دخله غليظا سمينا فازداد لحمه و شحمه و كثر المتزلفون من أتباعه، أينما قال لهم توجهوا ولوا وجوههم و ساروا، يسمعون دوما لما يقوله، و ما لم يقله بلسانه لمح إليه برصاصات عينيه، نعم يسمعون لكل شيء صدر منه سوى صوت منطق هادئ تنادي به بواطن عقولهم... قالوا له يوما: اسمع، و الله ولو اقتدتنا إلى الجحيم لتبعناك، و لو اشتهيت حتى دم أحدنا فلك كل دمائنا لتروي عطشك، نحن خلفك و تحتك دسنا بقدمك إن شئت فلن نحرك شفة، لن نتذمر يوما مما تأمرنا به... بادر إلى توسيع إمبراطوريتك الحزبية و نحن وراءك لتمطيطها و ابتلاع من سولت لهم أنفسهم مضاهاة جبروتك، أغدق طائل الأموال على الحيوانات الآدمية لتضمن تبعيتها لك... تحدثوا كثيرا فأجابهم بعدما استنفذوا كلماتهم، اسمعوا أيها المناضلون الأشاوس: لقد ولدتني أمي لأمسك بمقاليد السلطة و أحيا بعبقها، نعم أريد أن أتنفس على إيقاعها، إذا شهقت: سلطة، و إذا زفرت: سلطة، أريد أن أموت في عقر الحزب أو تحت القبة العجيبة شهيدا على خدمة بلدي... خذوا مني هذا الدرس البليغ و علموه لأبنائكم: لا تتخلقوا في السياسة، "تهتلروا" في دواخلكم و لا تصغوا إلى ضمائركم، بل اصغوا إلى عمق شهواتكم، كونوا وحوشا داخلكم و أظهروا مواصفات الملائكة على محياكم...اعملوا ما استطعتم و ما لم تستطيعوا لتأبيد وجودي على منصة المؤتمرات الوهمية... شارك التمساح في الانتخابات... سرعان ما تربع على مقعد السلطة، لكن بعد عام هب إعصار من جهة مجهولة وجاءت نار أحرقت النبتة و جذرها، و برمشة العين تلقفته أسنان الثورة الجائعة و لفظته معدتها و انحشر في دهاليز أمعائها و هضمته شر هضم و خرج في فضلاتها مسحوقا كبرادة الحديد... بعد ثلاثين سنة... صار عنوان أحد دروس التاريخ في المدارس " تمساح في الحزب"... كلمة خالدة أطلق كلمة حق مدوية تزعزعت لها البلاد و اهتزت لها مسامع العباد...عبر الجميع عن بالغ سخطهم منه و منها، لكن الكثير منهم استشعروا في أعماقهم صدقها... لم تمر سوى أيام قليلة حتى صوب معتوه رصاصة نحو رأسه أضافته لرصيد المقابر... أشاد الجميع بهذا العمل الشجاع و صفقوا له في الميادين كأن لسان حالهم للفاعل قال: "لقد أخرست الأهبل للأبد يا بطل"... تتابعت السنين فأبت الكلمة الا ان تبقى حية في الضمائر و القلوب، بل اليوم صارت منقوشة بالذهب في كل مداخل الجامعات و ظل رجال العلم و السياسة يستشهدون بها في المؤتمرات و الندوات... مراهقة شيخ حدق أحد البالغين من العمر عتيا في بنت حواء فادحة الجمال حتى انه كاد يأكلها بعينيه، تتبع حركات غنجها مذ ولجت قاعة الانتظار حتى قعدت متمنيا لو أبدل زوجته الشمطاء بهذا الملاك الساحر، عرف أن أيامه قد ولت بعد أن لم تسلم شعيرة من رأسه من زحف المشيب و أيقن أن الظفر بالفتاة هو عين المحال إن لم يكن من سابع المستعصيات، عادت عيناه من سفرهما الممتع واضعتين حقائب الخيبة أمامه، حملق في أرجاء القاعة فلم يجد أمامه إلا شابا يافعا بين الحضور كان الوحيد الذي يناسب عمر الفتاة، أرسل إليه ابتسامة سرعان ما فهم الشاب مغزاها قائلا في نفسه: لسان حال هذا الشيخ يقول: " امممممممم لقد فقدت أضراسي و صدأت أنيابي فأوكل لك أن تفعل ما أنا فاعل لو كنت في مثل سنك، آه آه آه لو كنت في مثل سنك، سأهشمها أيما تهشيم..." فشل بيداغوجي أصاب الملل مجموعة من الطلاب من فرط ما لاقوه من مدرس كان يغرق حصصهم بدروس مبيدة للعقول تضجر لها حتى الطاولات، غير أن الأمر الكبير الذي أثار حفيظتهم و أرق مضجعهم هو سلوك نمطي دأب المدرس عليه منذ اليوم الذي سلط عليهم ، فلا تمضي حصة دون أن ينعتهم بالأحجار المتصلبة بعد أن فشل فشلا ذريعا في التجاوب معهم. ذات يوم و هو والج فصله بعد انتظار طويل لمجيئهم، فوجئ بالحالة التي أصبحت عليها قاعة الدرس، فقد جثمت على كل مقعد من مقاعد الطلاب صخرة كبيرة، سرحت عيناه في أرجاء المكان و هو يفكر في الفاعل، استدار نحو السبورة فألفى جملة مكتوبة بخط عريض : " إذا كنا حجارة فلا داعي لحضورنا " تلقى الرسالة كصعقة البرق، فقال في نفسه مستشعرا أفاعيله : " كان حريا بهم وضع صخرة في مقعدي ".