هل انقلبت الموازين وتغيرت الأحوال وأصبح المقاومون مجرمين، والوطنيون خارجين عن القانون، والمقاتلون من أجل الحرية إرهابيين، وغدت حركات المقاومة العربية والإسلامية كإسرائيل، يجرم كل من يتعامل معها أو يتصل بها، ويعاقب من يقدم لها العون، أو يمد لها يد المساعدة، ويتهم كل من ينبري للدفاع عنها والحفاظ عليها، ويخون من يحاول تبرئتها وتطهير ساحتها، والذوذ عنها ورد الشبهات التي تدور حولها. هل بات القضاة والمدعون العامون وممثلو النيابة العامة يسطرون استناباتٍ قضائية بالاعتقال والملاحقة، ضد كل من يثبت في حقه أنه مخلصٌ لأمته، صادقٌ مع شعبه، وطنيٌ في مواقفه، غيورٌ على دينه، وأنه يضحي من أجل قضايا الأمة، وينبري للدفاع عنها، وصون كرامتها. لا ندري ما الذي يحدث في مصرَ اليوم، ولا نعرف كيف نفسر ما تقوم به المؤسسة العسكرية وقيادة الجيش المصري، الذي ندافع عنه أكثر من المصريين أنفسهم، ونكن له كل حبٍ وتقديرٍ واحترام، ونذكر دوماً فضله ودوره، وقيادته وريادته في مواجهة إسرائيل والتصدي لها، فنحن نصف الجيش المصري دوماً حتى في ظل إتفاقية كامب ديفيد، أنه ما زال يحمل عقيدةً قومية صادقة، تعادي إسرائيل ولا تطمئن إليها، وأنه يطور جيشه ويدرب جنوده لمواجهتها، والتصدي لها، وما زالت بياناته ونداءاته العسكرية تصف إسرائيل بأنه عدو، وتتعامل معها على أساسٍ من الحذر والريبة وعدم الثقة. فهل أصبحت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" عدواً لمصر، أو جهةً أجنبية تتآمر عليها، وتسعى للإضرار بها، وهي التي كانت وما زالت تستضيفها مصر، وتستقبل في عاصمتها القاهرة قيادتها، وتنسق وتتفاوض معها، فهل أصبح التعامل معها تهمة، والتواصل معها جريمة، ووجودها خطر، وهل أصبح من دواعي الأمن القومي المصري أن يضيق عليها، ويشدد على قيادتها، ويمارس الضغوط على أبنائها، فلا يسمح لهم بالدخول أو المرور، وفي حال جواز ذلك فإنه يتم وفق إجراءاتٍ أمنيةٍ قاسية ومهينة، عز أن يقوم بها عدو، أو يمارسها ضدها محتلٌ. أليس غريباً أن حركة حماس كانت في ظل نظام مبارك تستقبل وتحترم وتقدر، وأن المخابرات الحربية المصرية كانت تحرص على علاقةٍ طيبة معها، وأنها كانت تسهل مهامها، وتذلل الكثير من الصعاب التي تعترضها، وأنها كانت تتوسط بينها وبين السلطة الفلسطينية وحركة فتح، وأنها كانت تسعى لإتمام المصالحة بينهما، وإنهاء الإنقسام الذي دب بينهما، ولم يسبق أن قامت بتوجيه إتهاماتٍ إليها، أو تشويه صورتها، أو تسطير مذكرات اعتقالٍ ضد عناصرها والمنتمين إليها، ولم يكن الإعلام المصري مسلطاً عليها، ومنشغلاً بها، يفضح أسرارها، ويهتك أستارها، فلم يجرمها، ولم يشيطنها، ولم يتفرغ لتوجيه الاتهامات إليها والافتراء عليها، وتحميلها مسؤولية أحداثٍ وجرائمٍ تدينها وترفضها ولا تقبل بها. اليوم تقوم النيابة العامة المصرية باستخدام حركة حماس في لعبتها السياسية، وتوظفها لخدمةٍ أهدافٍ خاصة، وتتهمها دون وجه حقٍ باتهاماتٍ باطلة ومشينة، يخجل أي عربيٍ من توجيهها، ويشعر بالخزي من إثارتها، فهي اتهاماتٌ يفرح بها العدو ويطرب، ويبش لها ويسعد، إذ أنها تخدمه وتساعده، وتريحه من عناء مواجهة حركةِ مقاومةٍ عظيمة، عجز عن هزيمتها أو الإطاحة بها، وأعياه قتالها والتصدي لها، فتجنب استفزازها، ونأى بنفسه عن إثارتها، وترك أمرها لمصر، تنسق معها وتطلب منها، وتضغط عليها وتضبط سياستها، فحركة حماس تحترم مصر وتحرص على كلمتها ومكانتها، وتحافظ على هيبتها وعزة قراراتها، فلا تهينها ولا تحرجها، ولا تخدعها ولا تكذب عليها، ولا تضر بها ولا تتآمر عليها. إن ما قامت به النيابة العامة المصرية بإصدارِ أمرٍ بتوقيف رئيس جمهوريتها بتهمة التخابر مع حركة حماس، ينطوي على خطرٍ شديد، ويدمر مفاهيم عظيمة تربينا عليها، ويهدد عرىً وطنية وقومية نشأت عليها أمتنا، وينسف تاريخاً من التلاحم والتعاضد، ويصدم مشاعر العرب والمصريين، فهو قرارٌ غريبٌ ومستنكر، وهو مدانٌ وغير مقبول، وهو يهدد قيمنا ومبادئنا، ويعرض أمننا العربي كله للخطر، وهو قرارٌ يسيئ إلى الشعب الفلسطيني كله، وإلى شعب مصر وأمتنا العربية والإسلامية، فحركة حماس هي جزءٌ من الشعب الفلسطيني، وتمثل قطاعاً كبيراً منه، وهي مكونٌ أساسٌ من مكوناته الوطنية والنضالية، وتاريخها شاهدٌ وحاضر، وصفحاتها ناصعةٌ ونقية، ومواقفها وطنية وثورية، وسجلاتها تحفل بالصدق والوفاء لمصر وشعبها. النيابة العامة المصرية، وسجلات المؤسسة العسكرية والأمنية في مصر، حافلةٌ بمواجهة العدو الإسرائيلي، والتصدي لعملائه وجواسيسه، وقد نجحت في الإيقاع بعملائه، وتفكيك شبكاته، واختراق مؤسساته الأمنية، وقد عجز العدو الإسرائيلي عن اختراق أمن مصر، أو التأثير عليها، وما كانت هذه الحصانة لتكون لولا وطنية المخابرات الحربية المصرية، التي تتصدى بقوة، وتواجه بعنف، كل محاولات التخريب والاختراق الصهيونية، وتعاقب بشدةٍ كل من يتآمر على أمنها، ويتعاون مع عدوها. فلا ينبغي أن تلوث سجلات المخابرات الحربية المصرية الناصعة بهذه الاتهامات المهينة، ولا يجوز لها أن تقبل بأي تشويهٍ لصورتها، أو إساءةٍ إلى شرف عملها القومي، وعليها أن تعجل بشطب هذه الإدعاءات، والتراجع عن هذه الإتهامات، فهذه سابقةٌ خطيرة، وعملٌ لم يقم به غيرهم، ولم يسبقهم إليه سواهم، فلا يكونوا مثالاً في السوء، ونموذجاً في الخطأ، ولا يتحملوا وزر تقليد الأنظمة لهم، واتباع الأجهزة الأمنية العربية لنهجهم، ولا ينبغي أن يقبلوا بأن تشرع مصر قوانين تجرم المقاومة، وتخون الإسناد والمناصرة. فهذه صفحاتٌ سيحفظها التاريخ، وستذكرها الشعوب والأمم، وسيكون لها أثرها الكبير، ونتائجها الخطيرة، وهي أيامٌ صعبةٌ وعسيرة، فيها محنٌ وابتلاءات، وفيها تحدٍ ومواجهات، ولكنها تبقى أيام عزةٍ وكبرياء، ترسم الغد، وتحفظ الوعد، وتصون العهد، وليعلموا أن رجالات مصر العظماء، لن يقبلوا أن تتخلى بلادهم عن أدوارها القومية، ومواقفها التاريخية، ولن يقبلوا أن يكونوا سكيناً تحز رقبة المقاومة، أو تطعنها في قلبها أو صدرها، أو تقطع شرايين الصمود، وخطوط الثبات والإمداد.