لا شك أن كل متتبع للحراك الشعبي بالحسيمة حاليا، وذلك عقب مقتل محسن واستشهاده في شاحنة لطحن الأزبال وما تبع الحدث من تضامن وطني ودولي تنديدا بهذه الجريمة البشعة في حق أبناء هذا الوطن. وكذا الحراك اليومي الذي تشهده مختلف المدن المغربية، والقمع الذي يتعرض كل متظاهر ومطالب بالحق في العيش الكريم وفي إحقاق ذاته، وسط دولة تفتقر لأدنى شروط الدولة بمفهومها المعاصر، فالدولة ليست فقط امتلاك السيادة والاستقلالية عن الدول الأخرى التي تحيط بها وتحدها جغرافيا بالرغم من أنها تفتقر إليها إن حللناها من منطلق تدخل المؤسسات المالية والفكرية الدولية في توجيه سياساتها الوطنية، ومن منطلق أيضا الاستلاب الثقافي المدعوم بمختلف وسائل الإعلام. والدولة ليست أيضا مؤسسات تصرف لها ميزانيات سنوية ويعين فيها موظفون للقيام بالمهمات اليومية، من تحرير للشواهد والوثائق الإدارية، وليست جهازا عسكريا تصرف له ميزانيات ضخمة دون أدنى حسب ولا رقيب. فكيف لدولة مثلا تدعي الديمقراطية أن يكون جهازها العسكري غير خاضع للتتبع والمراقبة من قبل المؤسسات الأخرى المكلفة بتتبع وتقييم السياسات العمومية في الجمال الأمني. وكيف لدولة تدعي العهد الجديد أن تكون العديد من مناطقها مازالت خاضعة لظهائر العسكرة؟، وكيف لدولة تدعي تحقيق مراحل مهمة في حرية الرأي والتعبير ووجود ترسانة قانونية تحمي هذا الحق، أن تنتهكه في رمشة عين، وبأساليب بشعة تغيب فيها أدنى شروط احترام الرأي الآخر؟ ففي المراحل التي تضعف أو تنهار المؤسسات السياسية، الأمنية والحكومية لأي دولة؛ نجد أن ساستها يحاولون إيجاد بعض الحلول السريعة -حتى لو كانت غير منطقية، أو ذات أبعاد تدميرية- لترميم ما يمكن ترميمه، وهذا ما يحدث -تقريباً- حالياً بالمغرب، والحسيمة بوجه خاص. وهنا وجب التنبيه إلى الانعكاسات الخطيرة التي قد تخلفها التحالفات بين مختلف أجهزة الدولة ضد سكان منطقة ما. سكان لا غايات لهم سوى مطالب اجتماعية واقتصادية تجاوزتها الدول الديمقراطية و أصبحت تعتبرها من بين الأمور التي قد تُقَاضَى عليها في حالة عدم تمتيع مواطنيها بها، كالحق في التعليم الجيد والعصري، الحق في الصحة...الخ. إن غياب الحلول السياسية والالتجاء إلى/ الاتكاء على الآلة العسكرية، لا يمكن أن يخلص المغرب مما هو فيه من مشاكل متعددة ومتنوعة كتفشي الفساد الممنهج، وتنامي البطالة وغلاء شروط المعيشة السليمة...الخ؛ بل هذا التعنت –ربما- سيفتح الباب على مصراعيه للفقدان التام والإحساس بالضياع في هذه الدولة، وعليه فإن خطوة قمع أي حراك شعبي، وأي تظاهرة، وأي معتصم، تمثل دوافع قد تؤدي إلى تدمير الاستقرار ب"السعي للحفاظ على "الاستقرار"، وبالتالي فإن الخاسر -كما هو الحال دائماً- هو المواطن الضعيف، الضائع بين التهجير، والعوز، وانعدام أدنى شروط الأمن الاجتماعي. مع العلم أنه يبين ويؤكد خلال كل تحركاته على سلمية خطواته، وعقلانية تفكيره، وحرصه على حماية مختلف أجهزة الدولة والمصالح التابعة لها. إن الرجوع إلى الآلة القمعية لوضع حد لتمدد الحراك الشعبي بالحسيمة، دليل على فشل مختلف المقاربات المخزنية التقليدية في احتواء رفض المغاربة للأساليب الحالية و طرق تدبير الشأن العام، وهي مقاربات مركزة بالخصوص على احتواء الحراك من طرف خدام "الأعتاب الشريفة" ومن طرف مختلف أذرع هذا النظام السياسي، من الأحزاب السياسية، ممثلي السلطة على المستوى المحلي والجهوي، وكذا المجتمع المدني المخزني، التلميذ النجيب للأحزاب السياسية، والخادم المطيع للولاة والعمال. وبعد فشل أيضا البلطجية المسخرة في كل من ضواحي آيث عبد الله والناظور في جر الحراك إلى مستنقع العنف وتخريب الممتلكات العامة. كما أن المقاربة الأمنية لا تعدو أن تكون مرآة لانسداد أفق الحوار و الإنصات الجاد لمشاكل الناس و عدم جدية الدولة في إيجاد حلول ناجعة قائمة على رؤية علمية و إستراتيجية بعيدة المدى لإخراج المجتمع من أنفاقه المسدودة. فضلا عن ذلك، فالمقاربة الأمنية، مهما اشتدت و بلغ مداها، فلن تكف المقصيين و المهمشين من الاستمرار في الاحتجاج مادامت مطالبهم بحياة إنسانية كريمة لم تتحقق و لم تصر بعد معيشا يوميا. واللجوء إلى العنف يعبر عن خلل في بنية السلطة و طريقة مقاربتها للأوضاع و في علاقتها بمحكوميها المتسمة بالتوجس و الريبة الأمر الذي يفسر اللجوء إلى العقاب الجماعي. وكلما ركن النظام الحاكم إلى المقاربة الأمنية لقمع الاحتجاج، ارتفع منسوب الاحتجاج. فالناس بحاجة إلى حلول واقعية لا حلول قمعية (أنظر: تقرير لمركز هيباتيا بالإسكندرية للدراسات والتفكير بعنوان : انتفاضات الغليان الاجتماعي: المقاربة الأمنية لردع الحق في الاحتجاج السلمي من أجل الحياة الكريمة). فهذه المقاربة الأمنية المطروحة حاليا دليل على العجز في التغلغل داخل الحراك ومحاولة توجيهه وفق الهندسة المخزنية لأي حراك شعبي، وعجزهم عن الطعن من الخلف من خلال محاولة فبركة ملفات للنبش في الحياة الشخصية للنشطاء والفاعلين في هذا الحراك، وكذا فشلهم في الترويج لخطاب الفتنة ومحاولة زعزعة استقرار المغرب، بعدما أبانت مختلف مراحل هذا الحراك عن الوعي الناضج لدى سكان الريف والمغاربة عامة ، وذلك بتظاهرات وأشكال نضالية سلمية وراقية حملوا فيها لافتات ومنشورات تلخص كل دواعي هذا الحراك، وتعبر عن مطالبهم وحاجياتهم، ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي. والتي عبروا عنها علانية وبإشراك مختلف المواطنين في صياغتها. ومادام المغرب وقع على العهد الدولي للحقوق الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية في 19 يناير 1977، وصادق عليها 03 ماي 1979، فإنه أولا ملزم باحترامها، وثانيا مجبر بالبحث عن السبل والآليات لتفعيلها عمليا. وبالتالي فالمغرب يتحمل المسؤولية الأولى عن جعل حقوق الإنسان حقيقة ملموسة في هذه البلاد. ويجب عليه كحكومة ومؤسسات وجماعات ترابية إحترام حقوق الأفراد فعليا ولا صوريا أو مناسباتيا، أي أنه يتعين عليهم ألا ينتهكوا هذه الحقوق. بل يتوجب عليهم حمايتها، و ضمان ألا تُنتهك هذه الحقوق من جانب أشخاص آخرين أو هيئات أخرى. إن استحضار مفهوم الاعتراف هنا ليس اعتباطيا، أو مفهوم أُرِيدَ به تزيين عنوان هذه المقالة، بل فهمه يستلزم أساسا فهم عمق المجتمع المغربي، وفهم علاقة المواطنين بالنظام السياسي، فالاعتراف باعتباره محور الصراع بين الذوات وظفه الفيسلوف الألماني فريدريك ولهايم هيغل Higel في تحليله ل"جدلية الصراع بين العبد والسيد". وهي جدلية تأتي نتيجة حتمية لرغبة الإنسان في نزع الاعتراف به من طرف الآخر (رغبة إرادتين بشريتين واحدة تتميز بالقوة والمغامرة ، وهي إرادة السيد المنتصر في الصراع، والثانية تتميز بالخوف والخضوع وهي إرادة العبد، المنهزم في الصراع). وبإسقاط نظرية "هيغل"، التي تشكل أحد أعمدة فلسفة الاعتراف على الحالة المغربية، يمكن القول بأن المغربي مازال يعتبر في نظام الملكية رعية وليس مواطنا، لأن المواطنة حقوق قبل أن تكون واجبات، ووفق النسق الدستوري والسياسي اللذان تحتكرهما المؤسسة الملكية ووفق الممارسة التقليدية للمخزن، فإنه من البعيد جدا استشراف نور المواطنة. كما يذهب الفيلسوف Axel Honneth في دراسته حول "الصراع/النضال من أجل الاعتراف Lutte pour la reconnaissance" الذي بين فيها بأن الصراع في حد ذاته كتجربة، يعود إلى الفشل والإحباط من عدم تحقق الوعود وعدم تلبية المطالب بالإضافة إلى طول الانتظار من أجل تحقيق ما هو ضروري للهوية الفردية والجماعية، وتوفير الظروف الاجتماعية المناسبة لقيام علاقة إيجابية مع الذات ومع الآخرين. وفي نفس الاتجاه الذي رسمه "هيجل Higel " يؤكد Honneth"" بأن تشكل الذات والهوية مرتبط بالاعتراف المتبادل بين الذوات (العبد والسيد) أي أن الاعتراف ليس معطى مباشرا وإنما هو حصيلة صراع ونزاع بين الطرفين. ويرى الفيلسوف "جون جاك روسوJean Jacques Rousseau " في كتابه "العقد الاجتماعيLe contrat Social" إلى اعتبار الاعتراف La reconnaissance شرط أساسي من أجل التأسيس لعقد اجتماعي حقيقي، بين المواطن وبين الحاكم، وبالتالي فعلى كل واحد منهم احترام كرامة بعضهم البعض، وعلى الحاكم الوفاء بوعود تمتيع هذا المواطن بحرياته وكافة حقوقه، وعلى المواطن ضمان احترام الحاكم، على اعتبار الصفة المكفولة له وهي تسير الدولة والمجتمع دون التصرف فيهما على أساس أملاك له. فبشكل عام، يشكل تدني التعليم بالمغرب، وافتقار المدرسة المغربية لأدنى مقومات النجاح، وضعف الأطر الطبية وغياب المستوصفات في العديد من مناطق المغرب العميق، حيث العديد من الأطفال يموتون جراء البرد والثلج في جبال الأطلس، والعديد من النساء يلدن على حافة الشوارع وعلى الدواب في طريقهن إلى المستوصفات التي تبعد عنها بعشرات الكيلومترات، وغياب استراتيجيات واضحة للتشغيل، تأخذ بعين الاعتبار: ما هو كمي: أي عدد العاطلين عن العاملين من الحاملين للشواهد العليا والتقنية، وغير الحاملين لهذه الشهادات. وما هو كيفي: أي عمل يضمن العيش الكريم، بما يسمح للفرد بتكوين ذاته والاندماج بشكل طبيعي مع مختلف الفئات المجتمعية الأخرى. فحسب صحيفة ألف بوست، فخلال سنة 2016 تراجعت القدرة الشرائية للمواطن المغربي، وسجلت هذه السنة تراجع مستوى الصحة الى مستوى ولادة نساء كثيرات أمام أبواب المستشفيات، وهي حالات قد ينفرد بها المغرب في البحر الأبيض المتوسط. كما أن هذه السنة انتهت بأسوأ موسم دراسي في تاريخ التعليم المغربي، وأضيف إلى ذلك قرار الدولة بدء خوصصة التعليم بطريقة محتشمة وصامتة لفرض أمر الواقع. وسياسيا، سجلت سنة 2016 الانهيار الحقيقي للأحزاب المغربية بعدما لم تتجاوز نسبة المشاركة في الانتخابات اعتمادا على المقاييس الدولية المتعارف عليها 20%، الأمر الذي يجعل مسافة فاصلة بين الشعب والمؤسسات التشريعية. كما شهدت سنة 2016 تراجع نسبة النمو الضعيفة رغم التكهنات خلال نهاية 2015، وسجلت ارتفاع صاروخي لأسعار المواد الأساسية، كما شهدت ارتفاع المديونية إلى ما فوق 80% من الناتج الإجمالي الخام بشكل لم تشهده البلاد من قبل، الأمر الذي يرهن مستقبل الأجيال الصاعدة بهذه الديون، خاصة وأن هذه القروض لم توظف في استثمارات لصالح الصحة والتعليم. فكل هذه الأمور، وغيرها من المشاكل الأخرى الاجتماعية والاقتصادية، تعبر إلى حد كبير أن المغربي مازال عبدا لدى السيد الحاكم، وجب عليه إطاعته والقبول بما يُرْمَى لَهُ. وإلا سيتعرض لأبشع أنواع التعذيب والاحتقار والإذلال . وبالتالي فتحصيل هذه الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، يعتبر بمثابة نزع الاعتراف. فالدولة التي يصارع فيها المواطن من أجل نزع حقوقه، بعيدة كل البعد عن الديمقراطية والمفاهيم المتفرعة عنها من العهد الجديد والإنصاف والمصالحة...الخ.