ليس هذا اسم فيلم أو رواية. ولكنه تعليق كان يمر في ذهني كلما جاءتني فتاة صغيرة ما بينالسادسة عشرة والعشرين من عمرها تحكي قصتها بدموعها تتأوه وتتألم وعندماأسألها لماذا؟ تكون الإجابة في جميع الحالات مع اختلاف الظروف والملابسات هيالحب، فيكون السؤال التالي هو: أتدرين ما الحب؟ وتكون الإجابة صمتًا حائرًا،تحاول الإجابة، ولا تستطيع فتكرر مرة ثانية ولكنني أحبه!.... استوقفني الأمرعدة مرات لمحاولة البحث وراءه، ولكنني كنت أكتفي بالتعليق البسيط "باحثات عن الحب" وقد خدعني صغر سن صاحبات التجارب بذلك .. ولكن ما جعلني أقف هذهالمرة وأسترجع كل التجارب والقصص التي قابلتها في العيادة النفسية- لمحاولة الخروج بإجابة أو نتيجة -هي صاحبة القصة الأخيرة، ربما لأن سنها قد تجاوزت العشرين بأربع سنوات بمعنى أنها من المفترض أنها نضجت بما فيه الكفاية ... فكان لابد من الوقوف والتساؤل ما هو الحب ؟ .. ولماذا البحث عنه ؟ .. ولماذا تهربالفتاة وتدمر نفسها ؟ تعالوا نبحث عن إجابة ونحن نستعرض بعض القصص: أما إحداهن فبدأت علاقتها، وهي في سن الرابعة عشرة عن طريق التليفون، وتطور الأمربعد شهور إلى لقاءات في الخارج، ثم لقاءات في شقة، ثم حمل وإجهاض، ثم انتهاءللعلاقة من جانب الرجل؛ حيث تبين أنه متزوج، ولا يستطيع الارتباط، واكتفىبذلك! وخرجت صاحبتنا محطمة .. هائمة تبحث عن الحب من جديد لتجده في الشارع، شاب لم يضيِّع وقته، فهم ما تريد أن تسمعه، وقالت: إن هذا هو الحب خاصة وهوشاب مقارب لسنها، ولتمنحه كل شيء وأي شيء، ولتكتشف بعد ذلك خداعه، ووضاعته؛حتى إنه قدمها لأحد زملائه؛ ولتكتشف أنه غير مؤهل لأي ارتباط، لكنها تظل تردد أنهاتحبه تحبه تحبه...!!! أما الثانية فأحبت ابن الجيران الذي سرعان ما وصل بها إلى شقة المصيف،ولتحمل في أحشاءها جنيناً، ويشعر الأهل؛ ويتم الإجهاض وهي في سن الخامسةعشرة، ولتستمر المسيرة، وتحب شخصًا آخر زميلا في الجامعة، وليسمع قصتها، فقدأصرت أن تحكي له فهي لا تريد أن تخدعه، فما كان منه إلا أن استولى على مصوغاتهاالذهبية، وهرب، ووجدت نفسها أمام شاطئ البحر لتنتحر؛ فإذا بصديق يعرف عنهاكل شيء، يظهر ليقول لها: بدلاً من الانتحار تعالي تزوجيني! ولتتزوج ابنةالثامنة عشرة دون علم أهلها بحثاً عن الحب والحنان الذي تصورت أنها وجدته فتُفاجأ بأنها تعيش مع نصاب عندما حضر الأهل واكتشفوا أن الزوج له سوابق للحصول علىالأموال بالابتزاز مقابل تطليقها.. والثالثة أحبت الشاب اليتيم الفقيرالذي أعجبتها قوته واحتقاره لجمالها، وانصاعت مختارة له تعطيه من مصروفها وطعامها، وكلما أمعن في البعد اقتربت، وأصرت، وسلمته نفسها يقودها إلى حيث يريد،وبعد ست سنوات بعد أن حصل على كل شيء تركها دون سبب وبلا رجعة؛ لتعيش تائهةحتى تُسرّ لها إحدى المخلصات بأن الحل أن تتعرف على آخر حتى تُشفى منحبه ليزداد الأمر سوءًا، وتشعر بالشقاء ويزداد شغفها ولهفتها إلى الحب لتقع في يد شيطان أجهز على ما تبقى منها بعد أن عرف كلمة السر : الحبو...... أظنني قد أطلت في السرد، ولكنها عينة صغيرة تعبر عن ظاهرة، والظاهرة منتشرة في كل بلداننا العربية ... و لنبدأ بالسؤال : أين الأهل؟ ..أين الأم؟ .. أين الأخت؟ .. أين الصديقة؟ .. أين الجارة الحميمة؟ ..أين النصيحة المخلصة؟ .. أين طلب العون والمشورة؟ .. أين نظام الدعم النفسي الطبيعي الذي كان يمنحلهؤلاء الفتيات الحنان والحب والاتجاه الصحيح الكاشف للعواطف الصادقة والكاذبة، وأين المناخ الذي يربي مع الأسرة ويسد النواقص والثغرات عبر أبنية المجتمع المختلفة من إعلام وتعليم؟ إن غياب هذا الدور الخطير لمؤسسة الأسرة بفروعهاالممتدة جعل هؤلاء الفتيات في صحراء جرداء من العاطفة والحنان الحقيقي تجعلالإنسان في حالة عطش؛ فيرى السراب ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ووجد الخداعوالضياع .. إن الحصول على الحب والحنان من المصادر الأولية والطبيعية يمنح الإنسان مناعة من أن تخدعه أي مشاعر زائفة غير حقيقية تستغل حرمانه وشوقه الفطري إلى من يهتم به ويشعر بأحاسيسه .. أما النقطة الثانية التي قد تبدوكأنها هي نفسها الأولى ولكني أراها مختلفة فأسميها التربية العاطفية وهي غير العطاء العاطفي، والمقصود بالتربية العاطفية أنه لا يوجد ثمة تعليم يتم لكيفية منح العاطفة وكيف تنمو؟ وكيف يعرف الإنسان الحقيقي منها من الزائف؟ ومتى يمنح الإنسان عاطفته؟ وما الفرق بين الحب والإعجاب والاهتمام والتعود؟ وهل الانجذاب الفطري بين الفتى والفتاة هو الحب ؟ .. والسؤال الأخطر: هل الجنس هو الحب ؟ خاصة وأن كثيرًا من الشباب يدخلون للبنات من هذا المدخل وينجحون نجاحاً باهراً مؤلمًا، وهو أنه لا حب بدون جنس، وأنه الدلالة الحقيقية على الحبالصادق، وعلى الثقة في المحبوب، وعلى الإخلاص الكامل في منحه ذلك بصورة ملموسة !!!... كل ذلك يحتاج إلى وضوح وبرنامج تشترك فيه الأسرة أولاً من خلالالحوار المفتوح والعقل المتفتح الواعي والصدر الرحب ثم المدرسة وأجهزةالإعلام التي للأسف تقدم صورة مغلوطة لهذه المشاعر وطبيعتها؛ فيزداد الأمر سوءًا؛ حيث تحولت هذه الأجهزة الإعلامية بأشكالها المختلفة في غياب دور الأب والأموالأسرة إلى الموجه الأساسي لمشاعر هؤلاء الفتيات متصورات أن هذا هو الحب،أوليست هذه الكلمة هي التي تلوكها الألسنة طوال ساعات الإرسال وفي الأفلام وفيالمجلة؛ فتظل الفتاة المسكينة مشتاقة لهذه المشاعر الملتهبة التي تمنحصاحبتها السعادة، كما تراها مرسومة على وجه البطلة التي تكرس ثنائية الحب الجنس، والتي تكسر الحاجز النفسي للإقدام على هذه التجربة، ولتأتي أغانيالفيديو كليب ومشاهدها المثيرة التي تركز أساساً على صورة غريبة للعلاقة بين الفتى والفتاة تقوم على اللمسات والقبلات والنظرات، تجعل كل فتاة تهيم في عالموهمي، يجعلها تستسلم لأول كلمة قد أحسن صاحبها صياغتها. ثم أين الاجتهاد الشرعي الفقهي الحديث لمسألة العلاقة بين الفتى والفتاة في ظل الواقع الجديد الذي أصبح فيه لقاء الفتى والفتاة أمراً يوميًّا وحتميًّا في كل مكان، في الشارع، في المدرسة، وفي الجامعة، وفي النادي .... إنها صفحة مغلقة لايقترب منها أحد أو قل: هي غائمة يبدو فيها المنع والنهي والتحريم وكأنها المفردات الرئيسية للمسألة، ولا توجد صيغ أخرى مما جعل الشبان والشابات لا ينظرون لهذه الصفحة أصلاً، وتركوا الأمر لأفكارهم أو اعتبروه أمراً يصح أن يديروه همبأنفسهم، ولا شأن للدين بالمسألة، وإلا كيف نفسر هذا المشهد، وقد وقفت الطالبة تنتظر زميلها على باب المسجد؛ حتى ينتهي من صلاته ليعودا إلى وقفةحميمة تتلامس فيها الأيدي وتتقارب الأنفاس، بل إن بعض الفتيات المحجبات ينخرطن في هذه العلاقات دون أن يرون أدنى تعارض في ذلك بين مظهرهن الإسلامي وعلاقتهن التي قد تتجاوز حدوداً لا نتصورها، بل إن البعض يصوم يومي الإثنين والخميس،بل إن ظاهرة ما أسموه بالزواج العرفي في الجامعات كانت تعبيراً عن حل شرعي اخترعه هؤلاء الشباب لحل هذه المعضلة؛ حيث وقف الفقهاء عاجزين عن صياغة تستجيب لحاجات هؤلاء الشباب في ظلما يعيشونه ويعانونه. إن جو الاختلاط المفتوح بغير حدود مع عروض الأزياء المثيرة في جو غاب فيه الحنان والحب من المصادرالأصلية؛ حيث اختفت وتفككت الأسرة لسفر الأب أو لانفصال الأم أو لانشغالهما أو لعجزهما مع إعلام غير واعٍ بدوره الصحيح ولا نقول متآمر مع عجز شرعي عن صياغة متواكبة مع الواقع .... في إطار من طغيان الأفكار المادية التيتقدم المحسوس الملموس على المعنوي والروحي ... كل ذلك جعل الشباب يبحثون عن اللذة السريعة خاصة وأنه لا أمل لديهم في اللذة الآجلة ... وجعل الشابات يلهثن وراء السراب باحثات عن الحب . إن الحب الحقيقي موجود، ولكنه غالٍ ويحتاج إلى مجهود للوصول إليه ..إنه حب يبني ولا يهدم .. حب يقود إلىالفضيلة ولا يمكن أن يؤدي إلى الرذيلة..حب ضارب بجذوره في الأرض ينمو بطريقة طبيعية، يبدأ بذرة تحتاج إلى العناية والرعاية في جو صحي من الوضوحوالعلانية والشرعية، ثم ينمو نباتاً قويًّا صامداً للأعاصير؛ ولنفتح البابللحوار والنقاش لنصل إلى صيغة تناسب تقاليدنا وديننا وثقافتنا؛ حيث إنتقليد الآخرين لن تجعلنا مثلهم وسنفقد أنفسنا، إن الأمر جد خطير ويحتاج إلى نقاشوحوار وتعدد الآراء والرؤى، والكل مدعو للمشاركة. منى البصيلي