تأملت المطالب الإصلاحية التي ترفعها اليوم بعض الهيئات والجمعيات المغربية والمتمغربة، وأعلم جيدا أن وصفها بالمتمغربة سيثير نفوس البعض ممن لا يدركون خطور ة بعض المطالب، وينادون بها فقط من باب التقليد أو اللاوعي بما يترتب عن ذلك من فقد للكيان والهوية المغربية في خضم العولمة الزائفة التي لا نستطيع إنكار تأثيرها أو ضرورة التعامل معها شئنا أم أبينا. من بين ما تنص عليه هذه المطالب سمو القوانين والتشريعات العالمية على القوانين الوطنية، أقول صراحة أني كلما سمعت هذه الكلمات أمسك نفسي عن الضحك، ليس تهكما لا سمح الله، ولكن استغرابا وتعجبا من بعض الناس الذين يصدق عليهم المثل العربي: كباحث عن حتفه بظلفه. أتساءل: هل هذه العقول الجبارة التي أنتجت هذا الطلب واعية كل الوعي بما تطالب به؟ أم أنها تركب موجة مشروعية المطالب دون وعي حقيقي بتداعياتها المستقبلية على أجيالنا؟ وإن كان لي أن أعجب أكثر، فإني أَعجب من هذه العقول الحداثية النيرة كيف يخفى عليها مآل هذه المطالب في ظل أزمة الهوية التي يعيشها مجتمعنا المغربي منذ الاستقلال بأطفاله وشبابه وحتى شيوخه؟ إنها أزمة أفقدت الجميع حس الانتماء إلى تراب هذا الوطن العزيز، هذا الحس الذي لم يعد حاضرا إلا في مباريات كرة القدم بشكل ممجوج وممقوت يسيء إلى الوطن أكثر ممن يحسن . أتساءل: هل فقد هؤلاء المنادون بسمو التشريعات الدولية على الوطنية إحساس الانتماء إلى هذا البلد حتى يجهزوا على البقية الباقية من العلاقة بين الوطن وساكنيه، ولا يمكنني أن اقول مواطنيه لأنها كلمة أكبر من الواقع، أكيد أنهم لا يعون ذلك إذا لم نفترض أنهم يتجاهلونه على الحقيقة ما دام في الأمر مصلحة أدع للقارئ الكريم توصيفها بما يشاء من الأوصاف التي ستكون بكل تأكيد دون الوصف الحقيقي. أتساءل: هل هؤلاء المنادون بسمو التشريعات الدولية على التشريعات الوطنية يعرفون أين يضعون خطاهم وعلى أي أرض هي أقدامهم؟ وجدت أن هؤلاء الناس ودون تشكيك في وطنية أي منهم يفتقدون فقه المآلات السياسية والاجتماعية، ولا يشعرون أو يستشعرون تداعيات ذلك على المجتمع المغربي المنتكس أصلا سياسيا واجتماعيا. لست محللا سياسيا ولا خبيرا اجتماعيا ولا اقتصاديا، وإنما أنزف دما وحرقة باعتباري مواطنا بسيطا له الحق في القبول والرفض، له الحق في أن يقول لهؤلاء: من فوضكم أن تتحدثوا باسمي وتطالبوا بهذا المطلب المقيت الذي أرى ان انعكاساته على المغرب حسب ما أفهمه وأحسه وأشعر به لن تؤدي به إلا إلى مزيد من انحلال عرى الانتماء إليه، وتفكك العلاقة بين وطن صمد في وجه العواصف والأزمات عبر تاريخه، عواصف وأزمات أثرت في كل شيء إلا في انتماء المغربي إلى مغربيته وهويته الدينية والحضارية والتاريخية. إن تنفيذ هذه المطالب يهدد المغرب في الصميم على مستويات منها : سياسيا: تكريس التبعية، بحيث لا يمكن اتخاذ أي قرار سياسي داخلي دون اعتبار للتشريعات الدولية، وهذا سيقيد بالضرورة السيادة الداخلية لأي جهة تنفيذية داخل المغرب ومهما كانت صفتها ومرتبتها، وبالضرورة أيضا سيعيق عمل المؤسسات التشريعية بمختلف أصنافها وتمثيلياتها، وحتى لو كانت القرارات التي يجب اتخاذها في مصلحة الشعب المغربي، وهذا ما يعني بالضرورة مرة ثالثة أن الأجيال القادمة من المغاربة ستبقى رهينة توقيعات واتفاقيات لا علاقة لها بها تخدم فقط أجندات سياسية عالمية دولية والأدهى من كل ذلك أنها أجندات مرحلية، وتخدم توجهات سياسية داخل المغرب ستنقرض حتما بانقراض مبررات وجودها. إن أي بلد لا بد أن يخطط لنفسه سياسته، مراعيا في ذلك الأوضاع السياسية العالمية المحيطة به، وطبعا هنا فرق بين مراعاة الأوضاع السياسية وبين أن يجعل نفسه رهينا له يتحرك بتحركها ويغير سياسته تبعا لها. اقتصاديا: وهذا تابع للمتغير الأول، إذ لا يمكن أن ننفي تداعيات البعد السياسي على الاقتصادي والعكس، فالتخطيط الدولي يرتكز على هذين البعدين، أما الاجتماعي فالاهتمام به يكون بالقدر الذي تتحقق به المصالح السياسية والاقتصادية، بحيث تكون المطالبة به ورقة ضغط متبادلة بين الجهات المحلية والدول المانحة وصناديق الثروة العالمية، ويكفينا فخرا واعتزازا اليوم أن نظامنا التربوي والتعليمي إن كان موجودا أصلا يخضع لهذه المعادلة التي لا هي بالتفاضلية ولا بالتكاملية. اجتماعيا: وهذا في نظري هو الجانب الأخطر على الإطلاق، إذ من شأن هذه التبعية في تشريع القوانين أن تنتج مجتمعا خنثى، أو لنقل مجتمعا هجينا غير قادر على الاندماج في المحيط الجيوسياسي والجيواقتصادي، وفي الوقت ذاته لا يملك أن يحفظ خصوصيته وهويته اللتين يخفظ بهما قدرته التنافسية، وتكفينا نظرة تأمل بسيطة لطفل الشارع، وتلميذ المدرسة، وطالب الجامعة لندرك حقيقة المأساة التي يعيشها المجتمع المغربي، ولنا أن نتخيل ما سيكون عليه مستقبلا ، وهذه ليست نظرة تشاؤمية بل هي حقيقة تشهد لها التجربة والوقائع المتمثلة في الفشل المتتالي الذي عرفته المخططات والبرامج التعليمية التي تصرخ في وثائقها أن هدفها تكوين المواطن الصالح، ولا أدري أي صلاح هو، إلا أين يكون هذا المواطن صالحا أن يكون الحجام الذي يعرف الجميع قصته مع الصومعة. فوق هذا وذاك، لن يقف الأمر عند التبعية السياسية والاقتصادية، بل سيتعداها إلى ما يمكن تسميته بالتبعية الأخلاقية، أو لنقل إن شئنا التبعية اللا أخلاقية التي تكرسه طبيعة القوانين الدولية من خلال اتفاقيات أقل ما يمكن أن نصفها به أنها تريد أن تكون بيوتنا من ذوات الرايات الحمر التي كانت معروفة عند العرب. أقول والرزق على الله إن النخاسة لم تنقطع، والعهر لم ينقطع، وليست نخاسة أو عهر الأجساد بأقبح من النخاسة والعهر في السياسة والاقتصاد، فهما أسوأ أنواع العهر على الإطلاق لأن بإمكانهما الدخول إلى أي بيت وإلى أي مجتمع دون استئذان ولا مشورة، فأي وطن يريد هؤلاء؟ وأي مواطن ينشدون؟.