يتوجس الفرنسيون عامة والمهاجرون خاصة مما ستؤول إليه الانتخابات الرئاسية الفرنسية ، وقد تتبعوها بحماس وفي نفس الآن بقلق شديد ، وترصدوا عقارب الساعة لمعرفة النتائج نظرا لتقارب استطلاعات الرأي في الأيام الأخيرة بين كل من الرئيس الحالي المرشح والمنتهية ولايته ومرشح الحزب الاشتراكي فرانسوا هولا ند الذي رشحته استطلاعات الرأي بتبوئ المرتبة الأولى . كما أن الصراع ظل على أشده على المرتبة الثالثة بين كل من مرشح جبهة اليسار جون لوك ميلا نشو وزعيمة الجبهة الوطنية المتطرفة مارين لوبين. بالفعل تمكن مرشح الحزب الاشتراكي من الحصول على الرتبة الأولى رغم أن الفارق لم يتجاوز 1.6، غير أن نتيجة الدور الاول من الانتخابات خلخلت المشهد السياسي الفرنسي وبعثرت أوراق المرشحين اللذين مرا للدور الثاني ،كما أربكت الساسة والمحللين السياسيين ، ودفعت المهتمين إلى التساؤل حول النتيجة التي حققتها زعيمة الجبهة الوطنية المتطرفة مارين لوبين حيث حصدت ما يقارب من 18 °/° من أصوات الكتلة الناخبة . فالتساؤل الأولي والذي فرض نفسه بإلحاح هو : هل الناخب الفرنسي صوت لليمين المتطرف في شخص مارين لوبين انتقاما من السياسة التي اتبعها المرشح المنتهية ولايته ؟ أم أن الأمر اقتناع بالخطاب وبالبرنامج اللذين سوقت لهما مارين لوبين لمواجهة خصومها؟ لقد خرجت السيدة مارين لوبين زعيمة اليمين المتطرف على أنصارها بابتسامتها العريضة المعهودة وهي تعبر عن الإنجاز الذي حققته والفرحة بادية على محياها ، منشرحة الصدر قائلة أن هاته النتيجة "تعبير عن ضعف نيكولا ساركوزي " و " بداية لنخبة جديدة معارضة ..." . فالنتيجة التي حصل عليها حزب الجبهة الوطنية المتطرف لها عدة عوامل أهمها ، فقدان الثقة في الرئيس المنتهية ولايته لأنه لم يف بالوعود التي التزم بها في حملته السابقة ، كما أن الحملة لهاته السنة صادفت حدثي مونتوبان وتولوز اللذين خلفا صدمة لدى الفرنسي . وقد استغلته لصالحها لتهاجم نيكولا ساركوزي واعتبرته المسؤول الأول على الحدثين لأنه تساهل مع المهاجر ولم يحقق الأمن للمواطن الفرنسي الذي كان يصبو له. كما هاجمت حتى اليسار وبالخصوص جون لوك ميلا نشو مرشح جبهة اليسار وكذلك فرانسوا هولا ند مرشح الحزب الاشتراكي واعتبرتهم جميعهم يغازلون المهاجرين . وقد ركزت في هجومها على الرئيس الحالي محملة إياه مسؤولية الاوضاع التي يعيشها المواطن الفرنسي . وأن البديل الحقيقي يتجلى في البرنامج التي طرحته لأنه مخالف لكل البرامج التي تقدم بها المرشحون الآخرون . فهي تهيئ حزبها للمرحلة القادمة لأنها تعتقد ان ساركوزي وهولاند وجهان لعملة واحدة ، وتتمنى أن يكون الفائز هاته المرة فرانسوا هولاند لأن الفرنسي سيفقد الثقة كاملة في كلا الطرفين وأنها ستفوز على مرشح هاته الولاية بالضربة القاضية . واصلت خطابها القديم الجديد الذي ينبني على الكراهية للأجانب ، كما ساعدها الخطاب المعهود لنيكولا ساركوزي الذي تعود عليه منذ أن اعتلى كرسي وزارة الداخلية المتعلق بموضوع الهجرة والأمن للمواطن الفرنسي الذي حفظ على ظهر قلب أسطوانته المرتبطة ب"استفادة المهاجر من إعانات الدولة ، وان الفرنسي أولى بها، ومسألة التهديد الامني" . فالناخب لم يحس بالأمن الذي وعده به ولم يوقف الرئيس المنتهية ولايته الهجرة ماعدا ما فعله في حق الداعية الإسلامي يوسف القرضاوي وآخرين ، حيث رفضت السلطات الفرنسية التأشير لهم بالدخول إلى فرنسا لحضور ملتقى مسلمي فرنسا الذي ينعقد سنويا ببورجيه بنواحي باريس . هذا الرفض أراده طعما لاستمالة بعض أصوات اليمين المتطرف. غير أن ذلك لم يشفع له فحصل على الرتبة الثانية ، في حين تمكنت زعيمة اليمين المتطرف أن تحصد ما لم يحصده والدها في الانتخابات الرئاسية لسنة 2007. فالنتيجة التي حصلت عليها فاجأت حتى أولئك المشرفين على مراكز استطلاعات الرأي. فهل تريد مارين لوبين تكريس تصور جديد لحزبها في كونه يمثل المعارضة الحقيقية التي يطمح إليها الفرنسيون والتي افتقدوها لسنوات أم مجرد صوت رافض لواقع معين يتغير بتغير اللحظة ؟ . هذا ما ستكشف عنه انتخابات السادس من ماي المقبل. استطاعت بفعل حنكتها السياسية وخبرتها التي اكتسبتها بجوار والدها ألا تركز على المواضيع التي تتعلق بالعنصرية المكشوفة ، بل حاولت أن تضع نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولا ند في سلة واحدة معتبرة إياهما يمثلان النيوليبرالية ويتكلمان باسم المصارف الكبرى وان ما يدعيه زعيم الحزب الاشتراكي مجرد كلام في كلام لا يمت صلة بالواقع . وأن السنوات الخمس التي قضاها الرئيس المنتهية ولايته لم يٌحس الفرنسي بأي تغيير بل إن الوضع تفاقم ، فارتفعت البطالة ولم يتحقق النمو المنشود . لقد غيرت من أسلوب خطابها لأنها أرادت من خلاله استمالة البسطاء من الفرنسيين خاصة الذين يسكنون المدن الصغيرة والبوادي التي يشهد فلاحوها أزمة ، وبالفعل تمكنت أن تحصل في هاته المناطق على أصوات مهمة جعلت منها رقما صعب التجاوز ومعادلة لا يمكن حلها ببساطة . هذا الخطاب الذي يميل إلى حد ما إلى الشعبوية ، لا يمكن أن ينسينا الظاهرة الجديدة ،المتميزة والفريدة التي شكلها بروز مرشح جبهة اليسار جون لوك ميلا نشو الذي تميز بأسلوبه وبخطاباته حيث استطاع أن يحقق ما لم يحققه الحزب الشيوعي الفرنسي في ظرف ثلاثين سنة ، فقد حصل على نسبة مئوية مرضية بوأت له المرتبة الرابعة في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية التي جرت يومه 22 أبريل . وهذا راجع بالأساس إلى الحماس الذي لوحظ في طريقة مرشحه وكأنه يعيد بالمواطن الفرنسي إلى سنوات الستينيات والسبعينيات التي عرفت بانتشار المد الشيوعي وتبوئه مكانة مهمة في اوساط الشباب آنذاك . كما تمكن من وضع تركيبة سياسية نهمت من فكر الاشتراكية الديمقراطية ومن معين اهتمامات الأيكلوجيين . أراد جون لوك ميلانشو أن يهزم الأوليكارشية التي يتزعمها نيكولا ساركوزي ، كما كان يطمح إلى بناء نظام دولي جديد ينبني على " مناهضة العولمة " ، مع تأسيس أممية عالمية تعيد للإنسان كرامته وتتحكم في الثروات التي نهبت من قبل الأقلية التي استحوذت على خيرات العالم من خلال الاستغلال المتوحش للطبقة العاملة حسب رأي جون لوك ميلانشو . في حين نجد زعيمة حزب الجبهة الوطنية المتطرف مارين لوبين تدافع عن فرنسا وعن الشعب الفرنسي وعن تقاليده ، وذلك بفك الارتباط بالاتحاد الأوربي مع العودة إلى عملة الفرنك الفرنسي . فالصراع الذي احتدم في الدور الاول من الانتخابات الرئاسية الفرنسية أفرز توجهين اثنين من الصعب الحسم فيهما، خصوصا وأن الناخب رفع من أسهم الجبهة الوطنية المتطرفة بالتصويت عليها . كما أظهر حجم الغضب للناخب الفرنسي من السياسة التي نهجها الرئيس المنتهية ولايته نيكولا ساركوزي . فكيف ما كانت النتيجة التي ستفرزها صناديق الاقتراع يومه 6 مايو/أيار ، فإن المشهد السياسي الفرنسي لن تتضح معالمه إلا مع الانتخابات التشريعية التي ستجري في منتصف شهر يونيو/حزيران المقبل.