في إحدى تدوينات الأستاذ مرزوق الورياشي حول حضور المثقف الريفي في حراك الريف اعتَبر أن المثقف الحقيقي المعبّر عن ذاك الحراك هو الحراكُ نفسه؛ أي هو قائد الحراك الذي خرج ليُعبر عن طموحات الريفيين؛ وأشار مرزوق أيضاً، وهنا أتحدّثُ من الذاكرة، أن أغلب المثقفين الريفين اليوم هم أساتذة وموظفون منهمكون في بناء منازل وشقق وفيلات بالتقسيط، ويخافون أن لا تكتملَ مشاريعُهم إن هم انحازوا إلى الجمهور وعبروا عن مواقفهم الحقيقية. مناسبةُ هذا الاستهلال هو التساؤل مرة أخرى: أين هو المثقف الريفي فيما يحدث بالريف؟ إذ في الوقت الذي نجدُ فيه بعض الجهات المثقفة التي لا تنتمي إلى منطقة الريف تقود وساطات وتعقدُ زيارات جماعية وتتصل بما تبقى من قيادات خارج السجن وتقترحُ خيطاً أبيض لخلق نوع من التوافق المشكوك فيه بين المخزن والمنطقة... في هذا الوقت بالضبط نجد المثقفين الريفيين لا يقترحون أي شيء، ويكتفون بالنظر من بعيد. لماذا؟ وأين هو المشكل؟. حتى نفهم غياب المثقف الريفي يجب في نظري أن نعود إلى الجذور... يجب أن نعود إلى بدايات الاستقلال، وبالضبط إلى سنة 1956. ففي هذه الفترة، كما هو معلوم، سيتلقى المثقف الريفي أكبر ضربةِ في تاريخه من طرف النخبة الوطنية المدينية التي آل إليها الحكم؛ إذ في هذه السنة فُرضَ على المثقف الريفي أن يُنفى داخلَ لغتين لا يعرفهما. هما اللغة الفرنسية واللغة العربية. والنفيُ هنا لا يعني فقط استبعاده من الكلام بلغة / لغات يتقنها، ولكن يعني أيضاً استبعاده، (بحكم عدم إتقانه للغتين المفروضتين إدارياً وسياسياً واقتصادياً وهوياتياً)، من مواقع التسيير واتخاذ القرار والمشاركة في بناء أركان الدولة الجديدة؛ وهكذا، فباسم وطنية عربية-فرنسية شملت الإدارة والاقتصاد والمجتمع والثقافة، استبعدت دولةُ الاستقلال اللغتين الأمازيغية والإسبانية اللتين كانت هذه النخب تتحكّمُ فيهما، وفرضت عليها الانسحاب الكلّي تقريباً من المشهد... فاختفى الريفي المثقفُ لذلك من مواقع التسيير الإداري والاقتصادي والاجتماعي والثقافي محلياً ووطنياً... وقد جاءت أحداث 1958 بوصفها التعبير السياسي عن مطلب الإشراك هذا عندما طالب الريفُ الدولة بإدخال الريفيين في الحساب... لقد كانت، إذن، هذه هي الضربةُ الأولى... وهي ضربةٌ ستكون لها نتائجٌ سيئةٌ على مستوى انخراط الريف في الدينامية الجديدة... ونتائجٌ أسوأ على مستوى النفسية الجماعية للريفيين الذين ظلوا يعتبرون أنفسَهم مواطنين من الدرجة الثانية أو الأخيرة ويكررون في جلساتهم وخلواتهم "المخزن لا يثق أبداً في المثقف الريفي.. في الريفيين.... آخرُ واحد يمكن أن يثق فيه المخزن هو الريفي". ولقد كان على الريف أن يعملَ، منذ ذلك التاريخ (1956)، من أجل إعادة إنتاج نخبه المحلية على المقاس الوطني الجديد؛ أي كان عليه: - أن ينتظر إلى أواسط السبعينيات بعد أن تمكنت بعضُ الفئات من التسرب إلى الجامعات المغربية... - أو أن ينتظر أيضاً إلى أن يندمج أبناء وحفدةُ المهاجرين الريفيين الأوائل بالغرب (بلجيكا، هولاندا، ألمانيا، فرنسا إلخ) ويتمكنوا من الحصول على الشهادات العليا ويلجوا مواقع التسيير الإداري والإقتصادي والاجتماعي والسياسي ببلدان الاستقبال... الفئة الأولى (التي تعلمت داخل الوطن): الحقيقة أن هذه الفئة التي تعلمت بجامعات الرباطوفاس ابتداءً ثمّ وجدة إلخ. (ومنها من هاجر إلى الخارج ليواصل دراساته العليا ويعود حاملاً لشهادات الدكتوراه) حملت معها الكثير من الأسئلة الحارقة، إذ بقدر ما كانت غير راضية عن الواقع المزري بالريف بالقدر الذي حاولت أن تنخرط في المشروع الوطني بالدخول في الأحزاب أو الاتجاهات السياسية الأكثر راديكالية... لقد كانت تحملُ في لاشعورها موقفاً يتّسمُ، من جهة، بنزوع قوي إلى تسجيل حضورها الوطني بوصفها امتداداً للموقف التحرري الذي دافع عنه محمد بن عبد الكريم الخطابي، وباعتبارها، من جهة ثانية، مدافعة عن موقف الوحدة الوطنية الممركزة التي دافعت عنها ما كان يُسمى بأحزاب الحركة الوطنية، ثمّ باعتبارها المعبرة عن طموحات البروليتارية الريفية المسحوقة بتبنيها لمواقف اليسار الراديكالي... ولكن الشيء الذي ظلّ ثابتاً لديها، هو أنها تموقفت موقف الرفض من السلطة المركزية... ولأنها كانت نخبةً مثقلة بالآمال المنكسرة على صخور نظام أخذ على عاتقه أن يهمش الريف ومعه العديد من المناطق المغربية الأخرى، فقد تعرّضت هذه النخب للكثير من الضغط والحيف، فمنها من اعتُقل ومنها من أجبر على عدم الاستمرار في دراسته ومنها من هرب إلى خارج الوطن... ومهما يكن من أمر، فقد انقسمت هذه النخبة إلى مجموعتين: - المجموعة الأولى تبنت الإيديولوجيات الحزبية التي انخرطوا فيها واعتبرت التحرُّر لا يمكن أن يكون إلا على أساس قومية عربية إشتراكية، فانخرطت في إعادة ترميم الثقافة العربية ولغتها، معلنين بذلك تنكّرهم للغة الأمازيغية التي اعتبروها من آثار التخلّف الذي لن يُمحى إلا بتعميم اللغة العربية وتدريس اللغة الفرنسية؛ وهؤلاء سنجدهُم، بالرغم من مواقفهم ضد السلطة القائمة، يتبنّون إيديولوجيتهم الثقافية على مستوى الهوية. - وأما المجموعة الثانية فهي تلك تبنت مواقف اليسار والوحدة الوطنية واسترجعت الفكر التحرّري لمحمد بن عبد الكريم الخطابي، إلا أنها رفضت الموقف القومي العربي للهوية الوطنية، وناضلت من أجل مغرب التعدد والتنوع والانفتاح.. ومنهم من رفض الدخول نهائياً فيما يُسمى بالأحزاب الوطنية؛ ويمكن أن نذكر من هؤلاء أولئك الشباب الذين رجعوا في أواخر السبعينيات وبدايات الثمانينيات من جامعات فرنسا حاملين معهم شهادات الدكتوراه في اللغة الأمازيغية أو في السوسيولوجيا إلخ. وأذكر منهم : المرحوم قاضي قدور ومرزوق الورياشي ومحمد الشامي وغيرهم... وبالرغم من تناقض الأطروحتين الإيديولوجيتين للمجموعتين الريفيتين، فإن الضربة الثانية للدولة الوطنية لهم كانت هي محاولة استيعابها بفئتيْها باستقدامها إلى خارج الريف؛ إذ تجدرُ الإشارة هنا إلى أن مأساة هذه النخب التي أتقنت اللغة العربية واللغة الفرنسية (ولغات أخرى)، تجلّت في كونها لم تتمكن من أن تُحدث تأثيراً عميقاً على منطقة الريف بسبب تهجيرها إلى داخل الوطن، نظراً لغياب البنيات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية المستقبِلة لهم بالناظور والحسيمة ... فلا جامعات بالمنطقة ولا مؤسسات ذات بُعد وطني يُمكن أن تستوعبهم... ولذلك استقر أغلبُهم خارج الريف، إما في الرباط أو في وجدة أو في فاس... صحيحٌ أن تجربة الانطلاقة الثقافية ثم إلماس الثقافية شكلتا إطارين للتواصل وكانتا رائدتين من حيث تضحية بعض أبناء الريف المستقرين خارج المنطقة للحفاظ على العلاقة بالأرض- الأم... إلا أن الواقع كان أكبر من الطموح... إذ لم يكن في وسع جمعيتين مدنيتين غير مدعّمتين إلا من جيوب مؤسسيها، أن تكون في مستوى مؤسسات الدولة... - الفئة الثانية التي تعلمت خارج الوطن: وأخصُّ هنا بالحديث عن الذين ظهروا بديار المهجر؛ فهذه الفئة التي عاشت أوضاعاً مأساوية من نوع آخر، وعلى رأسها مأساة الانتماء الهوياتي، ظلت لأكثر من أربعة عقود موزعة القلب والفكر والجيب والهوية بين قارتين... واعتباراً لغياب المرجع الثقافي في بلدان المهجر، فإن الجيل الثاني والثالث والرابع (على الأقل) بدأ يبحث عن انتمائه... فلم يجدها إلا في الدين ... ولذلك انخرطوا، منذ السبعينيات، في بعض الاتجاهات الإسلامية المتشددة ... تلك التيارات التي ستتحوّلُ فيما بعد إلى تيارات عنيفة... والأكيد أن الحركية الأمازيغية التي بدأت تظهرُ منذ السبعينات في الريف ستؤثر بدون شك على الأجيال اللاحقة وبخاصة الأجيال المهاجرة، مما سيدفع بالعديد منهم، في إطار جمعيات المجتمع المدني، إلى طرح الثقافة الأمازيغية وإثارة الانتباه إلى الريف وتوعية الشباب بضرورة العناية بلغتهم وثقافتهم الأصليتين والدفاع عنهما ... وقد كان للنخب التي استطاعت أن تستكمل تعليمها بالمهجر وتمكنت من أن تتبوأ أعلى المناصب السياسية والإدارية والاجتماعية ( أبو طالب، السعيدي، نجاة بلقاسم، أحيضار، واعروس إلخ)... الأثر النفسي الكبير على الريفي من حيث جدارتُه وإمكانية حصول الريفي (ة) على المناصب العالية التي لم يحصل عليها في بلاده... إلا أن حضور الهوية عند كبار مثقفي وسياسيي المهجر لم تكن بالقوة التي تؤثر بشكل حاسم في الجالية الأمازيغية... إذ ظلّ الكثيرُ منهم يحملُ فكراً تقليدياً عن الثقافة الأمازيغية ولغتها العريقة... لقد انقسمت هذه النخب المهاجرة على نفسها، فمنها من أعلن ويعلن انتماءه إلى المغرب / الريف، بل ويتجرأ على أن يُشارك الريف مطالبه الاجتماعية والاقتصادية كما حدث مع كل من أحيضار، واعروس ..؛ إلا أنهم لم يقولوا لنا شيئاً عن الثقافة الأصلية التي يحملونها... إن تضامنهم يتوقف، في الغالب، عند ما هو اجتماعي واقتصادي وحقوقي (حرية التعبير السياسي، حرية التظاهر، عدم الرضى عن الاعتقالات إلخ)... ومنهم من لم يلتفت إلى الموضوع أصلاً، ومنهم: أحمد أبو طالب، نجاة بلقاسم إلخ.. وهذا بالرغم من أن بعضَهم أُشبعوا تكريماً بالريف... قد يقول قائل إن الحركة الأمازيغية بالريف لها حضور ثقافي وازن بحضور العديد من الفعاليات والأسماء المعروفة على صعيد الدفاع عن اللغة والثقافة الأمازيغيتين، سواء بالمغرب أو بالمهجر... هذا صحيح، ولكن الذي تجدرُ إليه، هو أن الفعاليات الكبيرة لم تتمكن إلى حد اليوم، بالرغم من حضورها ذاك، من تجاوز بعض اختلافاتها الشكلية كي تكون لها الكلمة الفصل... وهو موضوع آخر سنعود إليه لاحقاً بالتفصيل إن تيسّر الوقت... إن الخلاصة التي يمكن أن أخرج بها هي أنه بالرغم من كل التضحيات التي قدمتها الفئات المثقفة الريفية، منذ 1956 إلى اليوم، فإنها، في العمق، نتاج لواقعين خططت لهما الدولةُ الوطنية: - واقع التهجير من الريف إلى المدن المغربية الإمبريالية: (وجدة، فاس، الرباط، مكناس، أكادير إلخ)، وهو ما سينعكس سلباً على أداء هذه النخب المثقفة نظراً لتشتتها، ولرهان الدولة على استيعابها الهوياتي لها على الصعيد الوطني؛ - واقع التهجير من الريف إلى أوروبا: (فرنسا، بلجيكا، هولاندا، ألمانيا، إسبانيا إلخ)، وقد أنتج هذا الواقع جيلاً جديداً من المثقفين والسياسيين والمبدعين والفنانين إلخ. الذين يتقنون لغات الغرب وسيكون لهم، بدون شك، دورٌ أساسي فيما سيأتي. وأما المثقفين الذي انخرطوا في بناء الفيلات والشقق بالتقسيط فإن كل ما سيربحونه هو فقط هذه الفيلات وهذه الشقق... !!!!! هل يمكن لمثقفي الريف بجميع مشاربهم واتجاهاتهم وأماكن استقرارهم (الريف، مختلف المدن المغربية، أوروبا إلخ) أن يجتمعوا ولو لمرّة واحدة من أجل مشروع ثقافي للريف وللمغرب؟ هل يمكن لكل هذه الفعاليات والعقول والذين يشغلون مواقع مهمة داخل الوطن وخارجه أن يدعو ولو إلى مسيرة واحدة إلى الريف... ليس للاحتجاج، ولكن، على الأقل، للتعارف وطرح الإشكالات الحقيقية للريف... للوطن... للمغرب!!!! لقد كنّا اقترحنا هذا الاجتماع في السنوات الماضية في إطار مؤسسة آيت سعيذ... وكان ديدننا أن نوسع اللقاءات... ولكن... تصبّ الرياح بما لا تشتهيه السفن...