ليس دائما تكون الظاهرة سلبية، كما أن كلمة (ازدحام) لا تعني بالضرورة أن هنالك أمرا خطيرا يأخذ مكانه في حياتنا ونقف أمامه عاجزين لا نستطيع التصرف. على أن هذه ليست مرافعة عن الازدحام. عالميا، ربما تعتبر مدن نيويورك ولندن وطوكيو وهونغ كونغ وحتى موناكو من أكثر المدن ازدحاما بالسيارات. إلا أن أول من صدَّر صورة الازدحام المروري أو كلمة (الزحمة) في الشوارع العامة وأدخله في المتداول الاجتماعي اليومي في المقاهي والمسلسلات التلفزيونية وأفلام السينما هي (مصر المحروسة). وكان ذلك في عهد ابن العرب الكبير الزعيم جمال عبد الناصر في ستينيات القرن الماضي. ما لم ينتبه إليه البعض في كلمة (زحمة) المصرية عهد ذاك أنها كانت تحمل أكثر من دلالة للداخل والخارج أهمها أن مصر كانت في حالة ازدهار اقتصادي في كافة المجالات تقريبا بعد تحرير مواردها وتأمينها. وأن عملية الاستيراد الخارجي من السيارات المختلفة كانت تسير جنبا إلى جنب مع صناعة السيارات الوطنية عبر ما يسمى بمشاريع (الأوفست- النقل) التي بُدئ بها فأصبحت تُشاهد سيارات ملاكي ماركة (نصر) في الشوارع بأعداد كبيرة يستخدمها مصريون لم يكن أكثرهم قبل الثورة يمتلك القدرة على الشراء. كما زادت في كثافة الازدحام المروري (أتوبيسات) النقل العام التي كانت تربط أطراف مدينة القاهرة المترامية وتشدها إلى حيث حاجة المواطن في الأسواق والأرياف ومحطات القطارات ونقاط المراكب المائية على النيل. عربيا، كان يُنظر إلى تلك (الزحمة) على أنها عامل إعاقة، وأنها لن تصل إلينا يوما، لكنها كانت في جوهرها ضريبة عصرية للازدهار والتنمية. القاهرة اليوم مدينة مزدحمة إلا أن هنالك خطة لبناء قاهرة جديدة بعيدة عن القديمة لكن بروح مختلفة. إن الازدحامات المرورية في كثير من البلدان العربية وعلى رأسها البلدان الخليجية، دخلت الأدبيات الاجتماعية؛ فتجد على سبيل المثال شخصاً تأخر على موعد صديقه أو عمله لا يتردد في أن يضع الازدحام المروري كسبب أول في قائمة أعذاره. وكذلك الأحاديث الاجتماعية لا تخلو من كلمة (زحمة). لقد وقعت عيني على مجموعة قصصية تتحدث عن جسر النهدة، يقع على شارع رابط بين الشارقة ودبي، يصف المؤلف في تلك القصص الكثير من التفاصيل التي يعاني منها يوميا الشخص المستخدم لتلك الطريق الحيوية إلى حد أن صورة الغلاف تبين للرائي كيف أن بإمكان المرء حلاقة ذقنه وتنظيف أسنانه بالفرشاة وحتى تناول إفطاره وهو بعدُ لم يصل إلى مقصده. في دراسة علمية نشرت حديثا كشفت أن ساعة ازدحام واحدة تساوي ثلاث ساعات عمل على جهاز الكمبيوتر من حيث الجهد المبذول جسديا وذهنيا ونفسيا. وهنا على الاقتصاديين ترجمة هذه الفترة الزمنية اليومية إلى أرقام إيرادات مالية ليضعونا في صورة المبالغ الخيالية. ناهيك عما يسببه الازدحام من مشاكل اجتماعية وصحية؛ ففي دراسة صحية أخرى أذاعتها محطة (نور دبي) بيَّنت أن نسبة 20٪ من الأطفال في الإمارات مصابون بالربو نتيجة الازدحامات المرورية. إن مثل هذه الدراسات العلمية الشفافة تحتاجها الدول العصرية ولا بد من تجديدها بين حين وآخر لوضع المسؤول في صورة ما هو قائم. لقد حول الازدحام الناس إلى صنَّاع نكتة فبرعوا فيها كنوع من المقاومة بالضحك ربما لصعوبة البكاء.