عقب ظهور أولى نتائج الانتخابات التونسية والتي أظهرت فوزا كبيرا لحركة النهضة، تناقلت وسائل الإعلام المختلفة تصريحات لمناضلين من التيارات العلمانية يلعنون هذه النتائج، ورأينا بعضهم يبكي على "مصير تونس" وعلى "جهل الشعب التونسي وانعدام الحس النقدي عنده" حين اختار "الرجعيين الظلاميين" ليضعوا دستورا للبلاد ويؤسسوا لمرحلة انتقالية لما بعد الثورة، بل إن بعضهم ربط فوز النهضة ب"خروف العيد" متهما الشعب ببيع أصواته من أجل مصالح مادية، وهدد آخر بثورة جديدة إذا "أساء الشعب الاختيار"، في حين قرر آخر مغادرة البلاد التي "لم تختر طريق الحرية" ووصف ما جرى بالمهزلة، بل طالبت أخرى بتدخل "الأم" فرنسا لحماية "المكاسب الديمقراطية" وتحذيرها من تأسيس "إمارة طالبان" في تونس. لم يكن رد الفعل هذا مستبعدا، فكثيرا ما خوَّف دعاة العلمانية الناس من "المد الإسلامي" فهناك "حالة من الخوف"من كل ما هو إسلامي، فالنخبة "المثقفة" في بلادنا العربية تعلن بشكل واضح تخوفها من الإسلاميين حيث لا زالت التهمة الجاهزة التي يُواجَه بها الإسلاميون في الوطن العربي هي: "استخدام الدِّين في السياسية" أو "استغلال الدِّين لأهداف سياسية" ،ويعملون على تصوير الإسلاميين على أنهم أعداء للمرأة وللحرية وللديمقراطية ، وأنهم يستغلون المشاعر الدينية للناس من أجل كسب تأييد الناخبين للوصول إلى السلطة، وبالتالي اكتساب "الشرعية الجماهيرية" إضافة إلى "الشرعية الدينية" حسب زعمهم. في ظروفنا هذه يقبل العلمانيون أية نتيجة تؤدي إليها الديمقراطية، إلا أن ينال الإسلاميون خلالها تمثيلًا في السلطة يمكنهم من إيصال صوتهم، وبسط مشاريعهم أمام الشعب، مثلهم مثل بقية خلق الله، بعد طول كبت وقهر ومطاردة. يقول أحدهم {في الحالة المصرية}: (كم من الجرائم تُرتكب باسمك أيها الديمقراطية!!... وإذا طرحنا سؤالًا حول هذه الأغلبية التي في يدها الآن تحديد مستقبل مصر عبر صناديق الانتخابات ويا للأسف نجدها أغلبية تعاني الأمية، أمية القراءة والكتابة تصل إلى خمسين في المائة!! هذه هي الأغلبية التي من المقرر أن تحدد مستقبل مصر ومستقبل أولادنا وأحفادنا. وإذا اعترضنا قالوا هذه هي الديمقراطية. وهنا دعونا نجادل: هل الديمقراطية مذهب سياسي بلا عيوب؟ ولماذا لا نتدخل في فحوى كتالوج الديمقراطية ونقدم تعديلات تناسب الواقع المر، الذي أفرز لنا أغلبية إذا قادتنا حطمتنا، وإذا اعتمدنا عليها سلمتنا إلى يد من لا يرحم!!!... ويواصل قائلا: وما معنى الأغلبية هنا؟ فهل هي أغلبية بلا ضابط ولا رابط ولا شروط؟ فقط المطلوب أن يكون لك صوت وبطاقة رقم قومي يتم بها إحصاء المواليد والموتى، ومن بلغ سن الرشد دون حتى مجرد شرط الحصول على شهادة محو الأمية!! لقد حرصت الأنظمة الفاسدة الحاكمة بمصر على إبقاء هذه الأغلبية على حالها، تعاني المثلث المدمر الجهل والفقر والمرض، حتى تسهل قيادتها ويمكن الحصول على أصواتها، ولنسقط نحن في فخ الشكل الديمقراطي، فلا نحصد من الديمقراطية غير لعتنها ونشرب مرارتها، وننتظر حكم الأغلبية الجاهلة على الأقلية المستنيرة، وهذا ليس استعلاء أو كبرياء، بل توصيف صادق لواقع مؤلم يضعنا في خندق مظلم لا حل للهروب منه سوى قيادة المستنيرين ووضع شروط للتصويت الانتخابي...، ولنضف لتعريف الديمقراطية أنها حكم الأغلبية المتعلمة الواعية الناضجة أو نصمت ونستسلم ل"اللعنة" أو نبكي على مستقبلنا من الآن . (والكلام ل :روبير الفارس { جريدة المصري اليوم، 11/8/2011م} أصبحت الديمقراطية "لعنة" تطارد العلمانيين وتؤدي إلى "حكم الأغلبية الجاهلة على الأقلية المستنيرة". والحل كما يرون هو إضافة تعاريف جديدة للديمقراطية مثل : "حكم الأغلبية المتعلمة الواعية الناضجة". ونتساءل: أي تعليم وفي أي مدرسة وعلى يد من؟ طبعا المقصود هنا هو التعليم المنفصل عن الهوية، على يد فلاسفة الأنوار وفي مدرسة التغريب ومديرها اللورد كرومر1. فهم يرون أن صناديق الاقتراع لا تحقق الديمقراطية، ولا تأتي –في ظروفنا- إلا ب"ديكتاتورية الأغلبية" . وقد طرح الأستاذ عصيد هذا السؤال في مقال له: هل كان الإسلاميون سيتشبثون باختزال الديمقراطية في صناديق الاقتراع ورفض أسسها الفكرية وقيمها لو لم يكن الشعب المغربي قد تعرض على مدى خمسين سنة لآثار توظيف الدين في الحياة السياسية من طرف نظام سياسي غير ديمقراطي؟ 2 وهنا نطرح سؤالا آخر: ألم يتعرض الشعب التونسي طيلة خمسين سنة لمحاربة هويته وإسلامه والعمل على تجفيف منابع التدين في المجتمع فحوربت المساجد وقمع الإسلاميون على يد كل من بورقيبة وبنعلي، ولم يتم في عهدهم أي استناد للدين في الحياة السياسية ورغم ذلك فاز الإسلاميون في الانتخابات الأخيرة؟ مما دفع عصيدا لتوجيه نصيحة للعلمانيين مفادها أنه: "عليهم أن يتكتلوا لحماية مكاسبهم الديمقراطية"3 ورغم أنه يرى أن "فزاعة الإسلاميين" لم تعد تنفع أنظمة الاستبداد. لكنه يستدرك:"لكن هل يعني هذا أنّ الإسلاميين لم يعودوا مصدر خوف أو تهديد للديمقراطية وقيمها ؟ من الصعب أن نجيب بالإيجاب"4 لا يتهم العلمانيون أنفسهم ولا يريدون، رغم العزلة التي يعيشونها في أفكارهم وخطاباتهم بعيدا عن هوية الشعب وجذوره. بل يوجهون أصابع الاتهام دائما للذين "يدخلون الدين في السياسة". إن مناخ الحرية إذا توفر للشعوب العربية والإسلامية، ودعيت لتختار فلن تذهب بعيدا عن هويتها وتاريخها وأصالتها. طبعا إذا كان المناخ السائد مناخ ديمقراطية حقيقية، ليس كما يتم الترويج له في المغرب. لم يعد الإسلاميون هم مصدر الخوف لدى العلمانيين بل أصبحت الديمقراطية نفسها مصدر خوف وقلق مادامت رياحها تأتي بما لا تشتهي سفنهم. 1-كان من كبار دعاة التغريب والاستعماريين في العالم الإسلامي وواحد من الذين وضعوا مخطط السياسة التي جرى عليها الاستعمار ولا يزال, في محاولة القضاء على مقومات العالم الإسلامي والأمة العربية. ومن كلام اللورد:. "إن الحقيقة أن الشاب المصريَّ الذي قد دخل في طاحون التعليم الغربي، ومرَّ بعملية الطحن يفقد إسلاميته، أو على الأقلّ أقوى عناصرها، وأفضلَ أجزائها. إنه يتجرد عن عقيدة دينه الأساسيَّةِ. إنه لا يعود يؤمن بأنه لا يزال أمامَ ربّه، وأنه تُراقبه عين لا تخفى عليها خافية، وأنه سيحاسب أمامه يوما من الأيام". 2- من مقال للأستاذ أحمد عصيد تحت عنوان "معنى الديمقراطية بين اليساريين والإسلاميين" 3 و4- من مقال للأستاذ أحمد عصيد تحت عنوان "هل تحلّ التجربة التونسية معضلة الإسلام السياسي؟"