منتدى الحوار الثقافيّ في مركز البادية- عسفيا الكرمل افتتحَ عامَهُ الجديدَ بلقاءٍ أدبيٍّ ثريّ، حول كيفيّة ممارسة المحادثة والحوار في تعزيز حرّيّة الإنسان، من خلالِ كتاب "نظريّة الاستقبال في الرواية العربيّة"، للباحثة د. كلارا سروجي شجراوي، المحاضرة في جامعة حيفا. استهلّ اللقاءَ الشاعر رشدي الماضي بكلمةٍ ترحيبيّة بعنوان" مع كلارا سروجي على قمّةِ الصمت: الكلمة هي أمّ فنون القول العربيّ، رغم أنّها مرّت على امتداد العقود بأطوارٍ تتفاوت بين روعة المدّ، ولوعة الجزر والانحسار، ومرارة الانكسار. الحقّ أنّ الكلمة العربيّة تجتاز اليوم واحدًا من المنعطفات الحادّة في مسيرتها، تعكسه روح العصر، والإيقاع الحضاريّ السريع، ونبض التغيّر اليوميّ في الوسائل التقنيّة وثورة المعلوماتيّة ومستحدثاتها، وهو نبضٌ يلهث إنسان العصر وراءَه. ولأنّ الكلمة هي ذلك النتاج الإبداعيّ الخلّاق، تصبح عمليّة القراءة بالنسبة لها، لا يراد بها تلك القراءة السريعة، بغية المتعة العابرة أو الاستطراف أو التسلية، كما لا يُراد بها استقبال تلك الكلمة استقبالًا تلقائيًّا، نابعًا من الذوق الشخصيّ وحده، بل يُقصد بها ذلك الجهد الواعي الذي تمارسه الذات المثقفة، حين تتلقى الكلمة كعمل أدبيّ، فتحاول إدراك العلاقات التي تربطه بمَثل أعلى خاصّ، كما تحاول اكتشاف كلّ أو بعض معطياته الجماليّة، نافذةً من خلال ذلك إلى إيماءاته النفسيّة والفكريّة، ومن ثمّ قد ترتقي عمليّة التذوّق إلى درجة النقد المنهجيّ، أو فنّ تمييز الأساليب، وهذا يُثري ساحتنا الأدبيّة بمناقشات نقديّة مستفيضة في مفهوم الأدب، وطرق استقباله وتقبّله، ليشكّل بالنتيجة الرائعةَ الحقيقيّة لتنمية وعي الإنسان ذوقًا وإبداعًا. هذا الحوار برأيي المتواضع لم ولن يُحسم، وما كان له أن يُحسم، فالخلاف النظريّ حول قضيّة الاستقبال لم يُفضِ إلى اتفاق وجهات النظر والرأي حول مفهوم موحّد، أو شبه موحّد لهذه النظريّة في الأدب، وترتّب على هذا، أنّ مشكلة منهج التذوّق الأدبيّ ما زالت قائمة، فالعمل الإبداعيّ تدخّلُ في محاولات الوعي به تشكيلةٌ من العوامل النسبيّة، مثل ثقافة من يريد سبر أغواره ومعالمه، ومكوّنات ذوقه الخاصّ، وإلهامات زمنه ومحيطه الاجتماعيّ وانتماءاته المختلفة.. إلخ هذا غيضٌ يسيرٌ من فيض غزير للأسئلة والتساؤلات حول نظريّة الأدب وكيفيّة استقباله، وهو مُحفّزنا الذي نادانا أن ندعو باحثة أكاديميّة بامتياز، لا يُرعبها الطير الأسود في ليل إبحارها في عباب العمل الإبداعيّ، بل يوقظها قاربًا وصارية وبوصلة، كزرقاء اليمامة رائية، لا تخشى أن تسكن خلال رحلتها السندباديّة، إن سكّن الصمت مجدافها، لأنّها شاء الصمت هذا أم أبى، ستواصل رحلة قراءتها للعمل الأدبيّ قراءة أوركستراليّة شاملة، لتضع باصرتنا وبصيرتنا على المنابع التي استقى منها هذا الإبداعُ روائعَه شكلًا ومضمونًا، ونحن حين نفتح وثيقة هُويّتها، سوف لن نجد اسمَها عنترة، بل كلارا سروجي شجراوي، الباحثة والمحاضرة الأكاديميّة في جامعة حيفا. وقدّم د. فهد أبو خضرة محاضرة نوعيّة جاء فيها: سأتحدّث أوّلًا عن منشورات مجمع القاسمي للغة العربيّة، من أجل الحصول على بعض هذا الإنتاج لمن يرغب، فقد أقيم المجمع القاسمي قبل أربع سنوات، وخلال هذه المدّة كان فعّالًا جدًّا، وقد أصدر حتّى الآن 22 كتابًا، كلّها من الأبحاث الجادّة جدًّا، وكلّ الإصدارات مُحكّمة، فكلّ كتاب يُرسل إلى قارئيْن على الأقلّ، وإذا وافق عليه القارئان المُتخصّصان يُنشر الكتاب، وإلّا عاد إلى صاحبه. ومن الإصدارات الهامّة بالإضافة إلى كتاب "نظريّة الاستقبال لد. كلارا سروجي شجراوي"، أيضًا هناك قاموس يضمّ اللغة العربية المعاصرة واللغة التراثيّة المستعملة، وفيه بحدود ثلاثين ألف كلمة. صدر طبعة متوسّطة لأسباب نشر وغير أسباب التأليف، ولكنّه سيُنشر في لبنان قريبًا جدًّا، ومن هناك سيصل الينا وإلى الدول العربيّة. وكذلك هناك قاموس المصطلحات، الذي سيُصدر قريبًا جدًّا في البلاد، والذي يضمّ مصطلحات الأدب ومصطلحات اللغة العربيّة، فلمن يهمّه الأمر، يستطيع أن يتّصل بالمجمع القاسمي، لحصل على بعض المنشورات التي تهمّه، والتي ما زالت متوفّرة. مجمع القاسمي أيضًا يُصدر "مجلة المَجمع" النصف سنويّة، وقد صدر حتّى الآن العدد السادس، وهيئة وإدارة المجلة تتقبّل دراسات في الأبحاث الجادّة والقيّمة، وأيضًا المجلة مُحكّمة. بالإضافة إلى الإصدارات، هناك مؤتمرات أدبيّة فصليّة كلّ شهريْن أو ثلاثة، وبحضور كبير ومدهش، يتعدّى المئتيْن والثلاث مئة. بخصوص كتاب كلارا نظريّة الاستقبال، فأطراف العمل الأدبي ثلاثة: المبدع والنصّ والمُتلقّي. وقد بدأ النقد في أوروبّا في أواخر القرن التاسع عشر، بالحديث عن المبدع والعصر والبيئة وما أشبه، ممّا يُطلق عليه اليوم اسم "النقد الخارجيّ"، ولكن بعد ذلك في القرن العشرين، بدأ الاتّجاه إلى النصّ، وهذا أخد وقتًا طويلًا، وهو نقد له قيمته وأهمّيّته، وفي بداية الستين بدأ الاتّجاه الثالث نحو المتلقّي، أو نظريّة الاستقبال التي وصلت إلينا متأخّرا، ومن هنا أتحدّث عن قضيّة الأزمة التي نراها في بلادنا وفي العالم العربيّ، بالنسبة لحركة النقد، فهناك عندنا نقّاد ولكن ليس لدينا نقد، لأنّ كلّ النقد منذ أوائل القرن العشرين، بما في ذلك طه حسين والعقاد وغيرهم، فالنقد مأخوذ من مصادر غربيّة، ونحن نأخذ نظريّات غربيّة ونُطبّقها، فهذا ما حدث وما يحدث، وحتى في أحسن حالات النقد في سنوات الأربعين والخمسين من القرن الماضي، كانت كلّ النظريّات مأخوذة من الغرب، فطه حسين استخدم نظريّة فرنسيّة، والعقاد استخدم نظريّة إنجليزيّة، وآخرون كُثر، كنوع من الاحتلال النقديّ! النقد له قيمة كبيرة، فإمّا أن يرفع شاعرًا ما، أو يحط من قدر شاعر آخر، وأحيانًا بانتباهٍ وأحيانًا بغير انتباه، لأنّه ليس من نقدٍ غربيّ ينطبق على أدبنا العربيّ. وملاحظة أخرى مهمّة، أنّ مدارس النقد كلّها وصلتنا متأخّرة جدّا، بعد ثلاثين وأربعين سنة، وكان الزمن أحيانًا يمتدّ أكثر، فمثلًا نظريّة الاستقبال ظهرت في أوروبّا عام 1960، وبدأنا ترجمتها في أواخر 1998، وهذه مشكلة! فلماذا يجب أن يسيرَ النقد العربيّ بأعقاب النقد الغربيّ؟ ولأنّ الأمرَ هذا يؤثّر سلبًا على الإبداع العربيّ، لهذا أقول، إنّنا بحاجةٍ ماسّة إلى إعادة دراسة أدبنا المَحلّيّ مرّة أخرى، فكلّ الدراسات السابقة هي دراسات غير صحيحة، وفيها الكثير من التزييف، وكذلك الأدب العربيّ يجب أن يُدْرَسَ مرّة أخرى، فهناك أعلام ممتازون جدّا في العالم العربيّ لا يُذكرون، وهناك شخصيّات سخيفة جدًّا أخذت دورًا كبيرًا جدًّا، وما زالت أسماؤُها موجودة حتى اليوم. التركيز برأيي يجب أن يكون على النصّ، لأنّنا درسنا الشاعر والبيئة والعصر والظروف الخارجيّة، ولكنّنا لم ندرس النصّ جيّدًا، وقبل أن نبدأ بدراسة قراءة النصّ، ظهرت لنا نظريّة الاستقبال، فقفزنا إليها، وأحسن النقاد لا يجيدونها ولا يعرفون عنها شيئًا، ويُطبّقونها بشكل سلبيّ لأنّهم لا يعرفونها جيّدًا، وهذا سيكون له آثارٌ سلبيّة جدًّا على نتاجنا الأدبيّ، لأنّنا نتعلّم عادة من نُقادنا، وقليل جدًّا منهم من يقرؤون المصادر الغربيّة، وإنّما يقرؤون ما يكتبه النقاد العرب. التركيز الأساسيّ يجب أن يكون على النصّ أوّلا، كي نكمل الحلقة التالية من دراسة التلقي، فهذا لا يعني أنّ العرب لم يعرفوا التلقي من قبل، إنّما لم يعرفوا النظريّة، بل أشاروا إليها بلمحات بلاغيّة أو ومضات رومنسيّة، وعمليّة الانتقال من دراسة النصّ إلى دراسة التلقي أوقعنا في مشكلة، إذ لم نجد هذه ولا تلك، وهذا قد يقودنا إلى الضياع، فأرجو أن ينتبه الباحثون جيّدًا إلى هذه النقطة، وحبّذا لو أنّ د. كلارا تستطيع أن تتابع الموضوع عند النقاد، أي بحث نظريّة الاستقبال في النقد العربيّ مجدّدًا، حيث ستجد الكثير من النواقص عند هؤلاء النقاد، فأحدهم مثلًا حاول أن يُطبّق نظريّة الاستقبال على شعر المتنبّي، والأمر لا يخطر ببال، فلذلك وجدنا ثلاثة أرباع المادّة لا علاقة لها بنظريّة الاستقبال، وأقلّ من ربع الكتاب فيه بعض الملاحظات من هنا وهناك، من نظريّات التلقي والاستقبال. في النقد الغربيّ، نجدهم يُركّزون على الدراسات النصّيّة، لذلك نجد المتلقّي للنصّ الأدبيّ هذا غيرَ محدود الأفق، وإنّما واسع الآفاق، يستطيع أن يُحلّل ويُؤوّل النصّ بشكل مناسب ويتفاعل معه، فعلينا أن نُطوّر قضيّة قراءة ودراسة ونقد النصّ بتوسّع، ومن ثمّ بعد ذلك، لا بأس من دراسة قضيّة الاستقبال، بعد أن يهضمها الناقد ويفهمها جيّدًا.