إن مكانة رجل التعليم العلمية والأخلاقية والرمزية لا تجعل المواطن المغربي ينظر بعين الرضا لما يتعرض له الأساتذة المتدربون اليوم من تعنيف وتدخلات أمنية لا يمكنها أن تكون حلا ، ولا تعطي صورة مشرفة عن المغرب. لقد كان الأولى فتح كل قنوات الحوار الممكنة مع أساتذة الغد والإنصات لمطالبهم، وخاصة المشروعة منها، والتي يمكن أن تضمن لهم تكوينا جيدا وتخلق أجواء إيجابية لديهم لمواصلة مهماتهم الحالية والمستقبلية أيضا. لقد تعلمنا جميعا أن الأستاذ هو موضوع تبجيل واحترام وتقدير، وكل واحد منا يحتفظ بصور مشرفة لمن علموه وفتحوا مداركه وصقلوا مواهبه وقدراته. فكيف أصبح الأستاذ اليوم يتلقى على رأسه وعلى كل أعضاء جسده من الضرب والتنكيل ما لم يخطر بوجدان شاعر ولا بعقل فيلسوف؟. إن هذا الأستاذ لم يأت منكرا من الأمر ولم يرتكب جريمة نكراء، إنه فقط تجرأ على أن يطالب باسترجاع شيء من حقوقه التي أجهزت عليها الحكومة الحالية بدم بارد. وإذا كان الأمر يعني في الظاهر الأساتذة المتدربين فإنه في الواقع يهم رجال التعليم قاطبة بل وينعكس سلبا على المتعلمين أيضا. فليس هناك مبرر أن تصب قوات الأمن كل هذا الكم من التعنيف والضرب على أساتذة الغد الذين هم مواطنون يكفل لهم الدستور والقانون حق التظاهر دفاعا عن حقوقهم المشروعة. المشاهد المبثوثة على مواقع الأنترنيت لمجموعة من الأساتذة المتدربين ودماؤهم تسيل، بما فيهم أستاذات الغد أيضا اللواتي يفترض تكريمهن نساء أولا وأستاذات ثانيا، هي مشاهد مؤلمة حقا . وهي مشاهد يجب أن يخجل منها من كانوا إلى الأمس القريب مناضلين يباهون ويتفاخرون برصيدهم النضالي. لكن يبدو أن أرصدة أخرى أكثر إغراء وتجعل الكثيرين يختارون مصالحهم الشخصية ومصالح هيئاتهم وأحزابهم الضيقة على حساب مبادئ كانوا يتشدقون بها وعلى حساب سمعة البلد ككل. مهما اختلفنا مع الأساتذة المتدربين في مطالبهم ، ومهما تباينت وجهات النظر حول نضالاتهم وحول المرسومين اللذين أججا الاحتجاجات،فإن هناك طرقا عديدة للوصول إلى حلول منصفة كلها تبدأ بالحوار وتنتهي باحترام حق الجميع في التعبير عن رأيه وفي الدفاع عما يراه حقا مادام لا يخل بالقانون ولا يسلك سبلا غير مقبولة في التعبير عن رفضه وعدم قبوله بما يراه يعاكس مصلحته. المؤكد لحد الآن أن هذه الحكومة ألغت من أجندتها كلمة «الحوار". والمؤكد أن هذا كله لا يمكنه إلا أن يؤجج النضال ودفاع كل الفئات عن حقوقها. وسوف يزداد التوتر والاحتقان الاجتماعي بشكل تصاعدي مع حزمة القرارات التي تواصل هذه الحكومة فرضها على المواطنين من جهة واحدة ،ضاربة مبدأ التفاوض الجماعي و متعالية عن كل الشركاء بما فيهم النقابات والهيئات المدنية والحقوقية والاستشارية. هذه النزعة الانفرادية والقرارات أحادية الجانب تحمل العطب في طياتها وتؤشر على ضعف في تسيير الشأن العام وعلى محدودية رؤية من يقدمون عليها. إن مصلحة البلد تهم الجميع ولا تهم حزبا بعينه ولا جهة بمفردها ، والاستمرار في الهروب إلى الأمام وإقصاء الشركاء،والاستهانة بأصوات الغاضبين لا تؤشر على قوة ذاتية ،ولا على بعد نظر أو إستراتيجية متوازنة في التخطيط أو كفاءة في التنزيل. إن هذه القرارات الانفرادية أقرب إلى التخبط وإن كان ظاهرها يشي باستباق المشاكل العويصة. وما المظاهرات شبه المتواصلة، وفي مقدمتها الآن مظاهرات الأساتذة المتدربين، إلا دليل واضح على عدم الرضا و على عدم التسليم بكل القرارات التي تصدرها الحكومة الحالية دون أن تكلف نفسها واجب الحوار مع الفرقاء والشركاء الآخرين. مشاهد الدماء والهراوات تنهال على أجساد الأساتذة المتدربين يجب أن تسائل الجميع، وفي مقدمتهم الأحزاب السياسية المعنية أولا وأخيرا بتمثيل المواطنين والتعبير عن احتياجاتهم وانتظاراتهم. إن بعض هذه الأحزاب دأبت فقط على استثمار أصوات المواطنين كي تنال حصتها من الكعكة الانتخابية ، وبعد ذلك تتنازل عن كل واجباتها تجاه المواطنين. هذه الأحزاب لن تكون بحال في خدمة الصالح العام ،كما يدعي وزعماؤها، بمثل هذه المواقف.لأن مصلحة الوطن تكون بالحرص على حقوق المواطنين وتقديم الخدمات المطلوبة لهم والعمل على إعمال آليات الحوار والتواصل مع هؤلاء المواطنين والهيئات النقابية والحقوقية والجمعوية التي تمثلهم. وإن في إهانة الأساتذة المتدربين إساءة كبيرة للبلاد ، وتعديا على من سوف تسند لهم مهام تربية وتعليم الأجيال المستقبلية.فلا أعتقد أن مواطنا مغربيا يقبل أن يرى من يعلمونه أو يعلمون أبناءه تهان كرامتهم ويعنفون بشكل غير مسبوق. فما جدوى وجود وزارات إذا لم تكن قادرة على حل مشاكل المواطنين بالحوار والتفاوض والإقناع ؟ . إن الحوار وحده هو السبيل لمعالجة كثير من الملفات المطلبية والقضايا الاجتماعية التي تهم المواطنين أو تهم فئات منهم على الخصوص. والحوار لا يعني أبدا التستر وراء خطابات آبائية ومواعظ "أخلاقية" جوفاء مغلفة بغير قليل من التعالي وممارسة الوصاية على الطرف الآخر . إن للحوار قواعده ومبادئه وآلياته ومؤسساته . والقفز على المطالب وعلى الأصوات المطالبة بحلول حقيقية لمشاكلها من شأنه أن يزيد في حجم ودرجة التوتر الاجتماعي. وأعتقد أن بعض المسؤولين ،الوافدين على تسيير الشأن العام، مازالوا يرون في أشخاصهم وحدهم قدرة خارقة على تجاوز المشكلات و فرض حلول لها من وجهة نظرهم الخاصة. إنهم بذلك لا يسيئون فقط إلى المتضررين من قراراتهم، ولكنهم يسيئون إلى المؤسسات وروح القوانين وما تحقق في دستور 2011 على وجه الخصوص استجابة لنضالات الشعب المغربي رغبة في العيش الكريم والعدالة الاجتماعية والتمتع بالحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية . لقد حان الوقت لتصحيح ما صدر من قرارات لم تستجب للحد الأدنى من التشاور مع كافة الفرقاء الاجتماعيين ، وفي مقدمتها المرسومان اللذان يناضل الأساتذة المتدربون من أجل إلغائهما أو تصحيحهما على الأقل. ومادام الحوار هو الفرض المُغيّب في كثير من قرارات الحكومة ، فإن النضالات ستستمر وسيزداد الاحتقان الاجتماعي وقد تكون تكلفته عالية إذا استمر تجاهل الأطراف الأخرى وعدم الاستماع لصوتها ومطالبها المشروعة. إن الأستاذ يجب إعداده ليربي الأجيال ، وهذا يتطلب برامج تعليمية وبنيات مناسبة وأجواء الطمأنينة والحد المطلوب من المنحة والحق في التوظيف ، أما الهراوات التي تنزل على رؤوس هؤلاء الأساتذة المتدربين فلا يمكنها إلا أن تزيد الوضع تعقيدا ، علما أن التعليم قطاع يهم الشعب قاطبة وعليه مدار التنمية الشاملة والتقدم الاقتصادي والاجتماعي. فهل يجهل المسؤولون هذه الحقائق البديهية أم إنهم يتجاهلون ؟؟