المسار الحقوقي بالمغرب، بين الحاجة الملحة للعدالة الاجتماعية، و ترسيخها لكافة الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و بين التوظيف السياسي للحقل الحقوقي. فإذا تتبعنا بالرصد ومن زاوية الحياد، ولو نسبيا للمسار الحقوقي في المغرب سننتهي بالنتيجة التي تقول ان السياسة او السياسي هو الفاعل المحرك للمجال الحقوقي منذ نشأته في بداية السبعينيات من القرن الماضي. وهذا المعطى لا يجب النظر إليه من جانبه السلبي، و لكن علينا أن نستحضر الشروط الملزمة للمرحلة المشئومة في تاريخ المغرب. و التي يطلق عليها سنوات الرصاص. فإن تلك المرحلة، لا وجود فيها لأي صوت يعلو فوق صوت السلطة، التي تتحكم بقبضة من حديد على كل مناحي الحياة و توجهه بما في ذلك الإعلام و المسرح و الرياضة الخ… كما أن تلك المرحلة لا وجود فيها لمطالب شعبية او فئوية او نخبوية أو كيفما كان نوعها، وحتى البسيط منها. و الذي يدخل في حكم الطبيعي و الضروري للحياة. و بالرغم من ضراوة القمع و التعسف و الاضطهاد، لمن تجرأ على أصغر عون سلطة، فبالأحرى الاحتجاج على سياسة النظام الحاكم، الذي لا يتوارى في اعتقال و سجن و نفي أو إعدام أي معارض، أو حتى انه شبه لهم أنه معارض. في ظل هذا الوضع الذي يتسم بالسواد الأعظم، و الحكم المطلق و المستبد، الذي حول المجتمع المغربي إلى جماعة من العبيد أو اقل من الناحية الإنسانية. و بالرغم من هذا الوضع المأزوم و الذي تنعدم فيه أبسط شروط الحرية، إلا أن هناك نخبة من الأصوات المعارضة التي كانت خارج أسوار السجون و المنافي، و التي بادرت في خضم هذا الواقع، إلى مطالبة النظام القمعي بالإفراج عن المعتقلين السياسيين. وفي هذا الإطار لابد من توضيح لبعض الملابسات المحيطة بتلك المرحلة إي مرحلة بداية الاستقلال حيث برزت قوة معارضة لها مشروعية نضالية، استمدتها من الحركة الوطنية آنذاك. وبالضبط في سنة 1965، عرف المغرب حالة تعليق العمل السياسي بالمؤسسات و تدهورا خطيرا لحقوق الإنسان، وإذا شهدت هذه الفترة سلسة من المحاكمات من اجل الرأي، و اغتيالات سياسية و قمع وحشي لكل حركة اجتماعية، و لو كانت ذات طابع مطلبي بسيط. كما منعت بعض الأحزاب السياسية من ممارسة نشاطها و كذلك النقابات التي عرفت اعتقالات لمسئوليها و تقديمهم للمحاكمات التي لم تتوفر فيها الشروط الدنيا من الضمانات لإجراء محاكمة عادلة. و في ظل هذه الشروط برزت أول نواة لحركة حقوق الإنسان، تحت اسم لجنة مناهضة القمع بالمغرب و التي كانت تضم كافة الفعاليات و الحساسيات، التي تجرأت آنذاك على مناهضة خرق حقوق الحريات السياسية تحديدا، إلا أن هذه الصيغة الوحدوية لم تتمكن من الصمود أمام الفعل السياسي و منطق الإلحاق. حيث بعدها بقليل نشأت العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان، بقرار سياسي من حزب الاستقلال وشل بهذه الممارسة الصيغة التقليدية للتعامل مع المنظمات التي تعنى بحقوق الإنسان، وسرعان ما تبين أن العصبة لم تكن تدافع عن حقوق الإنسان بصفة عامة ولكنها اختصت بالدفاع عن حقوق الطلبة الاستقلاليين فقط، حينما يتعرضون للاعتقال آنذاك. ويمكن أن يجد المتتبع للمسار الحقوقي بالمغرب، صيغة لها جذور تقليدية في صلب الحركة الوطنية و تمثلاتها للعلاقة بين الحزبي ومختلف الإشكال التنظيمية، التي تعتبر روافد للإطار السياسي، وضمن لوائه. وهذا تقليدا دأبت عليه الأحزاب السياسية المغربية ليس فالحقل الحقوقي فقط، و إنما في كل الحقول التي تعتبر اجتماعية. و بما أن الإطارات الحقوقية كانت في إطار نشوئها، سارعت الإطارات السياسية لاحتوائها و ضمها كملحقة حزبية تابعة للتوجه السياسي الحزبي، و قد نجد تفسيرا أكثر واقعية في ما وصلت إليه الجمعية المغربية لحقوق الإنسان اليوم. مع العلم أن الجمعية المغربية لحقوق الإنسان كصرح حقوقي له مكانته محليا و إقليميا و حتى دوليا، فرضته هذه الجمعية بنضالها في خضم ما عرفته الساحة من (صيغ للإجماع) إلا أن هذه الصيغة لم تدم طويلا، إذا بمجرد ظهور خلافات سياسية بين فرقائها، حتى انفكت الصفوف و تم انسحاب قوى سياسية لم تعد ترى في الجمعية إطارا ملائما يسير و توجهاتها، التي تطمح لها هذه القوى السياسية. و في هذه الظروف بالذات تعرضت الجمعية و أطرها لقمع وحشي، ووقع انفلات سياسي نتجت عنه صراعات في صفوفها، أديا بدورها إلى تجميد الحركة الحقوقية. و دخلت الجمعية في حالة شبه حضر طبعت ممارستها حتى حدود1987. حيث بدأت تظهر بوادر إعادة الحيوية لصفوفها، و فعلا أخذت الجمعية مكانتها في المشهد الحقوقي بالرغم من أن المنسحبين من الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، و بفعل الضغط القوي للقوى الديمقراطية في المغرب. بدأت هذه القوى في تهيئ شروط قيام المنظمة المغربية لحقوق الإنسان باستقطاب لشخصيات مستقلة، لم تشكل في حقيقة أمرها غير واجهة لتمرير تصور سياسي لحقوق الإنسان. فلم تتمكن من الصمود طويلا، و بدأت الأزمة في صفوف المنظمة المغربية لحقوق الإنسان. والحقيقة هي أزمة للديمقراطية في الإطارات بشكل عام. إذ سرعان ما انسحبت الشخصيات المستقلة، و بدأت المؤشرات لغياب الديمقراطية ترمي بضلالها على الإطار إبان ولادته. حيث طال التجميد حتى المساهمين الحزبيين في خلق المنظمة. و كان هذا التجميد بدعوة أن الشروط لم تكتمل بعد للممارسة الديمقراطية بفعل استحواذ طرف على المكتب الوطني و المجلس الوطني تنفيذا لقرار لمكتب لسياسي لحزب سياسي مهيمن. من هنا يمكن استنتاج أن العمل في مجال حقوق الإنسان، لم يتمكن لحد ألان من الاستقلال. و لا أرى انه سيتمكن من ذلك مادامت أن الثقافة الحقوقية نخبوية في عمقها، لذلك فمسألة استمرار هذه السيطرة على المنظمات الحقوقية يرتبط بشروط العمل السياسي، محجوزا على مستوى النخب. و في هذا الإطار لقد كان هاجس أحد الرؤساء للجمعية المغربية لحقوق الإنسان قبل الفترة التي هيمن فيها المكون الجديد على الجمعية المغربية لحقوق الإنسان. لقد كان هاجس هذا الرئيس هو النزول بالفكر الحقوقي، و الفلسفة الحقوقية إلى الجماهير من أجل التعريف بالحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و الثقافية أيضا، على أساس أن هذه الحقوق هي حقوق للجميع و خاصة المعنيين بها، و الذي على الجمعية أن تقوم بتوعيتهم بحقوقهم الاجتماعية المشروعة آنذاك. إلا أن الظرف لم يسمح لتطبيق هذا التصور و هذا الطموح، الذي يتوخى تعميم التعريف بحقوق الإنسان على المستوى الجماهيري.كما كان هذا الرئيس رافضا للأسلوب التقليدي، الذي يربط بين الإطار الحقوقي والمصلحة الحزبية، بدليل انه أعطى إمكانيات لمن يليه في الرئاسة دون اعتبار للاختلاف السياسي، ولا للقوة والعدد الذي تحسم به الأمور ألان داخل الجمعية، وكان همه الوحيد ان تحتفظ الجمعية بجوهر وجودها الحقوقي بعيدا كل البعد عن الحزبية الضيقة، و الحسابات السياسية كيفما كان مصدرها. وكان توجيهه دائما في إطار الجمعية هو الانفتاح على الرأي العام الميداني، و التركيز على خرق الحقوق وهضمها من طرف السلطة و أعوانها. وفي هذه النقطة بالذات سأفتح قوسا قصيرا لأحيي شخص هذا الرئيس على حياده الحقوقي و نزاهته الفكرية و أسلوبه في التعاطي مع كل المكونات التي كانت تشتغل داخل الجمعية دون تمييز. و هذه شهادة للتاريخ. و إذا تمعن المتتبع فيما يجري ألان فالحقل الحقوقي سيلاحظ أن هذا الحقل زاغ عن دوره بفعل الحسابات السياسية للبعض. و رغم أن المغرب يعج بالإطارات و المقاربات الحقوقية، و بعضها لا يقل أهمية بل و يضاهي المقاربة و التصور في أهميته لدى الجمعية المغربية لحقوق الإنسان. كما أن حقوق الإنسان أصبحت شعارا لدى كل الفاعلين كيفما كانت توجهاتهم، يمينية كانت أو يسارية أو محافظة. بل حتى النظام الذي كان يخرق حقوق الإنسان، و يضيق على الحريات العامة للجماهير، أصبحت حقوق الإنسان عناوين خطابه. بل إن الدستور الأخير يعترف بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا. و خلاصة القول، وبدون إطالة في السرد للمسار الحقوقي بالمغرب، الذي لا ننكر تطوره و انتشاره و تقبله لدى الشرائح الاجتماعية كيفما كان انتمائها أو مستواها الثقافي، وفي خضم هذا الكم المتنوع سياسيا و الفاعل حقوقيا، برزت ومن داخل هذه الإطارات الحقوقية، أراء تتساءل في جدوى المطالبة بحقوق الإنسان و التعريف بها، مادامت كل النصوص للترسانة القانونية للدولة تنادي بها. و تعترف بها. وربما هذا الهاجس التفكيري الذي جعل المهيمنين على الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، إن يبدعوا في تصورات تختلف كليا عن الهواجس الحقوقية للمغاربة، ومن ضمن هذه الإبداعات تبني حقوق أقليات جدا داخل المجتمع، و التي كان المجتمع المغربي يرفض الحديث عنها فبالأحرى الدفاع عنها. وهنا فأنا لا أختلف أو انتقد هذا النوع من النضال الحقوقي، من زاوية المحافظة على المجتمع المغربي. دون تعرية أمراضه و الكشف عنها، و لكنني فقط أوضح مسارا حقوقيا لا أظن انه حقق كل الغايات التي ناضلت عليها النخبة الحقوقية المغربية. و لكنني لا يمكنني أيضا أن أنكر أو أبخس ما حققته الإطارات الحقوقية من حصيلة محترمة، لم تكن تتحقق لولا وجود هذه الإطارات. و خاصة الجمعية المغربية لحقول الإنسان السباقة لطرح ملفات الفساد المالي و السياسي، و المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن هذا الفساد. و في أرشيف الجمعية سيجد الباحث لوائح بأسماء المسؤولين عن خرق حقوق الإنسان إبان سنوات الرصاص، بل هناك لائحة بأسماء طالبت الجمعية بمحاكمتهم نظرا لضلوعهم في الجرائم السياسية، التي عرفها المغرب وهذا كله يسجل لصالح الجمعية المغربية و تاريخها النضالي العريق و النظيف و المتميز. و في المقابل لا يمكن أن نتجاوز بعض الإنفلاتات لهذه الجمعية، حيث حرفت نضال الجمعية و حولته إلى مطالب من اختصاص النقابات كتنسيقيات الغلاء، التي كانت من وراء نشوئها قيادات الجمعية المغربية. و لعل هذا الانفلات حدث نتيجة عن اختلاط بين ماهو حقوقي بماهو نقابي للمدبرين لشؤون الجمعية. و بالمناسبة كنا نتمنى من الجمعية المغربية لحقوق الإنسان أن تفعل و تجسد شعار مؤتمرها الوطني العاشر فعلا على أرض الواقع ويكون هذا المؤتمر لحظة لتجاوز التراكمات السلبية التي خلفها المؤتمر التاسع، ولكن للآسف يبدو أن عقلية الهيمنة و الانفراد بالقرار داخل الجمعية، أصبح هما و هدفا للآطار المهيمن الذي استحوذ غلى كل الأجهزة مبرزا قوته العددية على حساب المصلحة الحيوية للجمعية، وترسيخا لحقوق الأقلية التي كانت فاعلة في المشهد الحقوقي، ولكن ويبدو أن المهيمنين معجبين بهيمنتهم السلبية التي تسيء للعمل الحقوقي، وتعمق الاختلافات و الحجازات لأجل غير مسمى .