بات وضع تونس بعد فرار الرئيس المخلوع ''بن علي'' أشبه بالسفينة التي غادرها الربان، لكن طاقمها ظل على متنها. فقد أظهرت التطورات اللاحقة بعد الجمعة الفائت بأن عهده لم ينته بخروجه من الحكم، بل إن النظام السابق يقاوم بعدة وسائل تجلت في الإخراج الدستوري المرتبك والعمليات المسلحة والتخريب والترهيب. ويضاف إلى ذلك بعض المواقف العربية والأجنبية، التي وقفت، علانية، ضد إرادة الشعب التونسي، محذرة مما زعمته ''سيطرة'' الإسلاميين على مقاليد الحكم والدولة. ويبدو في الخفاء، أنه من الآن فصاعداً، بات الوضع التونسي يتجاوز التونسيين، إلى حسابات دولية وإقليمية لرسم حدود تونسالجديدة، انطلاقاً من استيعاب الأخطاء في فهم قوة بن علي، وانعكاسات سقوط نظامه على مصالح الأطراف الدولية. فاتورة إزالة آثار الديكتاتورية في تونس تبدو أكثر كلفة من إسقاط الديكتاتور. فلم تدم فرحة التونسيين طويلاً، ومعهم الشارع العربي. فكل المؤشرات الواقعية من داخل تونس تدل على أن ''التحول/المعجزة'' الذي أحدثه الشعب بدمائه تعرض لعملية سطو منذ أن سلك بن علي طريق المطار، وظهرت مجموعة من رجالات حكمه تريد أن تحرف المسار العام لثورة الحرية والكرامة، وتعيد التونسيين إلى بيت طاعة النظام، من خلال التلاعب بالدستور الذي فصّله ''بن علي'' على مقاسه. دعوة للتخلص من بقايا النظام الديكتاتوري في غضون ذلك، طالبت حركة النهضة في تونس، الشعب التونسي بمواصلة الضغط على النخب السياسية والثقافية في تونس حتى تنجز مهمتها بالإطاحة بما سمته الحركة النظام الديكتاتوري الذي استمر لأكثر من نصف قرن. وأكدت في بيان لها أول أمس، أن ''التمادي في الركون إلى هذا الدستور وما انبثقت عنه وعن ما يسمى المجلس النيابي من قوانين ومؤسسات يمثل خطرا حقيقيا على ثورة الشعب وهدرا إن لم يكن خيانة لدماء شهدائها وجرحاها والتفافا أثيما حول أهدافها، وذلك لما يعلمه الجميع من الطبيعة الدكتاتورية الانفرادية التي صيغ وفقها هذا الدستور على مقاس الدكتاتور وما انبثق عنه من قوانين تدور كلها في فلك مصالح الحزب الواحد والزعيم الفرعون''. ودعت إلى تأسيس مجلس يمثل كل الاتجاهات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني كالنقابات التي شاركت في الثورة وعمادة المحامين وفعاليات من أصحاب الشهائد المعطلين ممن كان لهم فعل في الثورة.. وذلك من أجل وضع دستور ديمقراطي لنظام برلماني يوزع السلطة على أوسع نطاق ويضع نهاية حاسمة للعهد المشؤوم، عهد الحزب الواحد والزعيم الفرعون''. وأضافت أن من مهام هذا المجلس التأسيسي ''إبطال العمل بالدستور القائم وحل المجالس التي تأسست عليه :النيابي والدستوري والمستشارين''. كما دعت النهضة ''القوى السياسية المعارضة إلى الحوار للاتفاق على معالم المشروع المجتمعي الجديد الذي يؤسس للبديل الديمقراطي الحقيقي''، و''شباب الثورة إلى ملازمة أتم حالات اليقظة لمراقبة عمل النخب، والوقوف سدا منيعا كلما ظهر انحراف بالثورة عن أهدافها في قبر نظام الفساد والاستبداد''. ودعت ''إلى حل كل الأجهزة الأمنية كالبوليس السياسي وفرق الاستعلامات والحرس الرئاسي ،التي أوغلت في دماء الناس وأعراضهم وثرواتهم''. كما ناشدت ''قوات الجيش والأمن إلى حراسة مؤسسات البلاد والأمن الخاص والعام، وملاحقة فلول فرق الموت التي خلفها الطاغية وراءه تعيث في البلاد فسادا لإثبات أن التونسيين همج ولا يستحقون الحرية ولا يصلح أمرهم إلا بكتاتور''. من جانبه، صرح قيادي بارز في حركة النهضة داخل تونس بأنه تم استثناء حركته وبعض القوى السياسية من تلك المشاورات، مما يؤشر على استبعاد الإسلاميين من أي تشكيلة حكومية تنقل البلاد من أزماتها الراهنة التي خلفها نظام بن علي البائد. وقال حمادي الجبالي الأمين العام والناطق الرسمي بإسم حركة النهضة في تونس لفضائية ''الجزيرة''، صباح أمس، بأنه استعرض مع الوزير الأول محمد الغنوشي بصفته الحزبية، بعد لقاء جرى بينهما بعدما بادر هو شخصيا بطلب اللقاء معه، الأوضاع الراهنة في البلاد. ونفى أن يكون اللقاء قد خصص لتوجيه طلب إلى الغنوشي إشراك وتمثيل ''النهضة'' داخل الحكومة المقبلة. وشدد القيادي في النهضة على أن مطلب حركته في المرحلة الراهنية التي أعقبت سقوط نظام بن علي هو ''التأسيس لمرحلة جديدة تلبي مطالب الشعب'' بناء على ''منهجية'' واضحة، ووصف مبادرة الغنوشي ب''الخطوة الخاطئة''. وطالب بإشراك كل الأطراف المؤثرة والفاعلة في الساحة التونسية ''دون استثناء ودون إقصاء لرسم مشهد وملامح المستقبل التونسي''، بحسب تعبيره. وأضاف بأن ''النظام لم يستوعب'' رسالة المنتفضين والمحتجين بالشكل المطلوب. كما شدد الجبالي للغنوشي على أن الحكومة الجديدة ''لا تعبر عن مجموع الشعب التونسي وعن كل فئاته وحساسياته وشرائحه''، وانتقد استبعاد حركته وإقصاء فاعلين وممثلين للشعب التونسي، وصفهم، ب''أطراف جديرة ببناء مستقبل تونس وتقدمها من قوميين ويساريين ومنظمات وشخصيات''، واعتبر ذلك ''مؤشرا خاطئا وسلبيا في الدخول إلى المرحلة الجديدة''، بحسب وصفه. وأكد الجبالي على عدم أحقية أي طرف يستبعد ويقصي آخر. كما شدد على ضرورة أن تتعاون جميع الأطراف التونسية من أجل تشكيل ''حكومة وحدة وطنية'' و''إنقاذ وطني''، نافيا أن تؤيد حركته الحكومة المرتقبة مادامت لا تمثل كافة أطياف الشعب التونسي. ومن المتوقع أن يكون الوزير الأول التونسي محمد الغنوشي قد أعلن أمس عن تشكيلة حكومة وحدة وطنية مؤقتة للإعداد لانتخابات مبكرة قد تجرى في غضون ستة أشهر، وتضم ممثلي الأحزاب المعترف بها وشخصيات مستقلة ونقابية وحقوقية، يأتي ذلك مع غياب عدة أحزاب سياسية توصف بالمحظورة عن المشاورات والتشكيلة. وكان الغنوشي قد أكد أول أمس أن الحكومة الجديدة التي واجهت مسبقا انتقادات من قبل بعض الشخصيات المعارضة ستفتح صفحة جديدة، متوعدا بمحاسبة صارمة للمتورطين في الاعتداءات التي ينفذها مؤيدون للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وبكشف من يقف وراءهم. وكانت مشاورات موسعة عقدت بين الغنوشي وأحزاب المعارضة ليل السبت/الأحد الماضيين، تدارست الخيارات بين تشكيل حكومة وحدة على نظام ''المثالثة''، أو حكومة تكنوقراط، في حين اجتمعت أحزاب معارضة أخرى وحدها وبحثت مقترح تشكيل مجلس تأسيسي، وإقصاء الحزب الحاكم سابقاً بما يشبه مشروع اجتثاث حزب البعث في العراق. وستضم الحكومة لأول مرة ممثلين لثلاثة أحزاب توصف بأنها ''راديكالية'' وتعرضت للإقصاء والتضييق في عهد الرئيس المخلوع، وهي الحزب الديمقراطي التقدمي، والتكتل من أجل العمل والحريات، وحركة التجديد، بينما أقصيت منها أحزاب الموالاة التي كانت تدعم علنا بن علي. وينتظر أن يتولى مؤسس الحزب الديمقراطي التقدمي أحمد نجيب الشابي والأمين العام للتكتل مصطفى بن جعفر، والأمين العام لحركة التجديد أحمد إبراهيم ثلاث وزارات من بينها التنمية الجهوية والصحة. ويتوقع أن تضم الحكومة شخصيات مستقلة بينها السفير السابق أحمد ونيس والعميد السابق للمحامين الأزهر الشابي، إضافة إلى ثلاثة خبراء أوصى بهم الاتحاد العام التونسي للشغل. وفي المقابل يتوقع أن يحتفظ وزيرا الخارجية كمال مرجان والداخلية أحمد فريعة بمنصبيهما. وبينما دافع مؤسس الحزب الديمقراطي التقدمي أحمد نجيب الشابي عن مشاركة ''أحزاب المعارضة الثلاثة'' في حكومة الوحدة باعتبارها خطوة انتقالية نحو الديمقراطية، اعتبر الناطق الرسمي باسم حزب العمال الشيوعي المحظور حمة الهمامي أن تلك الأحزاب من بقايا النظام. وبحسب ''الجزيرة نت''، رأى الهمامي أن تلك الأحزاب تمارس وصاية على الشعب، وهي التهمة التي رفضها الشابي. بدوره، قال رئيس الهيئة التأسيسية لحزب العمل الوطني الديمقراطي عبد الرزاق الهمامي إن الحكومة المعلنة لا تمثل الشعب، وهي حكومة تملأ الفراغ، مشيرا أن حزبه سيبقى في صف المعارضة. من جهته، أبرز المتحدث باسم تيار الإصلاح والتنمية محمد القوماني أنه توجد في الوقت الحالي محاولات جدية للالتفاف على الثورة التي حققها الشعب التونسي، مشيرا أن هناك اتجاها لمقايضة الحرية بالأمن من خلال عمليات نشر الفوضى والانفلات الأمني. وقال القوماني ل''الجزيرة'' إن هناك استمرارا لنفس المنظومة السياسية والإعلامية، وإن الأحزاب الثلاثة التي دعيت للتشاور لا تمثل كل ألوان الطيف السياسي في تونس ولا تعكس الخارطة السياسية بجميع مكوناتها. وأكد أن المعارضة لم تجر مشاورات جدية للوصول إلى موقف مشترك تتفاوض على أساسه، مشيرا إلى غياب أجندة تحدد كيف ستجرى الانتخابات في ظل وجود نفس القوانين والظروف والأشخاص. تلويح عربي وأجنبي ب''فزاعة'' الإسلاميين من جانب آخر، وعقب فرار بن علي وسقوط نظامه الاستبدادي، ارتفعت أصوات من خارج تونس وداخلها تحذر من ''فزاعة'' الإسلاميين واحتمال سيطرتهم على البلاد. فقد قامت أصوات من اليسار الاستئصالي في تونس، والذي تحالف مع الديكتاتورية 23 سنة، بتحذير الخارج من خطر الإسلاميين المزعوم. صهيونيا، أبدت أوساط إسرائيلية تخوفها من مستقبل تونس بعد الإطاحة بنظام الرئيس زين العابدين بن علي، ودعت المجتمع الدولي إلى منع ''الإسلاميين'' من السيطرة على السلطة في البلاد. فقد عبر سيلفان شالوم نائب رئيس الوزراء الصهيوني والمولود في تونس عن أمله في أن يستمر ما سماه ''الاعتدال'' في هذا البلد بعد الانتفاضة الشعبية التي أدت إلى الإطاحة ببن علي. وأضاف أن تونس ''دولة معتدلة وكانت مرتبطة طوال السنين الماضية بالغرب، ونحن نتابع التطورات من أجل الحفاظ على علاقاتنا مع هذه الدولة، ونأمل أن يمنع المجتمع الدولي جهات إسلامية من السيطرة عليها''. وعلل موقفه بالقول ''ها نحن نرى ثلاثة مراكز ليست مرتبطة بإسرائيل وهي تونس ولبنان والسودان''. وقال شالوم في حديث لإذاعة جيش الاحتلال إنّ الأسرة الدولية فضلت غضّ الطرف عن انتهاكات حقوق الإنسان في عهد ابن علي. بالطبع، هناك اليوم تخوُّف كبير من أن تعود الحركات الإسلامية التي كانت تعتبر حتى الآن خارجة عن القانون بقوة إلى البلاد. ويحظر القانون التونسي إنشاء أحزاب على أساس ديني وكان نظام ابن علي معروفًا بتشدده حيال الإسلاميين. وفي سياق متصل، ذكرت إذاعة جيش الاحتلال الإسرائيلي أن المستوى السياسي الإسرائيلي يتابع بتخوف ما يجري بتونس، وذلك في إطار تخوفاته من انتقال السلطة هناك إلى من سمتهم الإذاعة ''إسلاميين متشددين''. وأشارت الإذاعة في تقريرها الذي بثته، أول أمس، إلى أن الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي ''يعتبر من معسكر المعتدلين العرب، وأقام في السنوات الأخيرة علاقات سرية غير رسمية مع إسرائيل، وكانت تونس مؤخرا تعتبر محطة سياحية إسرائيلية''. وفي موقف مفاجئ ومستغرب، حذرت ''الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين''، الشعب التونسي ممّا وصفتها ''موجات الإسلام السياسي'' التي من شأنها أن تجرّ انتفاضته نحو ''مستنقع التطرف والإرهاب''، على حد تعبيرها. وقال الناطق باسم ''الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين'' في الضفة الغربية المدعو رسمي عبد الغني، في بيان تلقت ''يونايتد برس انترناشونال'' نسخة منه السبت الماضي، إن ''الجبهة الديمقراطية وهي ترى في انتصار تونس عامل تنشيط لحركة الأحزاب والقوى الديمقراطية واليسارية والعلمانية العربية، تحذر من ركوب موجات الاسلام السياسي لانتفاضة الشعب التونسي، وجرها نحو مستنقع التطرف والارهاب''. وهاجمت الجبهة في بيانها حركة المقاومة الإسلامية ''حماس'' من خلال مناشدة قوى المجتمع التونسي ''قطع الطريق على الإسلام السياسي وشعاراته المضلّلة، وحتى لا تتكرر تجربة قطاع غزة في تونس حيث تسود قوى الرجعية والظلام''، وفق زعم البيان. يذكر أن سنوات القمع الطويلة التي عاشتها تونس في ظل حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، كانت تبرر وفق مراقبين بمواجهة الحركات الإسلامية، وهو ما أكده سفير تونس لدى اليونسكو المستقيل، الجمعة الماضية، عندما كشف في تصريحات صحفية فحوى اتصال جرى بينه وبينه بن علي برر فيه الأخير ما جرى في الاحتجاجات الشعبية من قتل للمواطنين بأنه في سبيل قطع الطريق على وصول الإسلاميين للحكم. من جهتها، استهجنت حركة الجهاد الإسلامي، تصريحات ''الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين'' التي يتزعمها ''نايف حواتمة'' المعروف بعدائه الشديد للحركة الإسلامية. وقالت الحركة على لسان القيادي الشيخ خضر حبيب، في تصريح به ''المركز الفلسطيني للإعلام''، أول أمس: ''نحن ننظر بخطورة لمثل هذه التصريحات''، مشددا على أنها ''ليست مقولة هؤلاء الناس، لأنهم أبواق لأسيادهم في الغرب، وتمثل وجهة نظر فرنسا وجميع الجهات المعادية والمتآمرة على الإسلام والشعب التونسي والفلسطيني''. وأضاف الشيخ حبيب: ''نحن ننظر بخطورة إلى الدعوات المطالبة باستبعاد الإسلاميين من على الساحة ومحاصرتهم، وهذا يدلل على أن هناك محاولات لحرف البوصلة التونسية بعد أن انتصرت على جلاديها''. وتابع: ''نحن نطالب بأن يتم إعطاء الشعب التونسي بكل أطيافه حرية الرأي والتعبير''.