيف يمكنها أن تستمرّ بعلاقةٍ أسريّةٍ سليمة مع رجل؛ لا يتورّعُ في ضربها وشتمها وإهانتِها؟ لماذا على الأنثى أن تتحمّلَ ألم زواجِها الخجول، وتُهشّمَ حياتها بمطارقِ الخوفِ على مستقبلها، فتداري أحزانها كي لا يشمتَ بها المجتمع المُجحف، ويُعاتبها ويُحاسبها على فشلها؟ لماذا على الأنثى أن تدفعَ حياتها فاتورة عاداتٍ وتقاليدَ أدخلتها في مزاد الزواج والطلاق والعنوسة؟ لماذا يبقى مصيرُ الأنثى مُعلّقا على خطأ قد يكونُ قسريًّا؟ وهل الزواج هو المحطة الأخيرة للأنثى ومرتع راحتها؟ من الذي يستهويه أمر انتهاك حرمة روح الأنثى ومحميّتها التراثيّة التاريخيّة، ليدفعَ بها إلى الارتباك والإرباك، ليجعلَ قاموسَها الحياتيّ مقصورًا على مهازل زواج وإنجاب وأمومةٍ تعيسة، لا يمكن الفكاكُ مِن أخطبوطها؟ مجتمعاتنا الشرقية؛ لماذا تفتح أبواب مدنها الأنثويّة المغلقة على مصاريع الانفتاح العالميّ شكليًّا، في حين أنّ نوافذ الأفكار وطاقاتِ العقليّات لا زالت محدودة بمنظوماتها، ما بين تناقضاتِ التخلّف والتحضّر، وبالتالي تقعُ الأنثى ضحيّة بين أسنان منشارِ العذاب والعقاب؟ الأنثى كزورق يطفو على وجهِ بحيرة، وأمانُ هذا الزورق مرهونٌ بالرّياح والأمواج التي تعصفُ بهِ، وبرحمةِ مناهج الطبيعة ومسالكِها، وهي الأنثى تظلُّ رهينة عاداتٍ بيئيّةٍ وتقاليدَ اجتماعيّة، قد تمسكُ بيدِها وتنشلُها من الغرق، وقد تبترُ يدَها وتسعى في إغراقها. بحسب الدّراسات فان 50% من الشباب السّوري أعزب، و60% من الفتيات السّوريّات عازبات، أمّا مصر فيبلغ عدد العوانس 6.5 مليون، وثلث سكّان الجزائر عوانس وعُزاب، ونسبة العُزاب 20% في كلٍّ من السّودان والصّومال، وفي الأردن 5%، وفي الإمارات 68%، و26% في السعودية وقطر، وعلى أثر الحرب العراقية انتشرت العنوسة لتبلغ 85%. ماهي أسبابُ العنوسة وعواملها الأساسية؟ الظروف الاقتصاديّة وارتفاع نسب البطالة وغلاء المهور والبيوت وتكاليف العرس؟ الظروف السياسيّة والحروبات التي تقصف أزهار وأعمارَ الشباب؟ هجرة الشباب المثقف والزواج مِن أجنبيّات، في حين إبقاء الفتيات العربيّات دون زواج من قوميّاتٍ أخرى وطوائف وديانات أخرى؟ هل ارتفاع مستوى المرأة علميًّا ومهنيًّا يؤثر على زواجها وعنوستها؟ متى وأين وكيف ولماذا؟ لماذا يعيّرُ المجتمعُ العانسَ مَن لم تخضع لضوابط سنّة الحياة وأصول سنّة النّساء أن يحملن ويلدن، احترامًا لنفسِها وإكراما لكرامتِها؟ وهل يُنظرُ للعانس الرّجل كما يُنظر للأنثى العانس؟ ما هي النتائج الإنسانيّة للعنوسة، وتأثيراتها النفسيّة والاجتماعيّة على الفرد في أنماط حياته، وعلى المجتمع في تقلّباته وتغيّراته؟ هل مِن حلولٍ جذريّةٍ للعنوسة، يكونُ للأنثى القدوة دورٌ أساسيّ في اتخاذ القرار والتغيير، خاصّة ممّن عانيْن مرارة وشقاء العنوسة، ولهنّ القدرة على ملامسةِ الوجع وتحديده، والمساهمة في علاجهِ على مستوى اجتماعيّ؟