إخواني الأفاضل، أخواتي الفُضليات، لقد امتنَّ الله سبحانه وتعالى برابطة الأخوة المقدسة فقال مذكِّرا: )واذكروا إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا (، نعمةٌ عظمى تستدعي منا التعرُّف على بعض وسائل صَونها عن الخراب المُحدِق بها. هذا ما سأحاول بَسط القول فيه وذلك من خلال تلمُّس بعض المفسدات التي قد تعكِّر صَفوها وتشوِّش على أهلها . المفسدة الأولى : عدم الإفصاح عن الحب أجل ، إن الحب في القلب مكمنُه، لكن القلب عالَم مغيَّب لا يوصَل إلى ما بداخله إلا ببريد الأفعال والمواقف والأحوال. لذا وبعد أن تتأكد أن حبك لأخيك خالصا ، لا مجرد إعجاب طارئ أو عاطفة ثائرة .فأفصح له عن ذلك بالعبارة أو الإشارة ، أو بأي أسلوب يحقق القصد ويفي بالمطلوب . لا تكن بلسانك شحيحا عن أن تتودَّد إليه في حضرته وغيبته. وإذا ما أعجبك منه خصلة حميدة أو مبادرة نافعة فأبلغه تقديرك وثناءك مع إظهار فرحك بذلك، فهذا مدعاة لنمو المحبة ، وتحفيزا لمزيد الإبداع والبذل والعطاء. أما كتمان ذلك فإنه محض الحسد . المفسدة الثانية : عدم الاهتمام بالمشاكل أن تخبر أخاك وتُفصِح له عن الحب الكامن في قلبك تِجاهه، هذا أمر مطلوب ومرغوب . غير أن كلمة أحبّك تظل فارغة إن لم يكن عمارتها البذلُ والعطاء والوقوف الساهر عند الشدة والحاجة. لا جدوى من التصريح بالحب والتغنِّي به إن كنتَ غير مبالٍ بما يصيب غيرك ، لا تفكر إلا في تحقيق أغراضك الذاتية ومنافعك الشخصية ، بالك خِلو من الإحساس بالألم الذي يكتوي به من حولك ، لا يتغلغل نظرك إلى أعماق البؤس الذي يكتوي بلظاه مَن سواك ، إن كنت بمنأى عن التفكير إلا في خُويصة نفسك ، ونفسك فقط . أجل ، إن لكل إنسان في هذه الحياة حاجات يودُّ قضاءها ومصالح يرجو نجاحها ومطالب يتمنى نوالها . لذا يحسن بك أن تكون متفقِّدا حاجات أخيك غير غافل عنه، بادر ولا تنتظر حتى يسألك فلربَّما منعه الحياء ، حتى إذا عجزت عن إسداء الخدمة إليه فاعتذر له بأسلوب أخوي مؤدَّب لطيف، مشعرا إياه حسرتَك لعدم تلبية طلبه، داعيا له بالتيسير والتوفيق، فهذا أدعى لقَبول عذرك وبقاء وُدّك. احرص على إسعاد غيرك يسعدك الله في دنياك وآخرتك، وسله عز وجل أن يجعلك للخير مفتاحا وللشر مِغلاقا، وإذا ما فُتح لك إلى الخير بابا فاغنمه فإنك لا تدري متى يُغلَق عنك. وتذكّر أن قضاء حوائج الناس وتذليل العقبات والمُعيقات من طريقهم يكسبك راحة نفسية وطمأنينة قلبية . شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه فأرشده قائلا :"إن أردت تليين قلبك فأطعم المسكين، وامسح على رأس اليتيم". لكن احذر أن تمنَّ بعملك أوتذكُر عطاءك فخرا فذلك محبط له . قال تعالى )ا أيها الذين آمنوا لاتبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ( . المفسدة الثالثة : المبالغة في العتاب لقد خلق الله الإنسان وجعله على الخطإ مجبولا، فلا هو بالملَك المقرَّب ولا بالنبيِّ المرسَل، بل هو طبيعة طينية تتأجج في نفسه الغرائز والسَّهو والغفلة والنسيان . ومن ثم فإنه ما من أحد منا إلا وله عيوب وزلات وهفوات، وما من علاقة بين بني الإنسان إلا ولابد أن تكتنفها مخالفة من هذا الطرف أو ذاك، فالمرء لا يخلو من الأخطاء مهما أوتي من جيد الآراء . وحتى يؤتي نصحُك أُكله وتُجنى بإذن الله ثمرته ،أسوق بين يدي جملة آداب وتقنيات ومهارات ،هي على سبيل المثال لا الحصر: ü جدِّد وصحح نيتك وقصدك. ü انصحه في خلوة ،واحذر التناجي والتشتت في القيل والقال. ü تحيَّن الفرصة المناسبة زمانا ومكانا وحالا. ü ابذل له النصح بأمانة وأدب ولين. ü أشعره وأنت تقدم له النصح أنك تحبّه. ü لا تضخِّم زلته. ü لا تستجمع أخطائه لتُنزِل به حكمك، بل احرص كلما بدرت منه هفوة أن تنصح له. ü لا تغضّ طرفك عن محاسنه، ولا تنسيك زلتُه عن فضل بدر منه. ü احذر احتراف النقد والعتاب الدائم فإنه يفسد الود. ü إذا سئلت عنه فلا تحاول تشويه صورته. ü إياك والتحوّل المفاجئ، فتكن إذ أحببته رفعته أعلى علِّيين ،وإذا كرهته أنزلته أسفل سافلين. ü احرص أن لا تلقاه إلا بقلب سليم. ü اذكره كلما دعوت لنفسك عسى تُشفى النفس من أدرانها وتُستلَّ سخيمتها . ü تأكد من الخطأ فقد تبني نصحك على إشاعة مُغرض . ü حاول أن تقدم نقدك على شكل اقتراح . ü عاتب لكن بالحسنى حتى يُفتل ما انتُقض ، ويُغسل درن ما حصل، ويعاد وصل ما انقطع . ü اعف عنه حتى يأنس بعطفك ، واستغفر له حتى يعلم أنك تحمل همَّه أمام الله تعالى ، ثم بعد ذلك انصح له . ü لا تكُ شبحا ، همُّك المراقبة الدقيقة والمحاسبة الشديدة ولو بدعوى الحزم والصرامة الأخوية وحسن الإدارة . ü لا تغضَّ طرفك عن محاسنه ، أو تعميك زلَّتُه عن فضل بدر منه. ü ضع نفسك موضعه ، وعامل بمثل ما تحب أن تعامَل به لو كنت مكانه . ü إذا أتاك معتذرا نادما فلا تكسر قلبه ، بل اقبل عذره و اعف وتجاوز ،وإياك والشماتة فإن الأيام دول ، فقد يعافيه الله ويبتليك . ü دع الجدل العقيم فذاك رحم خصبة لولادة العداوة وتعكير صفو المودة . ü لا تقاطعه ، بل خلِّ بينك وبينه شعرة سلام ، أوسؤال عن صحة، أوتهنئة في فرح،أومواساة في قرح ... ü احفظ ماء وجهه وإن لم يقنعك عذره ، فربما لم يسعفه مقاله وبيانه ، أو لم ينل حظوة في حديثه وبرهانه . ü لا تصنِّفه في زمرة أعداءك . ü إياك أن تهجره دون أن يعرف السبب . ü إذا هو أمعن في أذيتك، فأمعن أنت في الإحسان إليه. ü لا تتناجَ مع غيره فتغتابه تحت أي مسمّى من المسمّيات مثل المصلحة مثلا. وقد يكون هذا الغير صديقا لك ولخصمك ، في هذه الحالة أرى ألا داعي لتبنِّي المقولة الشائعة " صديق عدوِّك عدوُّك " فيغلب حينها على ظنك أن في مودته له انحيازا منه لموقفه . بل حاول استثمار علاقتك به ، وما يدريك فقد يكون سببا في التخفيف من حدة الغضب إذا ما قام بدور الشفيع ، وبمودته الخالصة لكما يبذل لكل منكما ما يؤكد صفاء نية أحدكما تجاه الآخر، عسى تُقرَّب المسافة لتضيق شقة الخلاف وتلتقيا في أجواء الوئام فتنقلب العداوة مودة والمعاناة راحة . ü وطِّن نفسك على المراجعة والاعتراف بالخطأ وعدم لوم الآخرين وإلقاء التَّبِعة عليهم . المفسدة الرابعة: الظن السيئ يعتبر سوء الظن من أكثر الآفات ضراوة وأشد العِلل فتكا لما يترتب عليه من آثار مهلكة كالخلافات والمنازعات . وحتى نكون منه على حذر تعالوا بنا نتعرف على ماهيته وأسبابه ودواعيه وتداعياته على الفرد والجماعة. الظن السيء ترجيح لما يخطر في النفس من احتمال السوء، وخاطرة تنقدح في الذهن فينفخ فيها الشيطان ليُنزلها منزلة الحقيقة التي لا مراء فيها ولا جدال حولها ، فيتصورالمرء في الناس أشياء ليست فيهم ، بل من نسج هواه وخياله، ثم يُقنع بها نفسه ليبني عليها سلوكه وتعاملاته ، يؤوِّل كلامهم على أسوأ الاحتمالات وقد يُفرغه من مضمونه ويخرجه عن سياقه ليملأه بمعان ليست من مدلوله . وغير خافٍ عنك قارئي اللَّبيب ، ما للكلمة من دلالات متنوعة . وقل الأمر عينَه عن الأفعال والتصرفات والحركات والإشارات، فلها بدورها محامل كثيرة وتأويلات متنوعة . الظن السيء تخرصات وأوهام ورجم بالغيب غير مبني على دلائل صريحة وبراهين راجحة، وفي أغلب الأحوال تكون الخلفية النفسية لصاحبه مُنبِئة عن قلب محشوٍّ بألوان الأمراض والأدواء كالأثرة والأنانية وحبّ الذات والحسد والرغبة في الوقيعة بين الناس. الظن السيء إذن خلق مقيت وسلوك مشين حذر منه ربّ العالمين وأكد ضرورة اجتنابه فقال وهو أصدق القائلين :) يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن، إن بعض الظن إثم( ، كما نفَّر منه إمام الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم فقال:"إياكم والظن فان الظن أكذبُ الحديث . ولا تجسَّسوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ، وكونوا عبادَ الله إخوانا " . توجيه قرآني وإرشاد نبوي إلى حسن الظن وعدم اتهام الغير بدون برهان ساطع ولا دليل قاطع. أجل ، إن الأصل أن تنقل أصبع الاتهام من السبَّابة إلى الإبهام فتسيء الظن بنفسك وتحسنه بغيرك .لا تؤِّول كلماته وحركاته تأويلات سلبية، فإن لم تستطع التغلب على ظنونك فلا تحملها في صدرك أو تُحدّث بها أحدا. لا تنصِّب نفسك رقيبا على نوايا العباد فأسرار قلوبهم لا يعلمها إلا علام الغيوب ، الذي لا تخفى عليه شاردة ولا تغيب عنه خافية . احذر أن تُستدرج إلى التجسس على أخيك فتتَّصل بفلان وعِلاّن لتستجمع القرائن التي تثبت سوء ظنك فيه . أما إذا أضحى دَيدنك تتبُّع سقطاته وبات كل همّك تصيّد زلاته وإشاعتها بين الملإ ، فهذا لن يزيدك إلا نكدا وشقاء في الدنيا ،وفي الآخرة فالجزاء من جنس العمل . ولست في الحاجة إلى التذكير إلى أن حسن الظن لا يعني السذاجة تحت مسمَّى طيبوبة القلب ، أو تسويغ الأخطاء واعتساف المعاذير والتماسها لمن لاعذرله ، فهذا لا يفضي إلا إلى تراكمها واجترارها . بل ينبغي أن يكون الإنسان يقظا في تعاملاته محتاطا لأمره كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :" لست بالخبِّ ، ولا الخبُّ يخدعني " المفسدة الخامسة : تصديق الإشاعة الإشاعة خبر مُختلَق لأغراض خبيثة، يسري سريان النار في الهشيم ليشكِّل رأيا عاما داخل النسيج الاجتماعي ، حيث يتلقَّفه المُغرِضون ويذيعونه وسط البسطاء ليتناقلوه بدورهم بينهم ويروِّجوه دون أن يتثبَّتوا من صحته، ولا أن يتحققوا من صدقه، ولا أن يكلّفوا أنفسهم عناء تبيّن مصدره ، فتشيع الفُرقة والبغضاء بين العباد، ويُفسح المجال لهواة الاصطياد في الماء العكِر أما إذا ما امتلك أحدنا الاستعدادات العقلية الواعية الناقدة الفاحصة ، فحينها تتحطم الإشاعة على صخرة التأمل والتحليل و المناقشة . وحتى أكون وإياك على حذر من الوقوع في داء الإشاعة الوبيل، أرى من الضروري معرفة وتشخيص أصناف الناس في تعاملهم مع الخبر . فمنهم الذي يهوِّن الخبر و يستصغره ، أو يهوِّل منه ويستعظمه .ومنهم الذي يسمعه فينقله على غير وجهه ، ليس من باب الافتراء والكذب ، لكن بسبب فهمه على غير مراده ، فيطلق الكلام على عواهنه . ومنهم من يقطعه من سياقه وما حاطه من ملابسات ليُقوِّل غيره ما لم يقله .ومنهم من ينقل مفهوم الكلام لا منطوقه و نصَّ كلامه وطريقة نطقه . ومنهم من ينتقي منه ما يوافق هواه ويحقق مصلحته .ومنهم من يقرن بين الخبر وناقله ، في غفلة تامة عن مدى تأثير رؤيته الفكرية وانطباعاته النفسية على صياغة الخبر وطريقة نقله .ومنهم الذي يصله الخبر صحيحا فيتحرى الأمانة في تبليغه دونما زيادة أو نقصان ، لكن آفته أنه بلَّغه بسخرية وتهكم واحتقار، مما حطَّ من قيمته وقيمة من أُخبر عنه . ومنهم ومنهم وهلمَّ جرا ... فإذا ما بلغك عن أخيك خبر ما، فلا تعجل بقَبوله بل أمهل حتى تعلم صحته . وإذا ما أشيع عن أخيك سوء في مجلس ما فأنت أمام خيارين اثنين، إما أن تنصرف زجرا للقائل عن فعله . وإما أن تذبَّ وتنافح عن عرض أخيك ما استطعت إلى ذلك سبيلا . هذا الذي يقتضيه واجب النصح الذي ننادي به في الناس ، وإن الواجب يحتم أن نبدأ بأنفسنا ، نتربى على ذلك ولا نكون إمعة تابعا لارأي له . نُوطِّن أنفسنا ونستجمع قوانا وشجاعتنا لنقول للمسيء أسأت وللمخطئ أخطأت . نقولها لكن في غير عنف وتجهم ، بل بلطف وأدب . احذر أن تنشرالخبر وتذيعه في المحافل والمجالس والمنتديات لئلا تترك المجال فسيحا لكل من شاء أن يقول ما شاء وقتما شاء، فتغدو الأعراض مجرّحة والسمعة ملوّثة،وحين يُحَصحَصُ الحق لن تستطيع تدارك الأمر ، لأن الكلمة إذا انطلقت استحال إرجاعها. وحتى لا تترك للشيطان فرصة العبث بينك وبين أخيك فالتمس له الأعذار التي تبرئ ساحته، وإن استطعت أن تسعى إليه مستفسرا متبيّنا مما سمعت قبل الخوض فيه فافعل ، فهذا مظِنَّة للحفاظ على ماء وجهه وتعزيز ثقته فيك وعلوِّ قدرك عنده ، واعلم بأن من وشى إليك اليوم يشي بك غدا . لا تنتقِ من الخبر ما يوافق هواك، أو تَقرن بين الخبر وبين رأي قائله. وهَب أنك سمعت خبرا ثبت صدقه فلتتوقف عن إشاعته ونشره بين الناس ، خاصة إن تبيَّن أن لا مصلحة تُرجى من ذلك . أما عن أسباب فُشوِّ الإشاعة وذيوعها فكثيرة اكتفي هنا بذكر بعض الأسباب التي لها صبغة ذاتية نفسية، علما أن ثمَّة أسبابا أخرى لها علاقة بالجو السياسي والاقتصادي. أولا: فصاحة قول المشيِّع وحسن منطقه. ثانيا: كونه ممن يُستمال إليه قلب السامع إما بسبب صحبة أو تحزُّب ، فيُحسِن به ظنه دون أن يكلِّف نفسه عناء فحص ما سمع، فأحرى أن يطالبه بالبيِّنة على قوله . ثالثا: موافقة الخبر لهوى في نفس السامع، كأن يرى فيه انتصارا لنفسه وتقليلا من قدر أخيه. رابعا: ضيق صدره وحسدُه على وهب الله تعالى أخاه وآتاه من فضله وساقه على يديه، إما مالا أو جاها أو علما أو محبة وقَبولا وتقديرا في قلوب الناس ، فلا يطوي الحَقود جوانحه إلا على غضب مكتوم رجاء زوال النعمة وتحقق الإخفاق والفشل. وما درى المسكين أنه ، قبل أن يسيء إلى أخيه ،فقد أساء الأدب مع خالقه الذي قسم الأرزاق المادية والمعنوية بين عباده. قرائي الكرام ، رجاءي ، وأنا على وشك توديعكم، أن تكون الغاية من رسالتي قد تحققت ،وقد استفرغت جهدي لاستكشاف أهم مفسدات الأخوة قصد علاجها ، آملا أن أظفر منكم بدعاء صالح أجد بركته يوم الوقوف بين يدي الله تعالى .