في خضم حمى الاستقطابات الحزبية الحادة والصراعات السياسية العنيف التي تعرفها البلاد، وتعيشها الأحزاب المغربية كافة، قبيل الانتخابات الجماعية. غالبا ما تلجأ بعض القيادات السياسية والنقابية، إلى أساليب الجدل السياسية الهجومي العنيف، لفظا ومعنا، خلال خوضهم للدعاية الحزبية، حيث يتفنن أكثرهم في اختيار المداخلات والتصريحات المثيرة للفضائح، على حساب الحقائق المجردة، ساعين عادة إلى النيل من منضمات وشخصيات حزبية أو فئة معينة من المنافسين، وغالباً ما يفعلون ذلك للتهرب من المسؤولية الفردية والجماعية تجاه قضايا الوطن الحساسة، أو انسياقاً وراء تلبية رغبة نسبة كبيرة من الناخبين ونزوعاتهم القوية للعبث في ظل الاستبداد السياسي، وترهل العمل الحزبي، وغياب المجتمع المدني القائم على احترام حرية التعبير، وانسداد الآفاق السياسية الجادة وانغلاقها أمام فئة عريضة من المواطنين الذين غالبا ما لا يسعفهم وعيهم في تبني المواقف السياسية السليمة، ولا يبحث أكثرهم إلا عن الفضائح السياسية والإثارة الرخيصة فقط، ويستمتعون بالغمز واللمز والقدح، لأنهم لا يستطيعون تجرع الحقيقة المجردة بمعزل عن العواطف؛ ما كرس السطحية في التفكير لدى الجماهير الشعبية وشجعها على اللامبالاة بالقضايا المصيرية التي ترهن مستقبل البلاد. وغالبا كذلك ما لا يعتمد هذا النوع من القادة السياسيين والنقابين لتحقيق النجاح السياسي على أساليب تتناول البرامج والافكارالمستقبلية، وتحليل إمكانيات وطرق الوصول إلى الحد الأدنى من الالتقاء مع خصومهم السياسيين في مواقف متفق عليها بينهم لأنقاد البلاد مما تتخبط فيه من مشاكل مزمنة. بل إنهم كثيرا ما يبنون نجاحاتهم على انتقاد كل المعارضين الأموات منهم والأحياء، بالعنف اللفظي والمعنوي، والتنابز بالألقاب، واللمز والسخرية والاستهزاء، والشتم والسب، والتخطيء، والنيل من صحة المناهج، والاتهام الذي يتجاوز الحقيقة إلى البهتان، والقذف، وشخصنة القضايا، وتجاوز الموضوعية، والقفز على الحقائق، وعدم الاحتكام إلى العقل والمنطق والدين. ولاشك في أن مدونة السير المشؤومة، كما سماها مهنيو النقل الذين خاضوا إضرابات شلت الحركة الاقتصادية بالبلاد وتسببت في ارتفاع حدة معاناة الطبقة المحرومة من المغاربة بالرفع من أثمنة المواد الغذائية جراء الإضرابات النقابية التي قاطعتها النقابة الاستقلالية التي يترأسها عمدة فاس السيد حميد شباط، وخاضت غمارها بقوة ونجاح الكثير من النقابات بما فيهم نقابة الاتحاد الاشتراكة، تلك المشاركة التي كانت بمتابة القشة التي قسمت ظهر البغير، والسبب الرئيسي وراء تأزم العلاقة بين حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي إلى جانب تقديم الاتحاديين مذكرة المطالبة بإصلاح الدستور. لقد كانت مدونة السير بحق، وراء الجدل الحاد بالمغرب حيث أن السيد حميد شباط عضو المكتب التنفيذي لحزب الاستقلال، والكاتب العام لنقابته الموازية الإتحاد العام للشغالين بالمغرب، حيث أنه في لقاء نقابي اتهم فيه المهدي بن بركة باغتيال عدد من المقاومين بين سنتي 1955 و1959، بل ذهب إلى أكثر من ذلك، حيث وصف بن بركة ب”القاتل” محملا إياه مسؤولية مذابح مدينة سوق الأربعاء التي ذهب ضحيتها مئات القتلى وعشرات المفقودين وآلاف المعتقلين، خلال السنوات التي يطلق عليها “سنوات الدماء” في التاريخ المغربي لفترة ما بعد الاستقلال. هذه التصريحات التي وصلت تفاعلاتها المجلس الحكومي بعد أن تدخل فيها حزب الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال ومنظمات حقوقية يسارية. ومما لاشك فيه أن تصريحات السياسيين، كيف ما كان نوعها، لا تكون شخصية ولا تخلو أبداً من خطابات سياسية وإعلامية موجه للفئة المستهدفة، وتكون لها أهداف سياسية تسعى لتحقيقها، وتتضمن أساليب ومصطلحات سياسية تعبر عن آراء واتجاهات ومواقف الهيئات السياسية التي يتحدث باسمها المصرح و يسعى إلى إقناع الجماهير بها وبصحتها لاستمالتهم للتصويت لصالح حزبه في الانتخابات الجماعية. إلا أن شباط ومن دون باقي السياسيين، ينفى أن يكون لهذه التصريحات والاتهامات علاقة بالانتخابات المحلية المقبلة، وأن الأمين العام لحزب الاستقلال عباس الفاسي لا علاقة له أيضا بالموضوع “لأنني-كما يقول- أتحدث باسم النقابة وليس باسم حزب الاستقلال، وأنه(شباط) يتحمل مسؤوليته كاملة، وأن “المطلوب هو تصحيح تاريخ الحركة الوطنية حتى يعلم الناس من قتل هؤلاء المقاومين جميعا، وحتى يتوقف التضليل”.حسب الجزيرة نت”. وقد تلقفت وسائل الإعلام العربية والوطنية تلك التصريحات النارية واستغلتها أبشع استغلال لتصفية بعض حساباتها مع بعض الأطراف وجهات معينة. واتخذتها الكثير من الهيئات السياسية والجمعيات المدنية والحقوقية والكثير من المواطنين سببا لاحتجاجهم وامتعاضهم من الإساءة لشخصية وطنية مغربية لا تزال حقيقة اختطافها واغتيالها لم تظهر بعد، كما طالبت أصوات يسارية كثيرة، وهدد أفراد من أسرة بن بركة وقياديون في “الاتحاد الاشتراكي” وشبيبته بمقاضاة شباط بتهمة القذف وإهانة شخصية وطنية رحلت عن هذه الدنيا. وأعلنت سبع جمعيات حقوقية بأن الحقائق التي توصلت إليها هيئة الإنصاف والمصالحة لا تشير من قريب ولا من بعيد لتورط أو مشاركة المهدي بن بركة في أي عمل من هذا القبيل. حيث قالت رئيسة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان أمينة بوعياش “نحن لا نرد على تصريحات شباط، ولكننا ضد القذف بغير برهان وضد إهانة رمز وطني كان من ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان”. واعتبر عبد العزيز النويضي رئيس جمعية عدالة الموقعة على البلاغ أن شباط لا يتحكم فيه حزبه وهو مدفوع فيما يقول من جهات خفية معادية للديمقراطية تريد التشويش على العلاقة بين الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال، وسلم وفد من حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في الرباط لهيئة عامة مكلفة بشؤون حقوق الإنسان مذكرة جدد فيها المطالبة بالقاء الضوء على مسألة اختفاء زعيم اليسار المغربي المهدي بن بركة. وافاد مراسل وكالة فرانس برس ان مسؤولين في الحزب سلموا المذكرة الى احمد حرزني رئيس الملجس الاستشاري لحقوق الانسان.. وهنا لابد أن من الاعتراف بأن تصريحات شباط كان لها صدى إعلامي واسع، وأنها خلقت جدلا وطنيا حادا وخطيرا، كانت لهُ نتائج سلبية على المجتمع، وخاصة ونحن نمر بظروف سياسية حساسة إلا أنها فتحت شهية الأجيال الشابة التي لم تسمح لها الظروف السياسية بالاضطلاع على تاريخ بلادها وعظمائها بالطريقة المثلى، لطرح تساؤلات قوية عن علاقة حميد شباط وحماسه المتزايد بالتحامل على تاريخ الشهيد المهدي بن بركة الذي لم يعش زمانه، ولم يسبق له أن قرأ تاريخه، –حسب ما جاء في مدونة “متقاعد سككي” للأستاذ بنمحمد عبد الرزاق- فيكون شباط قد خدم بنبركة من حيث لا يحتسب بإساءته إليه، لأنه جعل المغاربة فاطبة يتحدثون عنه، ويرددون اسمه، ويبحثون عن أسباب اغتياله، وعن المتهمين الرئيسيين في اغتياله، وهذه ايجابيات هذا التصرف السياسي الغامض وأنه في حد ذاتها نقطة حسنة تحسب للتصريحات التي أحيت ذكرى المهدي بنبركة وإعادتها من جديد إلى ذاكرة وضمير كل المغاربة، و جعلت مسار حياته حديث الساعة لفئات عريضة من المغاربة، وخاصة منهم الشباب، ونفس الشيء يقال بالنسبة لمقترح شباط ودعوته لإعادة قراءة التاريخ حتى يتمكن المغاربة والشباب على رأسهم من معرفة تاريخ بلادهم ويدركون تسلسل أحداثه ويعرفون كل مستجدات ملف الاختطافات وتورط بعض السياسيين في ذلك ويدركون بحق من هم القتلة ورواد تصفية رموز الوطنية والنضال. فما الذي جعل شباط، وبدون مقدمات في جلسة صحفية عادية كغيرها من حواراته التلفزية والإذاعية التي كثرت بشكل يدعو للشك والربة، يطلق العنان للسانه بالتهجم على شرفاء هذا الوطن، ويختار منهم رمز النضال والتضحية الشهيد المهدي بنبركة. هل هناك من جهة دفعت به ككبش فداء لخدمة غايات وجهات بعينها، أم هو التهور والمخاطرة غير المحسوبة. أم هي الرغبة الجامحة في الشهرة ولفت الانتباه عن طريق المناورة. لا أجد لذلك تفسيرا مقنعا غير أنها سياسة طائشة، مشبوهة، متهورة، أو لنقل مجنونة لأنها تؤدي بالفعل السياسي إلى حافة الهاوية والفوضى والذمار، فربما ذاك ما يريده الداعمون له بالدفع به كقربان طيعا لممارسة لعبته المفضلة: الثرثرته السياسية. ومع ذلك فإن توعية المواطن المغربي بأهمية المواطَنة الصالحة والإيجابية، وتنميته بشرياً وإنسانياً ووطنياً، أولى من استقطابه والاستحواذ على وجدانه وأفكاره والتأثير على مواقفه السياسية وتحريضه ضد جهة معينة. وإن تناول النهج السياسي والأفكار والمواقف السياسية والممارسات الحزبية بالنقد والتحليل أولى من تناول شخصية سياسية أو حزبية، حية كانت أو التحقت بباريها، بالتشريح والتعرية، وإن إثبات صحة الموقاف السياسية الحزبية ونقدها نقدا موضوعيا أولى بكثير من الانتصار لهذا الحزب أو ذاك ولشخوصه ورموزه. لدا يجدر بسياسيي الإثارة أن يسألوا أنفسهم: ما جدوى هذا الجدل المفضي لهذا التصعيد العبثي؟!!، ولماذا لا يحرصون على مخاطبة وعي المواطن ووجدانه بالمنطق والحقيقة بعيداً عن أساليب الإثارة المبتذلة؟!! كما يجب على القائد السياسي أو النقابي أن ينأى بنفسه أن يتحول إلى مهرج يبدد جهده ووقته وتفكيره في تسلية الجمهور وإدخال السرور على نفسه، فالقادة مطالبون بالاهتمام أكثر بالمضمون والحقيقة والتوعية والتعبئة، وليس فقط بالاستخفاف بالناس والاستهزاء بهم بالشتم المبطن أو الظاهرالصريح .. بريد الكاتب : [email protected]