فترة عقد ونصف من الزمن كانت كافية بالنسبة للملك محمد السادس لأن يحدث تحولا استراتيجيا في سياسة بلاده الخارجية بشكل عام، وفي سياسته لحل نزاع الصحراء وفق الرؤية المغربية بوجه خاص. فقد انتبه في السنوات الخمس الأخيرة؛ إلى أن خوض المعارك الدبلوماسية الموسمية نهاية كل شهر آذار/ مارس أو بداية شهر نيسان/ أبريل – أي قبل قرار مجلس الأمن حول تطورات نزاع الصحراء – يعرض مصالح المغرب للاستهداف، ويجعله في الدائرة نفسها، إن لم يدفعه لحشد جاهزيته لمواجهة مناورات جديدة تستثمر ورقة حقوق الإنسان لإضعاف موقفه؛ بالدفع بمقولة توسيع مهام المينورسو في الصحراء لتشمل حقوق الإنسان، فكان الخيار مراجعة كلية لمفردات الدبلوماسية المغربية، واعتبار التوجه الاستراتيجي نحو إفريقيا مدخلا أساسيا لحل النزاع وإضعاف المحور الجزائري النيجيري الجنوب إفريقي؛ الذي تسبب في متاعب كبيرة للدبلوماسية المغربية في موضوع الصحراء. بدأ الموضوع بالتوجه نحو دول غرب إفريقيا، بعقد شراكات استراتيجية وإبرام عدد هائل من الاتفاقيات الدولية في العديد من المجالات، ثم توجهت السياسة الخارجية المغربية نحو دول شرق إفريقيا، ثم الدول الإفريقية الناطقة باللغة الإنجليزية، وتوج ذلك بعودة المغرب للاتحاد الإفريقي، ثم طلبه الانضمام للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (CEDEAO)، وإبرامه عددا كبيرا من الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية مع دول إفريقيا، وتوجهه الحثيث لاختراق المحور الجزائري النيجيري الجنوب إفريقي، بدءا بمد جسور الحوار مع نيجيريا التي نجح في الأخير إلى كسبها، ثم توجه بعد ذلك إلى إذابة الجليد في العلاقة بينه وبين جنوب إفريقيا، بلقاء جمع الملك محمد السادس جاكوب زوما رئيس جنوب إفريقيا في قمة أبيدجان الأخيرة، والإعلان عن إعادة العلاقات الدبلوماسية مع المغرب بتبادل السفراء، والعزم على تطوير التعاون بين البلدين، ليأتي مؤشر آخر في إفريقيا، بسقوط العدو الأول للوحدة الترابية المغربية، وهو رئيس زمبابوي، موغابي، وسط ترجيحات أن تقدم الحكومة الزيمبابوية الجديدة على سحب الاعتراف بجبهة البوليساريو، في ظل السياسة الجديدة التي تشهدها القارة الإفريقية، وتوقعات بأن تنحسر بشكل واضح رقعة الدول التي تعترف البوليساريو في إفريقيا إلى أقل من عشر دول. والحقيقة أن هذه التطورات لم تكن لتحصل دون ثلاث تحولات في السياسة الخارجية الدولية والإقليمية والمحلية: أولها، توجه الدول الكبرى نحو إفريقيا، باعتبارها قارة المستقبل، والثاني انهيار الاقتصاد الجزائري وضعف الاستقرار السياسي والمؤسساتي بها، ولثالث استثمار المغرب للتطورات الدولية والإفريقية، وإنتاجه لسياسة خارجية جديدة ساهمت في تمدده الجيوستراتجي في القارة. أما العامل الأول، فقد فرض انكماش النمو الاقتصادي العالمي توجه الدول نحو قارة المستقبل، إفريقيا، باعتبارها قارة بكر تستطيع استقطاب عدد ضخم من الاستثمارات، وتحقيق نسب نمو هائلة قد تتعدى 10 في المئة، مما دفع العديد من الدول الكبرى إلى التنافس حول القارة الإفريقية. وساعدت الجغرافية السياسية المغرب ليكون منصة لانطلاق الاستثمارات الأجنبية نحو إفريقيا، وبوابة واسعة للعبور التجاري، وفرض عليه أن يتجه لتغيير نموذجه التنموي في الأقاليم الجنوبية، وتأهيل الصحراء لتأدية هذا الدور الحيوي والاستراتيجي. أما العامل الثاني، فتمثل في التحديات التي عاناها الاقتصاد الجزائري بسبب انخفاض أسعار الطاقة في العالم، وتكبد الاقتصاد الجزائري لخسارة كبيرة من جراء تراجع أسعار البترول والغاز الطبيعي؛ تسبب له، لأول مرة، في عجز تجاري مهول بلغ 6.6 مليار دولار خلال سنة 2016، بالإضافة إلى مؤشرات عدم الاستقرار السياسي والمؤسساتي، التي ظهرت في شكل عزل متكرر لعدد من المسؤولين في المؤسسة العسكرية والأمنية، وعدم استقرار حكومي، وتراجع الثقة الشعبية في العملية الانتخابية، بالإضافة إلى هشاشة مؤسسة الرئاسة بسبب الوضع الصحي للرئيس، وترهل المسار الديمقراطي، وضعف الجبهة الوطنية الداعمة للسلطة.. إذ تسببت كل هذه العوامل في إضعاف الدعم لجبهة البوليساريو، وخفض الدعم المالي الموجه للدبلوماسية الجزائرية الداعمة لأطروحة "تقرير المصير" في الصحراء. أما العامل الثالث، فتمثل في السياسة الخارجية المغربية الجديدة في إفريقيا، التي اعتمدت على خمس نقاط قوة: – الدين، من خلال توظيف رصيد إمارة المؤمنين وبعدها الإشعاعي في إفريقيا، وتوظيف الطرق الصوفية، وتعميم النموذج الديني في تكوين العلماء والأئمة والمرشدين الأفارقة في المغرب، ليكونوا جسر التواصل الديني بين بلدانهم والمغرب. – الأمن، وذلك من خلال وضع خبرة المغرب في مكافحة الإرهاب رهن إشارة الدول الإفريقية، وتأديته دورا مركزيا إلى جوار فرنسا في مكافحة الإرهاب في مالي، وتعميق التنسيق الأمني مع دول الساحل جنوب الصحراء، من أجل مواجهة التهديدات الإرهابية القادمة من المنطقة. – الشراكة الاقتصادية: وذلك من خلال إحداث تحول استراتيجي في الاستثمارات المغربية في إفريقيا، ورفعه شعار الشراكة من أجل تنمية إفريقيا؛ بديلا عن الاستحواذ على مقدرات إفريقيا. إذ أصبحت الاستثمارات المغربية في إفريقيا في أقل من عقد من الزمن؛ رائدة في مجال البنوك والعقار والبناء والاتصالات والأدوية والفلاحة والأسمدة والطاقات المتجددة، وغيرها، كما تم التفكير في مشاريع استثمارية استراتيجية كبرى لإقناع نيجريا بالانخراط في هذا المسار (مد أنابيب الغاز من نيجيريا إلى أوروبا عبر المغرب). سياسة جديدة للهجرة: إذ تبنى المغرب في السنوات الثلاث الأخيرة سياسة جديدة للهجرة؛ استهدف بها الأفارقة. إذ فتح المجال لتسوية أوضاعهم القانونية، وأصدر الملك تعليماته لإدماجهم في الحياة الاجتماعية، وتمكينهم من الخدمات العمومية (التعليم والصحة..)، فضلا عن تشغيلهم، بما جعل المغرب يتحول، بالنسبة للمهاجرين الأفارقة، من دولة عبور إلى دولة إقامة، وهو ما ساعده على إقامة علاقات متينة مع دول المهاجرين، وتبديد العديد من مجالات سوء التفاهم البينية. – التسوية والشراكة: فعلى الرغم من التوجس الذي أبدته فرنسا من الدور المغربي المتزايد في إفريقيا، التي كانت تعدها بالأمس حديقتها الخلفية، وعلى الرغم من التوتر الذي نشأ على هذه الخلفية، والذي وصل في عهد فرانسوا هولاند إلى محاولة اعتقال الرجل الأول في المخابرات المغربية، السيد عبد اللطليف الحموشي، في باريس، على هامش حضوره لقاء للتعاون الأمني، إلا أن المغرب لم يخضع لهذا الابتزاز، وحرك أوراقه في الضغط، خصوصا ورقة مكافحة الإرهاب، ليجبر فرنسا على قبول التسوية والشراكة بديلا عن التوتر في العلاقات الفرنسية، وهو ما تفهم الرئيس الفرنسي الحالي ضرورته؛ في الاستفادة المغربية الفرنسية المشتركة، من غير إصرار على تحجيم التمدد المغربي في إفريقيا. بل إن المغرب أعمل سياسة الشراكة مع العديد من الدول الكبرى، مثل الصين وغيرها، ودخل معها في تفاهمات لإقامة استثمارات في المغرب توجه نحو إفريقيا، مستغلا الجغرافيا لصناعة الشراكة، ليحقق المغرب بذلك هدفين: خلق قاعدة صناعية قوية في المغرب، والمساهمة في تنمية إفريقيا. هذه الأسلحة الخمسة التي استعملها المغرب ضمن محاور سياسته الخارجية في إفريقيا؛ أظهرت قدرته، ليس فقط على تفكيك المحور الجزائري النيجيري الجنوب إفريقي، ولكن أيضا على عزل الجزائر؛ التي لا تبدو هناك مؤشرات كافية على إمكان استعادتها المبادرة، على الرغم من بعض الحيوية النسبية التي بدأت تظهر على ميزان التبادل التجاري بتعافي صادراتها بسبب ارتفاع أسعار النفط والغاز. لكن خسارة الجزائر لكل رصيدها في إفريقيا لا يمكن أن يعوضها ظهور العافية في اقتصادها، ولعل هذا ما دفعها مؤخرا إلى التفكير، ولو بشكل جزئي، في علاقتها بالمغرب؛ من تصريحات وزير خارجيتها عبد القادر المساهل المستفزة للمغرب، إلى مبادرة الوزير الأول الجزائري أحمد أبو يحيى، إلى السلام على العاهل المغربي في أبيدجان، والتصريح بأنه لا يوجد جدار بين المغرب والجزائر في علاقاتهما الدبوماسية.