كل الذين شاهدوا لحظات احتضار الأمريكي الأسود جورج فلويد سيلمسون وجود بعض أوجه الشبه بينه وبين بوعزيزي تونس، فكلاهما كان ضحية للتمييز والظلم وكلاهما أيقظ ضمير العالم بسبب طريقة موته العنيفة المؤلمة . في لحظاته الأخيرة أحس المسكين فلويد المشهود له بالاستقامة بال”حكرة”، وباستكانة أخبر جلاده أنه يموت وأن أنفاسه تنقطع، لم يبد على الجلاد أي تأثر وضع يديه في جيبه بكل غطرسة وراح يتفرج على تعابير الألم في وجه ضحيته تماما مثلما فعلت الشرطية التي اعتدت على البوعزيزي ، كل من في قلبه ذرة من الإنسانية سينتفض لرؤية مثل هذه المشاهد وهذا ما يفسر حجم التعاطف مع القضيتين في الكثير من البلدان . مرت موجة الربيع العربي العاتية واستطاعت قوى الاستبداد العالمية بفضل قدراتها المادية وإمكانياتها الاستخباراتية أن تطوعها وأن تحولها إلى خريف وتمكنت من إحكام قبضتها على الشعوب المقهورة أكثر فأكثر ،واليوم تنطلق موجة جديدة من الربيع من قلب أمريكا لتمتد إلى بلدان أخرى مثل هولندا وبريطانيا وفرنسا،والواقع أن تسارع الأحداث بالشكل الذي تابعه العالم أجمع وإن كان له أكثر من تفسير فإن أهم تفسيراته يظل مرتبطا وبشكل وثيق بفطرة الإنسان التي ترفض الظلم والطغيان ،لقد أيقظت صورة فلويد الألم المكتوم في النفوس والذين يحتجون تضامنا معه إنما يعبرون عن الغضب الذي يشعرون به تجاه الذين يملكون كل السلط ويصرون على توظيفها توظيفا يؤذي الإنسان ،إن الانتفاضات الجديدة ليست سوى امتداد لانتفاضة البوعزيزي ،فما يعانيه السوري والعراقي والتونسي هو عين ما يعانيه الأمريكي الأسود. والنظام العالمي القائم على الاستبداد واستعباد الخلق حتى وإن حدد بؤرا معينة لتصريف الجزء الأهم والأسوأ من ساديته (شعوب إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية ) فإن ميولاته المرضية ما تلبث أن تفتضح في أكثر البلدان تمدنا . أمريكا المتحضرة التي تمثل رأس هرم النظام العالمي هي نفسها التي تحتضن منظمة كو كلوكس كلان العنصرية التي تدعو إلى إبادة السود والتي ارتفعت وتيرة نشاطها بعد وصول ترامب للحكم، وهي نفسها التي تورطت وبشكل رسمي في تصفية عشرات الزنوج عبر شرطتها التي يفترض فيها أن تحفظ أمن المواطنين جميعا دون تمييز ،وليس فلويد إلا حالة من ضمن عشرات الحالات التي تثبت تورط أجهزة الأمن في تصفية السود (جمار كلارك،فيلاندو كاستايل، تورمان بلافينز…) والأنكى من ذلك أن رئيس الدولة “ترامب” لم يكلف نفسه عناء إدانة الجريمة المرتكبة ضد فلويد بل وسيدعو إلى التعامل مع المحتجين بالرصاص مستخدما نفس قاموس القذافي والأسد مما يعني أن أساليب الأنظمة المتغطرسة في مواجهة الشعوب المستضعفة واحدة كما أن معركة الشعوب التي سحقت آدميتها واحدة أيضا . من سيدي بوزيد إلى مينابوليس هناك نظام جائر يقود العالم بالقوة ،يستعبد الخلق ويمتص دماءهم فإذا تمردوا ألهب ظهورهم بالسياط وسلط عليهم الرصاص والرجال المدربين وأدوات القمع والتنكيل، لقد تحول الإنسان المعاصر في ظل النظام الدولي القائم إلى أداة للإنتاج تحمل تاريخ انتهاء صلاحيتها ،وقد لاحظنا جميعا أن الغرب لم يخجل مؤخرا في عز انتشار كورونا من التصريح بأن الأولوية في العلاج للأقوياء وألا مكان للشيوخ والعجزة والمعاقين في المستشفيات (طبعا بسبب ضعف مردوديتهم أو انخفاضها). وحيث أن النظام العالمي الذي تقوده أمريكا يوظف ترسانة ضخمة من الآليات التي تحافظ على بقائه وتحمي توازنه وعلى رأس هذه الآليات الإعلام الموجه والهيئات المدنية التي تتحرك تحت الطلب ،وركام هائل من المفاهيم البراقة المزيفة (الديموقراطية،حقوق الإنسان،الدولة المدنية،الحريات الفردية…) وجيش من النخب المتواطئة في كل المجالات (الفن،الفكر،السياسة…) فلا سبيل إلى التحرر من ظلمه إلا بالانتصار في معركة الوعي و إدراك أبعاد المؤامرة الكونية على الإنسان المعاصر وأهمية النضال المشترك بين الشعوب المضطهدة. لقد تصدى الكثير من المفكرين المستقلين في العقود الأخيرة لكشف خطورة تفشي النزعة الاستبدادية على مستقبل البشرية جمعاء من أمثال (ميشال أونفري،مايكل مور،تشومسكي ،إيمانويل والرشتاين…) غير أن هذه الأصوات تظل معزولة بسبب ضعف الحيز المتاح لها في وسائل الإعلام ذات الإشعاع الكبير و التي يدرك الجميع من يحرك خيوطها. ولنعد إلى قضية فلويد لنفهم الأمر على نحو أوضح ، حيث سنسجل أن الإعلام الذي أنجز مئات التقارير والروبورتاجات عن كل ما له صلة بمذابح الأرمن ومآسي الهولوكوست، وقف صامتا وبشكل مريب إزاء مأساة الرجل الأسود الذي اختطفه البيض من إفريقيا واستعبدوه واجتثوه من جذوره ومارسوا عليه كل أشكال الإذلال حيث أنه وبالرغم من مضي أجيال على حملات الاختطاف المنظمة التي تعرض لها لا زال لا يحظى بمواطنة كاملة في المجتمع الأمريكي، وأما المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان فقد ابتلعت لسانها تماما في الأحداث الأخيرة ولا ينتظر إطلاقا أن تتعرض أمريكا لأي عقوبات من أي نوع بسبب انتهاكها لحقوق رعاياها السود تبعا لذلك، وحدها الشعوب المكلومة ستستمر في دعم احتجاجات أمريكا بما تملكه من إمكانيات ضئيلة وبما يتيحه تضارب مصالح القوى العظمى من هامش للحركة والتعبير عن السخط .سيصطف المستضعفون في خندق واحد مثلما حدث في الربيع العربي وسيصطف المستبدون في الصف المعادي وستستأنف المعركة وستحاول قوى الاستبداد احتواء الربيع الغربي وتطويعه من جديد مثلما ستحاول إعادة ترتيب أوراقها .وحتى وإن أخمدوا الربيع الحالي فإنه من المؤكد أن الشعوب المضطهدة قد خطت خطوات جبارة نحو الانعتاق وأنه مع كل تعثر جديد ستكتسب هذه الشعوب تجربة أعمق وإرادة أكثر صلابة وستدرك أكثر من أي وقت مضى أن عولمة الظلم لن تجابه إلا بنضال أممي ضد المستبدين.