استقبلت بلدة أجدير عام 1301ه بطلها المجاهد الأمير محمد عبد الكريم الخطابي، زعيم قبيلة وريغايل أكبر قبائل البربر. حرص أبوه على تنشئته نشأة إسلامية صحيحة؛ فبدأ بتعليمه كتاب الله حتى أتم حفظه ودرس قواعد الإسلام وتلقى دروسه الابتدائية والثانوية في مليلة، ثم التحق بجامعة القرويين -أقدم جامعة في العالمء بفاس، ثم تخرج مدرسًا بمليلة، وعمل محررًا في بعض الصحف اليومية ثم عيِّن قاضيًا بعد ذلك، ثم قاد شعبه للجهاد ضد الاحتلال الصليبي في المغرب العربي. جهاده وأهم المعارك ودوره فيها تداعت إسبانيا وفرنسا على بلاد المغرب وذلك للقضاء على الإسلام هذا من ناحية ومن ناحية أخرى استغلال الثروات، وظنت فرنسا كما ظنت إسبانيا أنها لن تجد مقاومة من قِبَل المغربيين، ولكن العقيدة التي اعتنقها أهل المغرب، والتي غرست في قلوبهم معنى الحرية والإباء والكرامة، حركت همهم لمقاومة المحتل الغاصب، وتزعم هذه المقاومة الأمير محمد عبد الكريم الخطابي، واستطاع أن ينزل بالدولتين الهزائم مما كبدهم بذلك خسائر فادحة. لم يرق للمجاهد محمد عبد الكريم الخطابي الذي نشأ على العزة والكرامة أن يري بلاده ترسخ في قيد الاحتلال بدون مقاومة، فقاد شعبه من أجل تحرير بلاده وقامت معارك كتب له فيها النصر، وكان رحمه الله شعلة من النشاط في سبيل إخراج المحتل من بلاده، ودافع عن الخلافة العثماني وقدم للمحاكمة أمام مجلس عسكري من أجل دفاعه عن الدولة العثماني. وكان الحوار كما يلي: – الجنرال (أسبورو) رئيس المجلس العسكري: هل تعمل حقًّا ضد الحلفاء؟ – الأمير محمد بن عبد الكريم: نعم. – أسبورو: وما سبب ذلك؟ – محمد بن عبد الكريم: لأن الدولة العثمانية، دخلت الحرب، باعتبارها دولة الخلافة الإسلامية، وهي تقف بجانب ألمانيا وأستوريا، وأنا مسلم مراكشي، والخليفة نادى بالجهاد ضد الحُلفاء، لتحرير بلادنا، التي تحتلها فرنسا وإسبانيا. – أسبورو: وما علاقتك بالخلافة؟ – الأمير محمد بن عبد الكريم: إنها خلافة المسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها؛ لذلك فأنا معهم لنحارب الحلفاء. – أسبورو (ضاحكًا): أنا أعلم، أنك رجل نبيل، ومن أسرة نبيلة معروفة، ولكن ألا تعلم أن دولة إسبانيا ملتزمة الحياد، وأنت قاضي القضاة في منطقة الحماية؟ – الأمير محمد بن عبد الكريم: هذا لا يمنعني من القيام بواجبي، وأنا أرى كثيرًا من ضباطكم، يتعاملون مع الألمان الموجودين هنا؛ لتغذية الحرب ضد فرنسا بجانب تركيا، ثم إذا كانت الوظيفة، تمنعني من القيام بالواجب، فأنا مستقيل من هذه الوظيفة، منذ الآن، لأتفرغ للقيام بالواجب المُحَتَّم عليَّ. معركة أنوال وبعد خُروجه من السجن عدة مرات، بدأ بمحاربة الأسبان، وخاض الأمير محمد عبد الكريم بجيشه معارك كثيرة منها معركة أنوال، وقد ألحق بالجيش الفرنسي والأسبان خسائر كثيرة. وتفاصيل المعركة أن الجيش الإسباني البالغ عدده 25 ألف جندي المتقدم بقيادة الجنرال سلفستري، احتل بلدة أنوال، ثم تقدمت فصيلة منه واحتلت المركز الحصين أبسران، وظن الجنرال أنه استولى على كل مناطق الريف المغربي ولم يكن يدري أن الأمير الثائر يستدرجه ليقضي عليه لقد قام المجاهدون بهجوم معاكس شديد استردوا فيه المركز وأفنوا الحامية، وغنموا كل ما فيه، فأقسم الجنرال العلج ليبيدن جيش الحفاة، صيادي الأسماك! لقد اعترف الأسبان أنهم خسروا في تلك المعركة 15 ألف قتيل و570 أسيرًا، واستولى المغاربة على 130 موقعًا من المواقع التي احتلها الأسبان، وحوالي 30 ألف بندقية، و129 مدفعَ ميدان، و392 مدفعًا رشاشًا. لقد استظل المجاهدون في هذه المعركة براية محمد ، وطافت في أذهانهم بطولات بدر... فكانوا ألف مجاهد في مقابلة خمسة وعشرين ألف جندي في معركة استمرت خمسة أيام كاملة من عام 1921م، تسفر عن إبادة الجيش الكبير على أيدي الفئة المؤمنة {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]. لقد أخذت إسبانيا على عاتقها التي سقطت حكومتها، وقامت محلها حكومة بسبب الهزيمة التي حلت بهمن تجهيز مائة ألف جندي لتطبق بهم على "أجدير" بلدة الأمير محمد عبد الكريم، من عدة جهات... لقد غاب عن أذهان جميع دول الاستعمار في العالم أن الشرارة التي انقدحت في النفس المسلمة الغافلة فأيقظتها لن تخبو بعد اليوم أبدًا، وأن الذي انتصر عليهم اليوم ليسوا أولئك النفر القليل... لم تدرك أيًّا من هذه الدول حقيقة الإسلام الذي يحمل أتباعه على الذود عن بلادهم؛ حتى ولو قتلوا جميعًا فسيخرج غيرهم يحمل راية الجهاد حتى تطهر البلاد أو يموتوا أحرارًا أعزاء. وتعتبر معركة "أنوال "بقيادة الشهيد محمد بن عبد الكريم الخطابي أروع ما أنجزته الريف من بطولات تاريخية، والتي أبهرت الدارسين لتاريخ مقاومة الشعوب للاحتلال العسكري الاستعماري، وأصبحت من بين التجارب الإستراتيجية العالمية في مجال حركة التحرر الوطنية. عمل الأمير محمد عبد الكريم بعد ذلك على تنظيم الجيش وإزاحة العقبات التي تقف في طريق نموه، ولم تنسه الأعمال الحربية القيام بالإصلاحات التي تحتاجها البلاد، فنظم مالية البلاد التي لم تقع تحت قبضة المستعمر وأصلح فيها الإدارة ونظم التجارة والزراعة، وعنى بحالة الريف الصحية والتعليمية. وتوالى جهاده مع جنوده الذين لم يزيدوا على ألف وستمائة مجاهد، مع إسبانيا في جهة الغرب، وكذلك مع الفرنسيين من الجنوب، في معارك لاهبة متلاحقة، يصيب فيها من الأعداء، ويصيب الأعداء منه، يصيبون من أعدائهم بإيمانهم وسلاحهم، ويصيب منهم الأعداء ب(الغازات السامة) التي استعملها الأسبان أكثر من مرة. تحالف أوربي ضد عبد الكريم الخطابي ولما اشتدت وطأة الأمير عبد الكريم على الأسبان بعد الهزيمة التي ألحقها بهم في آب من عام 1924م، لم يسع الديكتاتور الإسباني "بريمو دي ريفيرا" إلا أن يتولى القيادة العسكرية بنفسه ليعمل على إنقاذ جيشه، وتفاوض مع الفرنسيين لكي يقوموا بنجدته، وأثمرت مفاوضاته معهم، فاتفقت القوتان الفرنسية والإسبانية على محاربة عبد الكريم، وكانت فرنسا أقوى دولة برية في العالم، والجيش الإسباني ثالث الجيوش الأوربية. وفي ربيع عام 1925م بدأ الفرنسيون هجومهم تحت ستار صد هجوم مفتعل، "وكان الفرنسيون يريدون بفتح الجبهة التخفيف عن الأسبان ومساعدتهم، وكان فتح الجبهة مفاجئًا، ولم ينته المجاهدون بعد من القضاء على الأسبان، وكانوا شبه محصورين بين البحر في الشمال، وهو في يد الأسبان والفرنسيين، والأسبان من الشرق والغرب، وثم الفرنسيين من الجنوب". وسار جيش محمد عبد الكريم بقيادة أخيه لمقابلة الفرنسيين الذين توجهوا إلى فاس، وأخذت الحصون تسقط بأيدي الجيش المجاهد، غير عابئ بالغارات الوحشية التي تشن عليه من هنا وهناك، وبالرغم من أن المجاهدين قد فقدوا ميزتهم في حرب الجبال وهم في طريقهم إلى فاس إلا أن قوتهم تضاعفت بسبب ازدياد عدد القبائل المنضمة إليهم، والتقوا مع الإمداد الفرنسية الكبيرة في "مزيان" فهزم الفرنسيون هزيمة منكرة، وأصبح الطريق إلى العاصمة مفتوحًا، فأسرع رئيس وزراء فرنسا إلى ميدان المعركة وعزل القائد الفرنسي المدعو "لوتي" المعروف بالحنكة والبراعة، وعيّن المارشال "بيتان" كبير العسكريين الفرنسيين، وطلب فرنسا من إسبانيا أن تفتح جبهة رابعة، وغطت الطائرات سماء مراكش، وأخذت تضرب المدنيين على غير هدى، بل إنها تعمدت ضرب الأسواق التجارية ودور العلم والمستشفيات، لتشيع الذعر والخوف، بل لتنفس عن شيء من حقدها الصليبي، وتعمل على تطبيق بند من أهم بنود الحضارة الغربية! وأسرع القائد الفرنسي الجديد وشن هجومًا انتزع به أهم معاقل المقاومة "البرانس" بينما كانت إسبانيا تستعد للنزول بأجادير، فتم هذا الأمر في نيسان عام 1925م بعد شهر من سقوط "البرانس"، وفي أيام من العام القادم كانت الجيوش الفرنسية والإسبانية تسير مجتمعة تحت قيادة "بيتان" تزحف من جميع الجهات على الأمير عبد الكريم والمجاهدين المغاربة، حين فاوضته وطلبت إليه التسليم، فأبى ذلك عليه دينه ووفاؤه، وفضّل الشهادة في ساحة المعركة، ولم تلبث قوى الشر والعدوان أن أطبقت على الأمير وجماعته وقادته أسيرًا في 10 تشرين أول 1926م إلى جزيرة "رينيون" في المحيط الهندي، شرقي مدغشقر. لم يتوقف محمد عبد الكريم الخطابي عن الجهاد رغم المنفى فقد كان يوجه المقاومة وهو في منفاه حتى نالت المغرب استقلالها. من كلماته تروي ابنة المجاهد السيدة عائشة الخطابي كلمة عظيمة قالها والدها ءرحمه اللهء قبل تحقيق النصر في معركة أنوال الخالدة: "أنا لا أريد أن أكون أميرًا ولا حاكمًا، وإنما أريد أن أكون حرًّا في بلدي حر، ولا أطيق من سلب حريتي أو كرامتي". أما بعد الانتصار، فقال في اجتماع مع رجال الريف الذين توافدوا عليه بأعداد غفيرة يريدون إعلانه سلطانًا، قال قولته الشهيرة: "لا أريدها سلطنة ولا إمارة ولا جمهورية ولا محمية، وإنما أريدها عدالة اجتماعية، ونظامًا عادلاً يستمد روحه من تراثنا". وتضيف السيدة عائشة بأن هذه الكلمات المأثورة عن الأمير نقلها عنه رفيق دربه المجاهد بوجيبار في مذكراته. ومن كلماته أيضًا: "افعلوا بي ما تشاءون، من اليوم، فأنتم ظالمون على كل حال، ولا تنتظروا مني شيئًا غير هذا". وفاته قضى الأمير محمد عبد الكريم الخطابي عشر سنوات في السر ثم أعلنت فرنسا إطلاق سراحه بشرط أن يعيش هو وأهله في فرنسا، وما إن رست السفينة التي تقلهم إلى ميناء بورسعيد في مصر حتى طلب اللجوء السياسي في مصر، وعاش في مصر إلى أن لقي ربه عام 1963م، نحسبه شهيدًا وإن مات على فراشه ولا نزكيه على الله[1].