أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي **** و أسمعت كلماتي من به صمم أنام ملء جفوني عن شواردها *** ويسهر الخلق جراها ويختصم و جاهل غره في جهله ضحكي *** حتى أتته يد فراسة وفم إذا رأيت نيوب الليث بارزة *** فلا تظنن أن الليث يبتسم و مهجة مهجتي من هم صاحبها *** أدركته بجواد ظهره حرم رجلاه في الركض رجل و اليدان يد *** وفعله ماتريد الكف والقدم ومرهف سرت بين الجحفلين به *** حتى ضربت و موج الموت يلتطم الخيل والليل والبيداء تعرفني *** والسيف والرمح والقرطاس و القلم صحبت الوحش في الفلوات منفردا *** حتى تعجب مني القور و الأكم يا من يعز علينا أن يفارقهم *** وجداننا كل شيء بعدكم عدم ما كان أخلقنا منكم بتكرمة *** لو أن أمركم من أمرنا أمم إن كان سرَّكم ما قال حاسدنا *** فما لجرح إذا أرضاكم ألم و بيننا لو رعيتم ذاك معرفة *** عن المعارف في أهل النهى ذمم كم تطلبون لنا عيبا فيعجزكم *** و يكره الله ما تأتون والكرم ما أبعد العيب و النقصان عن شرفي *** أنا الثريا وذان الشيب و الهرم يعتبر المتنبي من فحول الشعراء الذين وضعوا بصمتهم في الشعر العربي القديم وخاصة في العصر العباسي الذي عرف نهضة كبرى في جميع الميادين الأدبية، وقد شكلت هذه الأبيات نموذجا من النماذج التي اعتمدها المتنبي في شعره ألا وهي تجسيده للأنا في نضمه لشعره، و إن قارئ القصيدة التي اخترنا منها هذه الأبيات ، سيجدها تنتمي إلى القصائد الطوال، التي تظهر في طياتها معنيين الأول وهو إبراز ذات المتنبي و الافتخار بها و الثاني معاتبته لسيف الدولة على ما أقدمه في حقه، فالفخر و الشجاعة و العفة هو الموضوع الرئيسي الذي استحوذ على المضمون العام لهذه القصيدة لكن القسم الثاني خصصه المتنبي لعتاب سيف الدولة الحمداني، الذي عبر فيه عما يجول في خاطره من نفور وغضب وعدم الرضوخ لقراراته. كما تظهر هذه الأبيات أيضا ، اعتزازه بنفسه وعدم افتقاره لأي شيء و إن كان على سبيل الوطن الذي عاش فيه غربة سوداء، ولعلنا نستطيع أن نحمل دلالات ومعاني الأبيات السابقة على معنى مجرد وهو عزة النفس، إذ حاول الشاعر أن يجسد لنا هذه الأشياء المجردة بأخرى محسوسة يحتاجها الإنسان في حياته اليومية، كالحديث عن الوطن و عن الدابة التي تقله في أعماق الصحراء، والماء الذي يمثل منبع الحياة ومنقذها، وفي ذلك تعبير عميق لما عاشه المتنبي في فترته تلك، حيث دأب المتنبي على الحديث عن تلك الدلالات في معظم قصائده، إذ كان يشعر بغربة عميقة في وطنه أينما حل وارتحل، فهو غريب في نظره.