لو سألنا أي أحد عن الوضع العالمي الحالي لقلنا إن قوى العنف والردع والاستبداد- في الغالب الأعم- هي التي تحكمه، و يستحيل تغيير هذا الوضع في تقديرنا إلا بعد القضاء على تلك التكتلات التي لا ترى في البشرية سوى هتك نفوسها، عن طريق نظارات الإرهاب بأشكاله المختلفة. فأطوار العنف العالمي عموما لم تنقض بعد، وربما ستزداد يوما بعد يوم، سواء في الشرق أو الغرب؛ سيما بعد بروز تنظيمات إسلامية متطرفة عالمية، غايتها زعزعة محور الأمن داخل بعض البلدان الإسلامية( التطرف من الداخل)؛ كتنظيم داعش الذي برز في الآونة الأخيرة، بعدما حدد منزلته و قوته، بدرجة زرع الخوف في النفوس عمليا. لو أردنا أن نصف قوة داعش اليوم، لقلنا إن هذا التنظيم استطاع بدون مبالغة أن يبين بأنه أقوى من تنظيم القاعدة الذي استهدف العالم الغربي على وجه الخصوص سابقا، وقد نجح إلى حد ما في تحقيق ذلك؛ ولا أحد يشك في هذا الأمر، لأن العمليات الإجرامية التي يرتكبها، و يبثها عبر الفيديوهات لا يمكن تصور فظاعتها؛ فهي مخيفة ووحشية بالطبع، وهذا جزء من الرسالة التي يريد أن يوصلها إلى كل دول العالم، مستندا في ذلك على الآليات والوسائل التكنولوجية الحديثة. هذا ما جعلنا نؤكد بأن تنظيم داعش فائق الخطورة لسببين- يمكن استخلاصهما انطلاقا مما سبق-أولهما: إن هذا التنظيم هو دعوة عالمية، خارقة للحدود تحاول عولمة الإرهاب والتطرف الديني، انطلاقا مما يبثه من صور وأخبار وبيانات، لتحقيق الاستقطاب اللامحدود لأتباعه عالميا، بغية الانضمام إليه، لتشكيل أركان "الدولة الإسلامية"؛ التي ستطبق أحكام الشريعة الإسلامية، بعدما ملئت ظلما وجورا، ولا يمكن تحقيق ذلك حسب ما تبين مؤخرا إلا بعد تنصيب "خليفة للمسلمين"؛ وفقا لتصورات قادة هذا التنظيم. لكن هذه المسؤولية لا يمكن أن يتولاها كما هو واضح أي شخص كيفما كان، لصعوبتها، كما أن "بيعته" ربما ستكون أصعب، إذا كانت قواعد التنظيم تؤمن بالديمقراطية. هذا في حالة الحديث عن "الخلافة الإسلامية" الحقيقية، لكن مادام تنصيب "الخليفة"، وتشكيل "الخلافة" موجه للتنظيم فقط؛ أي لجماعة محددة ذات أهداف غير بعيدة عن إيديولوجيته، فإن "البيعة" كما أرادها هذا التنظيم في نهاية الأمر لن تخرج عن إطار زعماء داعش المعروفين، وهذا ما وقع بالفعل. يبدو أن هذا التنظيم يملك القدرة على بناء إستراتيجياته في التفكير والعمل، فغايته حسب ما تبين ليس تنصيب الخليفة؛ من أجل تسيير أمور المجتمع، ومراعاة مصالحهم، كما هو معتاد داخل أي دولة تراعي مصلحة مواطنيها عموما، بل إن هذا الفعل هو مدخل أساسي من أجل الشروع في "الجهاد"، والاقتتال إن صح التعبير، أو بشكل أدق من أجل ممارسة الأعمال الإجرامية، بعد الطاعة الواجبة لخليفة الإرهاب. و هذا يتنافى مع ما ذهب إليه عامة علماء المسلمين، حين رأوا أن الخلافة هي رياسة عامة في أمور الدين والدنيا، خلافة عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهي تعني إذا القيام على شؤون الحياة عموما، وذلك باستثمار خيراتها اتباعا للمنهج الرباني. لتوضيح ذلك يمكن القول إن الخلافة الإسلامية عبارة عن حكومة الأمة الإسلامية، وهي ولاية ضرورية لإقامة الدولة الإسلامية، وعليه فإن إبراهيم عوض إبراهيم البدري المعروف بأبي بكر البغدادي، والذي أعلن نفسه "خليفة للمسلمين"، سيبقى خليفة لتنظيمه – إذا تم الاحتفاظ بموقعه هذا، في الحاضر والمستقبل-، وبالتالي فهو لا يلزمنا نحن عامة المسلمين، لكن كلامه يعنينا؛ مادام يمس الإنسانية بسوء، بشتى الأساليب التي تبقى في نهاية الأمر، جزء لا يتجزأ من الظاهرة الإرهابية الداعشية. ثانيهما: إن تحركات تنظيم داعش حسب تصورنا مرتبطة بتغيرات تكتيكية، لا يمكن الحسم فيها، بحكم تعقدها؛ فما زال الغموض يكتنف بعض توجهات هذا التنظيم النظرية(الفكرية) منها والتطبيقية( العملية) .وإلى حدود الآن، من الصعب مثلا تحديد الجهات التي تحركه بشكل صريح وواضح، وهل تقتصر أعمال هذه الأخيرة على خدمة أجندة داخلية أم هي مرتبطة بجهات خارجية؟، وكيف تم التخطيط لإخراج هذا المشروع الإرهابي إلى أرض الواقع؟، وما حدود تحركاته على المستوى الفكري و الجغرافي؟، وهل يستطيع هذا التنظيم في الأخير التحكم في المد الإرهابي الداعشي، خارج منطقة الشام والعراق حاليا كما هو متوقع من لدن بعض المتتبعين؟ إذا كانت القوى الغربية تحب دائما أن تتدخل في شؤون الشرق الأوسط، باسم محاربة الإرهاب، فإن داعش ستمنح لها الفرصة لفرض وجودها في هذه المنطقة، وفقا لما جاء في إستراتيجياتها المعلنة مسبقا؛ من أجل تحقيق مصالحها في حالة العزم على التدخل. و اللافت للانتباه أن هذا السيناريو يعيد إلى أذهاننا القرار الذي اتخذه الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، والذي يدعو إلى تفتيت دولة العراق وتحويلها إلى خراب عمليا . لكن هذا السيناريو لن يعيد نفسه، بحكم أن أمريكا الآن تحب أن تلعب دور المتفرج في ظل الفتن التي ترعاها بعض دول الربيع الديمقراطي . أما تدخلها في حالة الإعلان عن ذلك، فلن يتم بشكل مباشر، لأن "الخلافة "التي نحن بصدد الحديث عنها هي أم الأكاذيب في تاريخ الإرهاب المعاصر. كما أن القوى الخارجية في تقديرنا لن تمنح سوى الدعم بأشكاله المختلفة لحلفائها الذين يلعبون دور المستشارين، والعاملين وفقا لتوجهاتها، بغية تحقيق مجمل المصالح المشتركة، ولن يتم ذلك إلا بعد الخضوع لتعليمات أمريكا التي تبقى صاحبة القرار الأخير؛ لأنها المالكة للشرعية الدولية لمن يبحث عن ذلك. لنعد قليلا إلى الوراء، لنؤكد أن داعش كيفما كان وضعها الحالي أو المستقبلي، ستبقى رغم قوتها مجرد فصل تاريخي من فصول تاريخ الإرهاب العالمي المعاصر الذي انطلق من العراق والشام؛ وبحكم تأثر بعض القوى الإرهابية بهذا التنظيم، فقد بات واضحا أن الخطورة ستزداد على بعض الدول، لأنه يكفي أن تعلن أي جماعة كيفما كانت، وكيفما كان موطنها، الولاء لخليفة هذا التنظيم، بشكل مباشر أو غير مباشر، لكي تشرع في أعمالها الإرهابية. في ظل هذا الوضع فإن الخليفة المزعوم لن يستطيع التحكم في الأحداث التي ستحسب عليه، بحكم شساعة أرجاء العالم الإسلامي من جهة، ووجود قوى غربية تستطيع أن تطوي هذا الملف عبر تدخلاتها، من أجل الحفاظ على الأمن الضامن لمصالحها من جهة أخرى؛ وإن كان صعبا، لأن التاريخ أثبت أن القضاء على العنف بالعنف يغدو في حالات عديدة مستحيلا لأنه لا يولد سوى ما يسمى بالعنف المضاد. لقد فرضت داعش وجودها إعلاميا، ولم يعد سرا أنها نجحت- إضافة إلى الملف الفلسطيني مؤخرا- في حجب الملف السوري والعراقي و مستجداتهما، وبالرغم من أن داعش لن تحتفظ بدرجة القوة الإجرامية التي برزت بها، إلا أن سفراء هذا التنظيم الإرهابي هم الذين سيؤسسون لمرحلة أخرى، في حالة تمكنهم من تشكيل أقطاب لهم في كل بقاع الأرض، لأن المسألة مرتبطة بعولمة الإرهاب، كما أسلفنا الذكر. إن ما حاولنا بيانه أعلاه، هو محاولة لفهم ما يميز تنظيم داعش الذي ظهر مؤخرا، في أرض الشام والعراق، وأيا كانت تهديداته لدول الجوار، وبعض الدول التي تستقطب منها أتباعه، فإن بعض توجهات هاته التهديدات مرتبطة بمحاولة استقطاب الجماعات الإرهابية الأخرى التي لا تملك القدرة على العبور إلى أرض الشام والعراق، والتي تؤمن بمنطلقات هذا التنظيم، وأفكاره الإجرامية لتحقيق النفير الداعشي، مما سيشكل بلا ريب خطورة على المسألة الأمنية في بعض دول العالم الإسلامي التي دقت مؤخرا ناقوس الخطر؛ بمجرد الاستماع إلى الرسائل الإرهابية الموجهة إليها، وهي الآن بصدد البحث عن الممانعة الداعشية، حتى لا تؤول الأمور إلى ما لا تحمد عقباه، وهذا بطبيعة الحال سيكلف الدول المهددة، أخذ الحيطة من العمليات الإرهابية الداعشية أكثر فأكثر على مستويات عدة. في هذا السياق، ظهرت مؤخرا تنسيقات استخبارية محكمة بين المغرب و عدد من بلدان العالم العربي- الإسلامي المعنية بهذا الأمر، تحسبا لما يمكن أن تؤدي إليه تحركات هذا التنظيم الإرهابية، خاصة بعدما أعلن وزير الداخلية المغربي عن وجود ما بين 1500 و2000 مغربي ينتمون إلى داعش، وبعضهم يشغلون مناصب قيادية في التنظيم. وبعدما أعلن أيضا حماده ولد محمد الخيري"أبو القعقاع" الموريطاني زعيم حركة التوحيد والجهاد في مالي بيعته لزعيم داعش. ما طرحناه سابقا يدفعنا مباشرة إلى القول بأن الإرهاب الذي يريده تنظيم داعش لا يمكن أن يكون محصورا، فتحده حدود جغرافية(العراق والشام)، لذلك اختار زعيمه أن يتحدث بآسم الخلافة الإسلامية المزعومة التي لا تعترف بالحدود التي رسمها الاستعمار، وفقا لاتفاقية سايكس بيكو(1916م)، و يوضح ذلك أن الإرهاب الداعشي يستند إلى أحلام المجتمع الإسلامي، المرتبطة بالحقائق التاريخية بشكل تمويهي صرف، لاستقطاب المزيد من ذوي القلوب المطمئنة بالعمل الإرهابي عالميا، وتشييد صفحات إرهابية بطعم التطرف الديني، في زمن تحولات الربيع الديمقراطي التي يصعب التحكم فيها، لأن الديمقراطية والإرهاب لا يجتمعان أبدا. هذه القاعدة هي التي تؤكد حقيقة أن زرع الإرهاب الداعشي بلا حدود، هو نوع من أصناف تكبيل الديمقراطية، و تشكيل دويلات متناحرة، وهذا ما تسعى إلى تحقيقه الإستراتيجية الغربية في العالم الإسلامي التي تأخذ بعين الاعتبار أن الوحدة الإسلامية تعني نهاية الغرب وإسرائيل، لهذا من الطبيعي أن تشجع كل العمليات الإرهابية التي تشنها داعش بلا حدود، ومن اللازم علينا في هذا المقام، أن ندعو الجميع إلى وضع حد لها، يكون بمثابة نهايتها، لينتهي الحديث عنها عاجلا، وتتبين في نفس الوقت الجهات المحركة لها، ليس من أجل معرفتها فحسب؛ بل من أجل تحقيق اليقظة(الأمنية و السياسيية..) التي تتأسس عليها أي محاولة لتشييد معالم البناء الديمقراطي المعاصر. و في غضون هذه الأيام المباركة من شهر رمضان نسأل الله عز وجل أن يجنب بلادنا خاصة، وسائر بلاد المسلمين عامة كل الفتن، ومصائب داعش ما ظهر منها وما بطن.