بلسان عربي ولهجة سورية، أطلت الدراما التركية لأول مرة عبر شاشاتنا بعد الثورة التي أحدثها تجربة الدوبلاج (الدبلجة) في الوطن العربي، خاصة مع بداية الألفية الثالثة، فباشرت بعض القنوات إلى شراء حقوق عرض المسلسلات التركية، ودبلجتها وتوزيعها أيضا على القنوات العربية الأخرى، محققة بذلك نجاحا مبهرا منذ أول تجربة دبلجة سنة 2007، لغاية إيقاف للمسلسلات التركية بدءا من شهر مارس المنصرم، بشكل غير متوقع، بسبب خلافات سياسية بين السعودية وتركيا عقب دعم هذه الأخيرة لقطر أثناء أزمة 2017. شبكة إم بي سي كان لها السبق في عرض الإنتاجات التركية سنة 2007، فكان مسلسل "إكليل الورد" و"نور"؛ واللذان لاقى نجاحا كبيرا آنذاك؛ بداية لانطلاق موجة مسلسلات من نوع آخر، وبعد مرور خمس سنوات أصبحت هذه المسلسلات تحقق نسب مشاهدة قياسية. من جهتها بادرت قنوات عربية أخرى بعرض الأعمال التركية على غرار إم بي سي، بل وقد برزت في الساحة شركات دبجلة جديدة خاصة بكل بلد، لتبدأ موجة دبلجة المسلسلات التركية باللهجة التونسية، الجزائرية كما الدارجة المغربية، رغم الانتقادات التي طالتها من قبيل رداءة أصوات المدبلجين. وحسب وكالة أجانس بريس التركية فإن "العشق الممنوع"، "فاطمة"، "على مر الزمان"، "ايزل" إلى جانب "حريم السلطان" هي الانتاجات الأكثر مبيعا لدول العالم. ورغم إيقاف الدراما التركية على شاشات ام بي سي إلا أن هذه الأخيرة أنشأت شركتها الخاصة لإنتاج المسلسلات التركية، حتى يتسنى للقناة ضمان مورد ربح مغر من خلال بيع أعمالها لبلدان العالم. صدى نجاح المسلسلات التركية بالوطن العربي دفع بلدان العالم لشرائها. بداية ببلدان أسيا كالهند التي أقدمت على عرض هذه المسلسلات بل واشترت حقوق إنتاج نسخ هدنية لمسلسلات تركية، باكستان هي الأخرى، سجل مسلسل "العشق الممنوع" بقنواتها نسب مشاهدة قياسية وصلت ل 90 مليون مشاهد، لتقوم القنوات الباكستانية بإعادة عرضه 6 مرات بناء على طلب المشاهدين. بلدان أمريكا الجنوبية بدورها اشترت حقوق بث المسلسلات التركية، كما أعادت إنتاج نسخ منها، خاصة في تشيلي والأرجنتين والبرازيل. أوروبا سايرت التيار بث هذا النوع من الأعمال، فرنسا، اسبانيا كما ايطاليا و اليونان ودول أوروبية أخرى أضحت بدورها تدبلج انتاجات تركيا. جدير بالذكر أن مسلسل فاطمة بطولة "بيرين سات" يحقق حاليا باسبانيا نجاحا مدويا بعدما سجل نسب مشاهدة وصلت ل 12 مليون مشاهدا حسب ما ذكرت صحيفة ميلييت التركية. يتناول المسلسل قضية الاغتصاب وينتقد بحرفية قانون تزويج المغتصب من المغتصبة. وقد قامت جريدة "لو فيكارو" الفرنسية بإجراء مقابلة صحافية مع بطلة المسلسل للنجاح الكبير الذي يحققه العمل ولجدية الموضوع الذي يطرحه. استطاعت تركيا في ظرف وجيز أن تبيع مسلسلاتها لأزيد من 100 دولة عبر العالم، لتحتل بذلك المركز الثاني كأكثر بلد مصدر لمسلسلاته، بعد الولايات المحتدة الأمريكية، متفوقة على الدراما الهندية واللاتينية. بلغت عائدات تركيا من انتاجاتها الدرامية سنة 2015 3 مائة مليون دولار أي ما يعادل 2.8 مليار درهم. وحسب ما صرح به إلهان صويلو، عضو مجلس ادارة التجارة باسطنبول؛ أثناء حضوره و مشاركته بالمعرض الدولي ميب كوم، المخصص للإنتاج السمعي البصري بفرنسا في دورته 33 التي أقيمت في أكتوبر الماضي؛ حيث صرح أن تركيا تسعى لرفع قيمة صادرتها من الانتاجات الدرامية، فهي تطمح لبلوغ مليار دولار سنويا كعائدات في أفق 2023، مؤكدا أن هذا القطاع يعرف تطورا كبيرا. يذكر أن إم بي سي قامت خلال شهر مارس المنصرم بإيقاف دبلجة وبث المسلسلات التركية، كرد على دعم تركيا لقطر، ومحاولة منها لكسر طموحاتها، سيما وان السعودية تعد الزبون الأول لتركيا في هذا القطاع. كما قامت مصر إلى جانب الإمارات بدءا من سنة 2014 بوقف شراء المسلسلات التركية لأسباب سياسية بالدرجة الأولى. انتقام من نوع آخر، مقاطعة الانتاجات الدرامية، أثار ضجة واسعة وتساؤلات عديدة طرحت عبر منصات التواصل الاجتماعي "السياسة والفن أية علاقة؟" سرعان ما اتضح أن مقاطعة عرض المسلسلات التركية لم يغير شيئا من واقع الأمر، فالجمهور العربي انتقل لمتابعة مسلسلاته المفضلة مترجمة باللغة العربية عبر الانترنت، حيث جاوزت بعض المسلسلات المترجمة على موقع يوتيوب سقف 10 ملايين مشاهد، بل إن هناك منهم من تعلم اللغة التركية حتى يتسنى له متابعة مسلسلاته بالتزامن مع موسم عرضها في تركيا، لتقوم السعودية كما الامارات بحجب عدد من المواقع الالكترونية المختصة في عرض هذه المسلسلات كموقع "قصة عشق". يذكر أن سعر الحلقة الواحدة من المسلسلات التركية عرف تغيرا بعد تزايد الإقبال الجماهيري حيث انتقل سعر الحلقة الواحدة من 1000 دولار إلى أن أصبحت بعض المسلسلات؛ الأنجح داخل تركيا والتي تمكن أبطالها من بسط شهرتهم عبر العالم؛ تصل تكلفة شراء حلقة واحدة منها ل 500 ألف دولار. إقدام دول عربية على إيقاف عرض الدراما التركية دفع ببعض المستثمرين لفتح قنوات خاصة فقط بهذا النوع من الانتاجات، لعل أشهرهم الإعلامي السوري دانييل عبد الفتاح، والذي يعتزم في القريب العاجل إنشاء قناة خاصة بعرض محتوى تركي للوطن العربي. وبمجرد صدور أخبار بهذا الخصوص أنشئت من قبل المعجبيين العرب صفحات عديدة عبر مواقع التواصل الاجتماعي تحمل اسم القناة، مع العلم أن صاحبها أكد عبر حسابه فيسبوك أن إجراءات إنشاء قناة قد تأخذ وقتا أطول، ودعا أصحاب الصفحات الوهمية للتريث. الأزمة الأخيرة التي تواجهها تركيا بسبب انخفاض قيمة الليرة التركية مقابل الدولار الأمريكي، دفع بالشركات المنتجة لإعادة النظر بخصوص ميزانية إنتاج المسلسلات وأيضا حول مستقبل بعض المسلسلات والبرامج المعروضة على الشاشة التركية، والتي أصبحت مهددة بإيقاف العرض بسبب الأزمة المالية التي تواجهها البلاد. على عكس ما تحظى به الأعمال التركية عبر العالم من إشادة وتنويه، فان هذه الأخيرة تتلقى انتقادات لاذعة من قبل المشاهد العربي عبر مواقع التواصل الاجتماعي من قبيل "تفاهة السيناريوهات" أو تعارضها مع قيم الشعب العربي، ونشرها لثقافة مرفوضة داخل مجتمع محافظ. وهناك من يذهب إلى إلقاء اللائمة على هذه المسلسلات بسبب ما تعرف مجتمعات اليوم من انحلال خلقي خاصة أن هذه الأعمال تتضمن مشاهد "جريئة" إلى جانب ما ذكر يعزى سبب الانتقادات أيضا لرداءة ذوق بعض القنوات خاصة المغاربية، فالقناة الثانية المغربية تعرض المسلسلات الأقل مشاهدة في تركيا، بالتالي تشتري حلقاتها بتكلفة أقل، كما أنها تستفيد من طول عدد الحلقات، خاصة وأن عملية المونتاج تخول للشركة المدبلجة أن تقلص من مدة الحلقة لتضمن عدد حلقات أكثر مما هو عليه في النسخة الأصلية. مسلسل سامحيني على سبيل المثال تحصل على نقطة جد متدنية 2/10 من قبل الموقع العالمي آي إم دي بي؛ المختص في تقييم الأفلام والمسلسلات عبر العالم. كما أن المسلسل ذاته بالكاد يحقق نسبة 2 مليون مشاهد في تركيا، وهي نسبة جد ضعيفة، إذ يحتل بذلك المرتبة 30 ضمن قائمة المسلسلات المعروضة خلال الأسبوع حسب ما يصدره بشكل يومي موقع "رانيني.تيفي" المختص في قياس نسب المشاهدة في تركيا. جدير بالذكر أن مسلسل سامحيني انتهى عرض موسمه السابع الاسبوع الماضي في تركيا في الحلقة 1207، غير أن عملية المونتاج جعلت المسلسل يجاوز 1500 جلقة على الشاشة المغربية. دبلجة المسلسلات التركية للهجة المغاربية لم ترق للكثيرين، إذ ألف المشاهد لسنوات متابعة هذا النوع من المسلسلات باللهجة الشامية، والدليل على ذلك تحقيقها نسب مشاهدة وصلت ل 4 ملايين متابع إبان عرضها باللهجة السورية على الشاشة المغربية. التجربة التركية في مجال صناعة المسلسلات والأفلام جديرة بان تكون مثالا يقتدى به، نظرا لمساهمتها بشكل كبير في تقوية اقتصاد البلد. فمن خلال تلك الأعمال استطاعت تركيا نشر لغتها، أغانيها وثقافة شعبها على نطاق واسع، كما دعمت قطاع السياحة عبر الترويج لمختلف مدنها السياحية خاصة اسطنبول وذلك بإدراج مناظر أخاذة لمضيق "البوسفور" وساحة "تقسيم"، لتصبح بذلك تركيا الوجهة السياحية المفضلة لدى العرب.