بدأنا في الحلقة الأولى من هذه الخواطر بالحديث عن مدينة الدوحة ودولة قطر، وعن أولى الانطباعات التي تشكلت عند أول زيارتي لها، حيث كانت قطر أول دولة أغادر المغرب للإقامة بها، ولا أخفيكم سرا بأن ذلك كان من أبرز ما تمنيته، أن تكون أولى زيارتي لدولة عربية مسلمة، رغم الإمكانية الكبيرة التي كانت لدي للاستقرار في فرنسا، ولا أظنني في حاجة لأوضح لكم السبب في ذلك. فهل الغربة في قطر أخف وطأة من الغربة في أوروبا أو غيرها من الدول الغربية؟ سوق واقف معقل التراث القطري الأصيل لقد تحولت قطر مع بداية الألفية الجديدة إلى ورشة عمل ضخمة، فأينما تولي وجهك تجد مشاريع ضخمة وأعمالاً إنشائية قيد التنفيذ، وقد ازدادت وتيرة البناء والإعمار في السنوات الأخيرة مع بدء تنفيذ مشاريع عملاقة، وقد انعكست آثار هذا التقدم والنهضة على كافة نواحي الحياة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والتربوية للدولة، إلا أن هذه الانعكاسات لم تقتصر على الآثار الإيجابية فحسب، بل تعدتها لأخرى سلبية، حيث وقعت قطر في قلب تأثيرات العولمة على الثقافة والهوية، وكان لذلك وقع قوي على الجوانب الاجتماعية والأسرية والسلوكية. لا يكاد يخلو منبر إعلامي من المنابر القطرية، من طرح جانب من هذه الإشكالات، من قبيل المشاكل المرتبطة بالعمالة الوافدة، كظاهرة انتشار العزاب داخل المجمعات السكنية وبالقرب من مساكن العائلات، وإفرازات هذا الوضع السكاني والديموغرافي الجديد وانعكاساته على بنية المجتمع القطري وثقافته وهويته. جانب من الدوحة أيام زمان ولم يقتصر هذا الاهتمام على الجانب الإعلامي، بل امتد ليشمل الملتقيات والندوات والمؤتمرات، فمناسبة تقديم ملامح الخظة العمرانية الشاملة لدولة قطر في أفق 2030، شكلت أسئلة المحافظة على هوية الدولة وتراثها الشغل الشاغل لأغلب المتدخلين، الذين أجمعوا على ضرورة استكمال جهود النهضة والتنمية والتقدم والتطور، مع وجوب استحضار المحافظة على الهوية والتراث والتقاليد القطرية، وقد عبر أحد القطريين عن ذلك قائلا “إننا نريد الدوحةالمدينة العربية الإسلامية، وليس الدوحة – لندن، او الدوحة – باريس أو الدوحة – نيويورك “. النهضة العمرانية انطلقت مع ألعاب الأسياد ويمكن أن نلخص الوضع الذي تعيش قطر بغربة اجتماعية وثقافية بسبب التدفق الكبير والهائل للعمالة لبلد صغير، وهو ما ينذر بجملة من المخاطر الاجتماعية والثقافية والتربوية والاقتصاية، فالسكان الوافدين (أزيد من 80 بالمائة من نسبة السكان) ينتمون الي ثقافات ومجتمعات مختلفة ويحملون قيماً ثقافية واجتماعية عديدة (50 بالمائة آسيويين)، وكثيرا ما يتعرضون لأزمات تتعلق بعدم قدرتهم علي التكيف مع المجتمع القطري الجديد عليهم بمعاييره وثقافته وهويته. وهو ما يمكن ان يؤدي إلى تعرض الكثير منهم لصعوبات نفسية قد تتطور مع مرور الوقت، لتفرز أمراضا نفسية قد تؤدي أحيانا كثيرا للإنتحار. ويؤكد مسؤولو الأمانة العامة للتخطيط التنموي أنه نظرا لزيادة نسبة الوافدين من السكان في ظل التركيبة السكانية غير المتجانسة والمعقدة جدا، فإنه من الصعوبة تحقيق الاندماج الاجتماعي بين فئات السكان المختلفة سواء بين الوافدين أنفسهم أو بين المواطنين والوافدين، مما يتوقع معه ظهور حالة الاغتراب والتباعد الاجتماعي. وتنعكس هذه الغربة الاجتماعية على الواقع الثقافي واللغوي للدولة، حيث أصبح اللغة السائدة هي مزيج من لغات كل هؤلاء الأقوام الوافدين على الدولة باختلاف ثقافاتهم ولغاتهم، وإذا كان الجميع يصر على ضمان التواصل باللغة الإنجليزية، فإن الضحية الاولى والاكبر لهذا الوضع اللغوي الملتبس هي اللغة العربية اللغة الرسمية للدولة. الزميل محمد لشيب على كورنيش الدوحة فمن الغريب جدا أن تكون بمدينة الدوحة، وعندما تفكر في الذهاب إلى مطعم او سوق ممتاز او أي مؤسسة ...، فإنه يتعين عليك ان تعطي العنوان باللغة الإنجليزية للسائق الهندي، وعند مدخل المؤسسات المختلفة تجد في استقبالك موظفة فليبينية أو أندونيسية لا تفقه من العربية شيئا، ويراجع معك معاملتك موظف سيريلانكيا أو بنغاليا بلغة إنجليزية مرة اخرى ...وهكذا قلما تجد موظفا قطريا او من جنسيات عربية تستطيع التواصل معه باللغة الرسمية للبلاد، بل إن بعض الكلمات والعبارات الأجنبية بدأت تدخل إلى القاموس اللغوي العامي القطري، وأصبحت جزءا من ثقافة الدولة من قبيل “سيم سيم” أو “سيدا”" وغيرها كثير... للتواصل مع الصحفي محمد لشيب:[email protected]