بعدما تحدث أحمد المرزوقي في الجزء الأول من حوارنا معه عن فترة زهرة شبابه في غياهب سجن تازممارت، ورأيه في شباب الألفية الثالثة، مع إيمانه القاطع بأن الشباب المغربي قادر على أن يغير حياته نحو الأفضل لو توفرت له الإرادة والعزيمة. بعدها، وفي الجزء الثاني سيذكر “المرزوقي” للقراء تحوله إلى عالم الكتابة والترجمة بعد سنوات من الاعتقال، وتأكيده أنه سيكون حاضرا في المشهد الإعلامي المكتوب قريبا، عبر جريدة مستقلة وليست حزبية. أما في هذا الجزء الأخير سنتوقف من حوارنا مع أحمد المرزوقي، ليتحدث لنا عن الوجه الآخر للإعلامي أحمد منصور، كما سيكشف لقراء “نبراس الشباب” ولأول مرة عن بعض المواقف التي تجمع بين العبرة والطرافة، حين انقلب دون أن يدري إلى داعية كالشيخ يوسف القرضاوي، وأيضا قصة التهامه لقط “مشرمل” رفقة رفاق الزنزانة. كما لم يجد “المرزوقي” أي حرج في التحدث عن عائلته الصغيرة وطريقة تعامله معهم، ليختتم حواره بمتمنايته للشباب المغربي بأن يقبل على طلب العلم والمعرفة وأن يتضامن ويتساند ويعول على نفسه من أجل بناء هذا الوطن العزيز. كهذا فتح الضابط المرزوقي جزءا آخر من سيرته ل “نبراس الشباب” ليتقاسم مع الشباب قصة حياته من سجن القنيطرة نحو أتون تزممارت عودة إلى مدينة غفساي...فانفتحاه على العالم. حاوره من مدينة سلا: عمار الخلفي – نبراس الشباب: “لما تواجهنا وأصبح كل منا على مرمى خطوة من الآخر وقفت ووقفت، فتحت عيناها تنظر إلي كالمصعوقة، حاولت أن أبتسم فجمعت شتات عقلي وقلت في دفعة واحدة بصوت خرج من شدة الإختناق، حبيبتي أمي، كيف أنت” مقطع من كتابك، قرأه الصحفي أحمد منصور في برنامجه شاهد على العصر، وبعدها بدأ يبكي، البعض اعتبره تأثرا، والآخر مجرد تصنع للتأثير على المشاهد؟ أحمد منصور صحفي كبير طارت شهرته في الآفاق، وهو بهذا لا حاجة له بنكرة اسمه أحمد المرزوقي لكي يؤثر على النظارة. إني كما عرفته رجل متواضع بسيط قوي الإيمان. وهو عربي قح ومسلم ملتزم يموت كمدا على ما آلت إليه أوضاع الأمة العربية والإسلامية من تردي وتدهور. وفوق كل هذا، فهو يحب المغاربة، والمغاربة يبادلونه المحبة ويزيدونه عليها اعترافا عميقا وصادقا بكفاءته ومهنيته. أما بكاؤه في أثناء استجوابي فقد كان نابعا من قلب حساس رحيم، ونفس طافحة بكل معاني الإنسانية النبيلة. ومن الناحية المهنية، فهو فوق كفاءته وتمكنه من عمله صحفي حازم متمرس صارم ومتضلع، إذا أقبل على موضوع ما، فهو يبذل الغالي والرخيص لإبراز أسراره والغوص في خباياه. والحقيقة هي أنه إذا اجتمعت الكفاءة والحرية والإمكانيات، توفرت جميع شروط التألق والإبداع والنجاح. نحن لدينا صحفيين أكفاء، في استطاعتهم أن يبرعوا ويبدعوا لو توفرت لهم السبل، ولكن الرقابة والتعليمات والوصاية ومعضلة الخطوط الحمراء تجعلهم كثيران جامحة في زنازين ضيقة، كلما أرادوا الاندفاع فيها لصرف طاقاتهم المتوقدة، تكسرت قرونهم وهم ينطحون الجدران الأسمنتية السميكة. وماذا عن بعض الوقائع التي تعرضت لها بعد تازمامرت، لم تذكرها لأحد وتريد أن تخبر بها قراء “نبراس الشباب”؟؟ جرت لي قصص كثيرة أود أن أحكيها في مذكراتي بإسهاب. فمرة كنت في كندا. واستدعاني مناضل مغربي معروف اسمه “جواد الصقلي” للذهاب إلى لقاء ضخم نظمته منظمة العفو الدولية للشباب بنواحي مونريال، وكان الهدف منه هو تكريم سجين من البيرو اسمه بيدرو حكم عليه بعشر سنوات سجنا فتعلم اللغة الفرنسية أثناء اعتقاله. فقال لي جواد: إن هؤلاء يقيمون الدنيا ولا يقعدونها من أجل أسير عذب حقا، ولكنه كان يعيش في سجن يزوره فيه أهله ويحظى فيه بالقراءة والمطالعة. فأي شبه بينه وبينكم أنتم أهل الكهف؟ الناس هنا جاهلون، لا يعرفون عن تزممارت أي شيء... لقد طلبوا مني أن أقول كلمة لا تتعدى عشرين دقيقة في حق هذا الأسير المحتفى به، وبما أني أعيش في كندا، والكل يعرفني هنا كمناضل في صفوف المنظمة، فسوف أغتنم وإياك هذه الفرصة لنعرفهم بسجننا المصنف في خانة الخمسة نجوم. أنا سأقدمك في خمس دقائق، وسأترك لك ما تبقى من الوقت لكي “تقضي الغرض”.. وكذلك كان... فلما انتهيت من عرضي، خيم صمت ثقيل على القاعة الغاصة وكأن الطير حلق فوق الرؤوس التي بدت وكأنها لم تصدق ما سمعت... وعوض أن يستمر اللقاء في الكلام عن صديقنا بيدرو، تساقطت علي الأسئلة كوابل من المطر، وتحول مجرى الحديث من البيرو إلى المغرب، فأحسست وكأني أذنبت دون إرادة مني في حق السجين البيروفي المسكين الذي وقف صامتا مندهشا وكأن لسان حاله يقول: ” سنة في سجون البيرو خير بكثير من شهر في تزممارت...” وفي صبيحة يوم الغد، وبينما أنا جالس كسائر الكتاب في معرض الكتاب بمونريال، إذا بجل الشباب الذي حضر لقاء الأمس يصطف في صف مهول طويل أمامي لشراء الكتاب والتماس التوقيع. فكنت أحس بحرج كبير وتضايق عظيم وأنا أرى الكتاب من حولي يتساءلون عن هويتي وهم يشاهدون منبهرين ذلك الإقبال المنقطع النظير علي، بينما كانوا هم، العباقرة في الكتابة، يوقعون بالكاد كتابا أو كتابين على رأس كل ساعة... ولا زلت أذكر أنه في تلك الصبيحة، جاءت امرأة في عقدها الرابع تقريبا، ولما وصل دورها، جثت أمامي على ركبتيها، فتعاظم حرجي وأنا أراها تقول من بين دموعها المنهمرة: ” قل لي بالله، كيف استطعت أن تصفح... كيف استطعت؟” وطوال مقامي في مونريال، ظلت تطاردني وتطرح علي نفس السؤال. فحكت لي فيما بعد أنها عاشت قصة مؤلمة جدا. إذ اغتصبها والدها منذ السنة التاسعة من عمرها، وظلت على علاقة مستمرة معه إلى سن العشرين أو يزيد، إلى أن كان يوم ضبطتها فيه أمها وأختها. فتشتت الشمل بعد أن ألقيت عليها المسؤولية كاملة. وحز في نفسها كثيرا لما قال لها راهب في إحدى الكنائس بأنها مسكونة من الشيطان وأن مصيرها النار مهما التمست الصفح والمغفرة، بينما تسامح مع والدها، المجرم الحقيقي، وانتحل له الأعذار مدعيا أنه كان تحت تأثير الشيطان الساكن في مفاتنها. ومنذ ذلك اليوم وهي تحقد على والدها ولا تعيش إلا من أجل نية قتله بعدما تيقنت أنها ذاهبة إلى النار لا محالة. فنصحتها باعتناق الإسلام، وشرحت لها بأن ديننا الحنيف لا يقبل كما في دينهم أي واسطة بين الله وعباده، وأن الراهب الذي حكم عليها بالدخول إلى النار لم يتلق تفويضا من الله عز وجل ليدخل هذا الجنة وذاك إلى الجحيم. وطال الحديث بعد ذلك بيننا ثم تلتها مراسلة مطولة انقلبت فيها دون أن أدري إلى داعية كالشيخ يوسف القرضاوي... فاستعنت وأنا أحاول إقناعها بآيات بينات من الذكر الحكيم، من قبيل: “إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء” و: :”قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من روح الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا، إنه هو الغفور الرحيم، وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له.... الآية”. فأثر فيها ذلك كثيرا، واشترت نسخة من القرآن المترجم، ثم شرعت تدرس الإسلام، ولست أدري ماذا حل بها بعدما انقطع حبل المراسلة بيننا... ومن الطرائف، (يضحك) حكى لي أخي عبد الوهاب قبل شهرين قصة غريبة ألخصها فيما يلي: في السنة الثانية من اعتقالي، جاءت سيدة عند والدتي تبشرها بأن “أحمد” سيخرج من السجن مؤكدا بعد أسبوع واحد إن هي نفذت ما ستقترحه عليها. ولما استفسرتها والدتي عن ذلك، طلبت منها السيدة أن تذبح قطا وتطبخه مستعملة كثيرا من التوابل (تشرملو) حتى يظهر وكأنه أرنب، ثم ترسله لي بعد ذلك إلى السجن لكي آكله. واتفق أن كان في المنزل قط سمين مسالم لم يكن يدري ما يحاك ضده. فذبح على حين غفلة منه وطبخ كما أمرت السيدة وجيء به إلي السجن فأكلته مع أصحاب لي بشهية مفرطة. وبعد أسبوع، جاء أخي لزيارتي كما هي العادة في سجن القنيطرة وهو ينتظر أن يتحقق النبأ العظيم. فلما طلب لقائي منع من ذلك كسائر عائلات العسكريين، وقيل لهم بأننا لم نبق هناك وأننا رحلنا إلى مكان آخر. وهكذا تحققت نبوءة السيدة حقا، لأني خرجت من سجن القنيطرة بعد أسبوع فعلا، ولكن عوض الرجوع إلى غفساي، رمت بي ذنوب القط الشهيد في الاتجاه المعاكس... أي أتون تزممارت... كم عدد أطفالك؟ عندي ثلاثة أطفال، ياسين وعمره 11 سنة، وتسميته جاءت برا بنذر كنا قد قمنا به في تزممارت بعدما كنت قد حفظت لأصدقائي سورة ياسين، وحفظ لهم المرحوم الراشدي بن عيسى سورة البقرة. فاتفقنا لو أطلق الله سراحنا وتزوجنا ورزقنا بابن ذكر فسوف نطلق عليه اسم ياسين... وقد أطال الله في عمرنا وبررنا بنذرنا جميعا اعترافا بنعم الله السابغة. والثاني اسمه طه وعمره 10 سنوات، أما بنتي الوحيدة فأكملت عامها الثالت، وإسمها جيهان. نريد أن نعرف طريقة معاملة “أحمد المرزوقي” مع أبناءه؟ معاملة صديق مع أصدقائه، فقد تعودت أن أحكي لهم قبل النوم قصصا ارتجالية تدور أحداثها دائما في الغابة وتتعلق بمغامرات الحيوانات، وذلك من أجل تنمية خيالهم وجعلهم يعانقون النوم وخيالهم مملوء بجمال الطبيعة وحب ساكنيها، ولكني اكتشفت مؤخرا أني أنام قبلهم وأنهم يوقضونني طلبا في معرفة نهاية القصة وهم يضحكون على شخيري المبكر.. (يضحك). هل أبناؤك لهم علم بما وقع وما يقع لك؟ نعم، أخبرتهما بكيفية تتناسب مع سنهما حول سبب اعتقالي، سيما بعد أن جاء طه ذات يوم وهو يشتكي من زميل له في الدراسة عيره بسجن أبيه. ولما شاهدا جزءا من الحلقات المتلفزة، كانا يرجعان من المدرسة وأوداجهما منتفخة من شدة الزهو والافتخار. وقد أكدا لي بأن معلميهم ومعلماتهم ازدادوا لهما حبا وتقديرا. وهذا من فضل ربي... أصحبهما معي بانتظام إلى صلاة الجمعة، وأعطي لكل واحد منهما 5 دراهم لتوزيعها على الفقراء، وأعمل كل ما في وسعي لكي أغرس فيهما حب الخير للناس والتشبث بالمثل العليا، وما توفيقي إلا بالله. نترك لك سي أحمد كلمة أخيرة، تتواصل فيها مع قرائك: أشكر السيدات والسادة الذين يسلمون علي كل يوم معربين لي عن تعاطفهم الكبير... فأنا مدين لهم جميعا لأن اعترافهم بي يرفع من معنوياتي ويشعرني أني أحظى بالحب والعطف، وهذا في حد ذاته مكسب كبير... كما أعتذر كثيرا للأخوات والإخوان الذين يتصلون بي على الفايس بوك (الذي جعل لي فيه ابن أخي حذيفة صفحة شخصية لي) على عدم قدرتي لإجابتهم جميعا. وإني لأنتظر فرصة سانحة لكي أتواصل معهم قدر المستطاع. كما أتمنى لشبابنا الذي كان وسيبقى هو الدعامة الكبرى للنهوض بهذه البلاد، أن يقبل على طلب العلم والمعرفة وأن يتضامن ويتساند ويعول على نفسه من أجل بناء هذا الوطن العزيز الذي نحبه جميعا. صور متنوعة لأحمد المرزوقي أهداها لقراء “نبراس الشباب”: