بما أننا بصدد دراسة حدث واقعي، كما ستتضح ملامحه فيما بعد، فلا بأس من التذكير هنا - تمهيدا لما أردنا الوصول إليه في النهاية بعد الوقوف على جملة من الحقائق - بأننا غالبا ما نربط مسألة حقوق الإنسان بمعظم الشؤون المتعددة والمتنوعة، التي اعتدنا على مناقشها ودراستها؛ فهي كما يبدو لنا من أكثر القضايا ذيوعا ورواجا في واقعنا المغربي المعاصر أكثر من أي وقت مضى. وإذ نعترف مع غيرنا بمجمل بنود حقوق الإنسان السامية، ما دامت غاياتها العظمى خادمة للمصالح الإنسانية الكبرى بدون تحيز، فإن خرق بعض صورها، بوعي أو بدون وعي، كما يتجلى ذلك في حياتنا اليومية، من المظاهر التي ألفنا معاينتها، ومكاشفتها بدرجات متفاوتة، وعليه فإننا "لا نناقش موضوعا هينا، إننا نناقش كيف ينبغي أن يعيش الإنسان " كما يرى أفلاطون . حسبنا أن نشير هنا، إلى أن الانتهاكات المتكررة لحقوق الإنسان، لاسيما في أغلب المناطق المهمشة المغربية تجعلنا في حسرة، لمعارضتها لهدفنا؛ الذي يرمي أساسا إلى بناء الإنسان الفاعل اجتماعيا، والمستوفي بطبيعة الحال لجل شروط العيش الكريم المحققة لكرامته عمليا . بوسعنا أن نزعم إذا بأن الاعتقال السياسي، أو التعسفي، أو الاعتداء بشكل مباشر أو غير مباشر عموما،لا يحق أن يكون في تقديري سببا لإثارة مثل هذه الحقوق، والدفاع عنها في نفس الوقت فحسب، مادام الاعتقال في عمقه، وبدون مبالغة سمة من سمات الإنسان المقهور، في ظل الأزمة المتفق على شموليتها وحدتها . ففي ظل هذه الأزمة المتشابكة أبعادها، تظهر الحقائق، وتنهار الأكاذيب؛ التي يرفضها الواقع بدون مجازفة. ومن ثم فلا ننكر أن هناك شريحة عريضة من أبناء هذا الوطن محرومة من كل شيء، بمعنى لا وجود لها في الحياة التي نحياها ، ولا تذكر إلا لغاية في نفس يعقوب، على لسان بعض الذين يدّعون رسم طريق الخلاص لها، دون الوفاء بما قطعوا على أنفسهم . ففي مدينة الريش، ذات مؤشرات غياب التنمية، حيرني أمران في واقعة المتشرد؛ الذي اتخذ بئرا بداخل مقبرة مسكنا له، فلم يكلف نفسه عناء أخذ الإذن، من الجهات الرسمية المسؤولة عن حراسة المقبرة، لاتخاذ هذا القرار . إنها فاجعة أخرى - وغيرها كثر- تحتاج إلى قراءات متعددة في ظل المتغيرات التي يعرفها بلدنا، خاصة منذ بزوغ الدستور الجديد؛ الذي يحتاج إلى التنزيل والعمل بما جاء به لتحقيق الديمقراطية؛ المؤدية إلى تشييد أسس بناء العدالة الاجتماعية . الأمر الأول: وتوافق مقتضياته المتشعبة التساؤل الآتي : كيف يمكن أن نحقق التنمية البشرية التي تعتبر الإنسان محورا لها في ظل تشرده وغياب مقومات الحديث عنه ؟ ربما يكفي الجواب على هذا التساؤل، في نظري قول عامة المغاربة الثابت - عادة أثناء حديثهم عن بعض صور غياب التنمية في بلدنا، ولا داعي لتعدادها ربما لاستحالة القيام بهذا الأمر - " إذا كنت في المغرب فلا تستغرب" . فهذا القول المشهور لا يحتاج إلى بيان، فقد أضحى من المسلمات، وشرحه من المفضحات، إذا جاز لنا هذا الوصف. إضافة إلى ذكر العبارتين الشائعتين "المغرب النافع" و "المغرب غير النافع"، رغم أن البعض من مخططي برامجنا التنموية - التي تعد جزء لا يتجزأ من الظاهرة الكلامية في شموليتها - يبذلون جهدا كبيرا لفصل المقال فيما بين" المغرب النافع" و "المغرب غير النافع"، عن طريق دراساتهم المضللة والمتشدقة و المؤسسة على البيانات والإحصاءات والأرقام والسيناريوهات المتنوعة، لكن هذه المحاولات كما تبين لنا باءت بالفشل، لسبب بسيط يرجع أساسا إلى انعدام الإرادة الحقيقية، وغياب العمل المرافق لها . مادام الأمر كذلك، فلا يمكن الحديث عن النوايا، لأنها مجرد شعور باطني، ولا تفيدنا بأي شيء، فهي لاشيء ما لم تتحول إلى عمل وإنجاز ينفعنا؛ لإزالة كل الظنون، التي سئمنا منها، والمتعبة لعقولنا وتفكيرنا العميق بدون جدوى، للبحث عن مخرج نطل من خلاله على الحياة السعيدة، التي استحوذت على مجمل أحلامنا منذ نشأتها إلى حدود الآن . الظاهر أن اتخاذ هذا المتشرد المغربي المقبرة عنوانا له، ليس عيبا إذا كان ميتا، فمن حقه فعل ذلك، ومن واجبنا تحقيق مبتغاه. أما إذا كان حيا يرزق فتلك مصيبة، لأن حالته هاته مرفوضة لدى الموتى؛ الذين لا يقبلون الانزعاج والصخب والحركة، ما دامت حالتهم الطبيعية ينتابها السكون والهدوء، إنه عالم البرزخ المستور؛ البعيد كل البعد عن عالم الحياة الدنيوية المليء بالمتشردين . لا علم لي لحد الآن الأسباب الحقيقية، التي دفعت هذا المتشرد لاختيار المقبرة مسكنا له، كما أنني لا أعلم إن كان بكامل قواه العقلية، التي أتمنى أن تتحقق فيه، لأن ذلك يشكل خطرا على نفسه؛ حيث قربه من البئر إذا كان راقدا بالليل، أو ساهيا بالنهار من جهة، وقربه من جثث المقابر؛ التي تثير الرعب في كل لحظة تأمل، إن بقي في جعبته إحساس من جهة أخرى. ولا أعلم أيضا كيف استقبل شهر الصيام، وما نظرته إليه ؟ الملاحظ أن الإنسان المقهور يفعل أشياء غريبة، لاسيما عند انعدام الجهات المسؤولة عنه، لذلك نجده يصنع عالما خاصا به، ويتخذ معايير ذاتية حكما، تدور في فلك مخيلته، كما يتخذ العزلة ملاذا، حتى لا يحس بالمجتمع المحيط به، الذي تركه ونفى وجوده بعد نسيانه في اعتقاده. وعليه، فإن معرفة ما مدى هشاشة وضع هذا المتشرد بشتى المقاييس، وما يمكن فعله لإنقاذه من هذه الحياة المأساوية، لا يتأتى في نظرنا، إلا بعد الوقوف على حقائق، تفيدنا بدرجة هشاشة بنية المواطن المغربي المنسي عموما . فمن خلال تقرير أممي – أشرنا إليه في بعض كتاباتنا المتواضعة - تبين أن ربع سكان المغرب يعانون من الفقر المدقع، المؤدي إلى الهم والغم ، أي ما يعادل 8.5 ملايين شخص، وربما في تقديري أكثر من ذلك، بحكم أن جل الإحصائيات في بلدنا نسبية، و لا تعبر عن الحقيقة المطلوبة، كما أن أكثر من ثلثي المغاربة يعيشون في العالم القروي. وهذا الرقم المهول الذي بلغه الفقر في وطننا، يجعلنا طبعا نعظ على أيدينا، لاسيما إذا علمنا أن المغرب يتوفر على أكثر من 20 ألف من كبار الموظفين، تفوق رواتبهم راتب رئيس الحكومة المغربية، كما أن هناك مدراء يتقاضون أجورا خيالية، لا تعد ولا تحصى، إضافة إلى الثروات الطبيعية، التي تزخر بها بلادنا، والتي تستحوذ عليها فئة، لا يعلم أسرارها سوى الله، الذي لا تغيب عنه مثقال ذرة . هذه الحقائق الثابتة تجعلنا نتساءل، لم لا تتنازل طبقة الأغنياء في وطننا على جزء من ثرواتهم الهائلة، ومبالغهم المالية الضخمة لصالح طبقة الفقراء والمتشردين دون أن نلزمها بتحديد نسبة التطوع حتى نكرس هذا المبدأ المبني على القناعات ؟. لنبدأ أولا، وبدون أدنى حرج، بتوجيه هذه الدعوة إلى الرجل الأغنى في المغرب عثمان بن جلون؛ والذي تقدر ثروته ب3.1 مليارات دولار، وإلى ثاني أغنياء المغرب ميلود الشعبي؛ الذي تقدر ثروته ب2.3مليار دولار، وإلى ثالث أثرياء المغرب أنس الصفريوي؛ مالك مجموعة الضحى وصاحب الشركة الوحيدة، التي تستغل الغاسول؛ والذي تقدر ثروته ب1.3مليارات دولار، حسب ما ذكرته مجلة فوربس الأمريكية. هذا، ولا يفوتنا في هذا السياق أن نذكر أيضا وزير الفلاحة والصيد البحري عزيز أخنوش، الذي يصنف أيضا في قائمة الأثرياء، و الثرية رئيسة الاتحاد العام لمقاولات المغرب مريم بنصالح، سيدة المياه المعدنية سيدي اعلي و أولماس، ومالكة حصة كبيرة من سوق الشاي في المغرب، فلو أسهمت مثلا هذه السيدة المغربية بما تنفقه على عطورها الغالية؛ التي تعد من منتجات شانيل، وملابسها من نوع شارل لورون، وأحذيتها من صنف ستوديو 14 لما نقص عدد المشردين في بلادنا، ولما كان حظ المتشرد بالريش، أن يتخذ المقبرة مسكنا له، لو اتفق أغنياؤنا على محاربة هشاشة مجتمعنا المغربي . أصبت بفرحة عارمة لا تتصور، عندما علمت أن بعض الأغنياء يفكرون في أوضاع الفقراء عموما، لكنني صدمت عندما عرفت أن فقراءنا غير معنيين بهذا الأمر، في بعض الحالات المهمة، فالملياردير كريم التازي، المدير العام لشركة ريشبوند، قام برحلتين من المحمدية إلى الساحل الأمريكي، على متن مركب شراعي، لمحاربة الإقصاء والتهميش، وتوفير الغذاء للمهمشين، واستغرق في رحلة له، مدة ستة وعشرين يوما، من أجل دعم "البنك الغذائي للتنمية" الذي أسسه، فلم يفكر هذا الملياردير المغربي المغامر، في دعم المناطق المهمشة المغربية، حسب طاقته قبل الانتقال إلى الخارج. فالمبادرة الوطنية تستحق أن تكون هي الأولى، نظرا للحاجة الماسة إليها في ظل غياب مثيلاتها، و لم لا تخصص طبقة الأغنياء في بلادنا جزء من مداخلها لصالح الفقراء والبؤساء، كما فعل الرئيس الأمريكي أوباما، حيث تنازل عن 5 في المائة من أجره، لكي يحس الفقراء بأن الأغنياء بجانبهم في السراء والضراء؟ . وهذا ما نفتقده في بلدنا المسلم، الذي لا تغيب عن أفراده أسرار فريضة الزكاة، وأهمية الإنفاق والتكافل الاجتماعي في تحقيق الأمن الاقتصادي والاجتماعي و النفسي والصحي.... لذلك لا يمكن للمناطق المهمشة أن تعرف نقلة نوعية، والمضي قدما إلى الأمام دون التفكير والعمل على خلق مشاريع حقيقية على أرض الواقع، وهذا ما سيحرك عجلة التنمية من دون شك، بدء ببزوغ الاستثمارات المتعددة، التي ستؤثر بطبيعة الحال، على نسبة الفقر تأثيرا إيجابيا، عن طريق إيجاد فرص الشغل . فبالرغم من وجود الفقر في كل المناطق المغربية، إلا أن نسبها مرتفعة جدا في بعض المناطق خاصة النائية، التي لا نصيب لها من شعار التنمية في محتوى مخططات الدولة وتحركاتها، سيرا على نهج ما رسمته الحماية الفرنسية. وهذه حقيقة لا يمكن أن ننكرها شئنا أم أبينا، لذلك فمن بين الأسئلة المشروعة، التي تفرض نفسها علينا في هذا السياق، متى ستنعم هذه المناطق المنسية بمثل المبالغ الهائلة التي تخصصها الدولة لإنجاز الأوراش الكبرى في المدن الحضرية الكبرى ؟ إذا علمنا أن بناء أول جسر معلق من نوعه في المغرب كلف ما يناهز 700مليون درهم، ويبلغ طوله 950 مترا، وارتفاع أعمدة برجيه يبلغ 200 متر،في حين تبلغ الكلفة الإجمالية لأشغال بناء الطريق السيار المداري الرباط – سلا 2800 مليون درهم، فإننا لا نطالب بإنجاز مثل هذه المشاريع الكبرى في المناطق المهمشة، بل إنجاز مشاريع توافق حركتها، اللهم إذا كانت ضرورية مثل بناء القناطر والمدارس والمستشفيات... . هذا ما يدفعنا من جديد إلى الدعوة و النداء لإصلاح طريق تيشكا – على سبيل المثال لا الحصر - وغيرها من الطرق، التي تهدد حياة المواطنين. فبسبب الاكتظاظ، الذي تعرفه مدينة الرباط، أنجز المشروع السالف الذكر، وبغية ربح الوقت وتسريع وتيرة العلاقات الاقتصادية والمالية غير المحدودة، تم التفكير في القطارات السريعة " تي جي في "، التي كلفت الدولة عموما مبالغ مالية ضخمة يصعب تحديدها، رغم التصريح بما شابهها، مادام المشروع لم يكتمل بعد، ولإكمال جمالية العاصمة الاقتصادية للمملكة تم ترميم وإصلاح الساعة المتواجدة ب "ساحة الحمام"، بعد عشر سنوات من التوقف بما يناهز 270 مليون درهم، ولتشجيع الغناء على الصعيد العالمي ونشر الفضائح باسم الفن بالملايير علانية للعالم، تم نصب منصات موازين في كل جهات مدينة الرباط بينما تم إغفال طريق تيشكا كما أوردنا، الذي يحصد أرواح المواطنين بلا حدود. فمن الأولى هل ربح الوقت والمال وتحسين جمالية المدن وتبذير الأموال أم إنقاذ الأرواح وربحها ؟ ربما تكون الأرواح، التي تمر من طريق تيشكا لا ينطبق عليها من أحيا نفسا واحدة فكأنما أحيا الناس جميعا ؟ فلم الاستخفاف حتى بالأرواح التي تمر بالمناطق المهمشة ، وأي حكم هذا في ظل غياب تكافؤ الفرص بين قناطرنا وشوارعنا وأزقتنا ومستشفياتنا و مدارسنا ومؤسساتنا الوطنية دون نسيان طاقاتنا البشرية ؟. نحن إذن بحاجة ماسة إلى ما يسمى بفقه الأولويات في سياستنا، حتى لا نمشي مشي السلحفاة، في عصر يتسم بالسرعة الفائقة، فتغدو خطواتنا مسخرة، و أضحوكة أمام العالم برمته، أحب من أحب وكره من كره، وهذا ما يستشف مثلا كلما طرح ملف طريق تيشكا على طاولة المناقشة، فلم لا يتم إصلاحه؟ وكيف تهرب دولتنا من هذا الأمر بدعوى الحاجة إلى التكلفة المالية؟ أم أن أموالنا حلال على "تي جي في" والمهرجانات والمواسم التافهة التي لا تسمن ولا تغني من جوع وحرام على معبر تيشكا المخيف؟. اسمحوا لي ربما أراد معظم صانعي القرار في بلادنا أن نعتبر طريق تيشكا وما يماثله قضاء وقدرا ! . من هذا كله يظهر أن تحقيق التنمية في المناطق المنسية ضرورية، لإنقاذ كل المواطنين، الذين نسيتهم البرامج التنموية، لكي يتمكنوا من تحقيق العيش الكريم؛ بحيث لا يتخذوا المقابر أو المراحيض أو الأضرحة مسكنا لهم، ولا تصير قمامات الأغنياء مطعما لهم، كما هو ملاحظ على أرض واقعنا. وعليه فمن غير المعقول إذن أن نذكر مثل هذه الحقائق، التي تعرقل مسيرتنا التنموية، التي نريد أن تتخذها باقي الدول الأخرى نموذجا يحتذى بها !. الأمر الثاني : ويتجلى في موقع المجتمع المدني ، وأهميته في الدفاع عن المتشرد، ورفع المطالب الحقيقية - لتحقيق التنمية في المناطق المهمشة – إلى الجهات المسؤولة . لا نغالي إذا قلنا، إن إجماعا يكاد ينعقد على أن المجتمع المدني يشكل قوة حقيقية، تسعى إلى إحداث التغيير الإيجابي، في شتى شؤون المجتمع، ولن يتحقق ذلك في نظرنا إلا بعد إرساء أفراد المجتمع المدني لمعالم الوعي، المقرونة بالاعتراف بالذات غير المنفصلة تماما عن الواقع أولا، قبل الانتقال إلى المطالبة بحقوقه المشروعة والعادلة؛ التي تبقى بين أيديه، مادام قد ربط نفسه بقراراته المسطرة سابقا قبل الإعلان عنها، والتصريح بها سواء أمام الملأ، أو أمام الدولة ومؤسساتها، شريطة أن تكون معقولة، وأن لا تخرج عن دائرة المصلحة العامة، التي تبقى حكما لا يمكن الاستغناء عنه، في كل تصرفات وسلوكيات عامة المواطنين بدون استثناء، وهذا هو المحور الذي تدور عليه فكرة حقوق الإنسان، المؤدية إلى خلق المجتمع الديمقراطي الأصيل . نحن في كل الأحوال بحاجة إلى المجتمع المدني، مادامت غاياته نبيلة ومعقولة، لذلك فغيابه - الذي لا يمكن تصوره – عن واقعنا يعد خسارة؛ إذ المجتمع المدني كما تبين لنا هو القاعدة المثلى لوجود الدولة، رغم الصراع المفتعل بينهما في بعض الحالات. وعليه، فانهياره يدل على زوال الدولة عمليا، حيث فقدان الفاعلية، وغياب الحركة التي يحدثها من داخلها، والمؤدية إلى تدبير الشأن العام، بشكل يستجيب لكل متطلبات أي مرحلة تاريخية، بمختلف ظروفها وملابساتها. فالإعلان إذن عن تدهور المجتمع المدني، أو محاولة اغتياله بأي شكل من الأشكال، هو في حد ذاته دليل قاطع على نهاية الدولة، وتمزق كيانها من الداخل، لأنه مصدر جميع السلطات، وهذا ما لم تستوعبه بعد معظم أجهزة الدولة، التي تسعى إلى تدمير أبناءها يوما بعد يوم، ثم تحاول مصالحتهم في اليوم التالي، ناسية ما فعلت بهم بالأمس القريب . فلولا المجتمع المدني لما شهد مغربنا المعاصر هذا المشهد السياسي المتحرك؛ بدء بوضع دستور جديد يستجيب لمبادئ الديمقراطية. و لولاه أيضا لما شهدنا صعود حزب العدالة والتنمية الإسلامي، ورئاسته للائتلاف الحكومي الحالي. ولولاه قبل هذا وذاك لما شهدنا تحركات حركة 20 فبراير، وشعاراتها المعبرة عن همومها، فهي الصوت الحقيقي والتاريخي لأفراد المجتمع المدني المغربي في ظل الربيع الديمقراطي . فالمجتمع المدني الحركي إذن يعبر أساسا عن يقظة أفراد المجتمع المغربي في ربوع بلاده، ويتحمل مسؤولية عظمى في الدفاع عن حقوق المواطنين المغلوب على أمرهم، والمشاركة في كل الخطوات؛ التي من شأنها تحسين أوضاعهم . من هنا نتساءل : كيف سيكون رد فعل المجتمع المدني المحلي بمدينة الريش تجاه وضع المتشرد - السالف الذكر-؟ فهل سينقلب رأسا على عقب من أجل الدفاع عنه، أم سيتباهى بهذه الواقعة ؟ أم أن مصير هذا المتشرد سينتهي بالنسيان مثلما نسيته الجهات الرسمية المسؤولة ؟ . كل الاحتمالات واردة، كما أن جل الحقائق السالفة الذكر لا تحتاج إلى مزيد من التوضيح، بل تقودنا إلى البحث عن البرامج التي سطرتها الجهات المسؤولة في بلادنا لمحاربة الفقر والهشاشة، حتى نتخلص من نسبة الهوة الفارقة بين الأغنياء والفقراء؛ الذين يجدون راحتهم ومستقبلهم بشتى صوره، بجوار القبور المخيفة، والعيش مع الجثث الهامدة قبل الممات، منتظرين بشغف الصندوق السحري " صندوق المقاصة" "مفتاح الخير" - كما يرى بعض المحتاجين - ،الذي سيقدم لهم الدعم المباشر، مثل دولة البرازيل، بناء على ما وعدتهم به حكومة بن كيران؛ والذي يقدر ب 1000درهم . ربما طال الانتظار الممل والمقيت، واستفحل الوضع المزري المتشائم، بعد أن دق ناقوس الخطر، لكن لا حياة لمن تنادي، لاسيما وأن الفقراء في هذا الشهر المبارك في أمس الحاجة إلى المساعدات التي ستقدمها لهم حكومتنا، لكن هذه الأخيرة حسب ما تبين مشغولة بأمورها الداخلية في ظل الأزمة الداخلية المربكة لتحركاتها، ناسية أن الوقت يمر بسرعة و الشعب ينتظر بشغف وألم!، رغم اعتراف بن كيران - أمام القادة الأوربيين في المنتدى العالمي الأول للديمقراطية بمجلس أوروبا بستراسبورغ شمال فرنسا السنة الماضية - بأن نتيجة الهوة الواسعة بين الفقراء والأغنياء هو الانفجار الاجتماعي في بلدان جنوب المتوسط، التي ينتمي المغرب إليها. ناسيا أن الرأي لا يجدي إلا مقرونا بالعمل، والعمل لا ينفع إلا منبعثا عن الرأي كما قال محمد عبده. والحق أن بن كيران رفع الراية البيضاء أمام التماسيح والعفاريت، واختار بعد نكسته الثابتة أمام الفساد عامة، نهج سياسة كم من حاجة قضيناها بتركها! . صندوق المقاصة في اعتقادنا مدخل حقيقي للتكافل الاجتماعي، إضافة إلى صندوق الزكاة الغائب عن واقعنا؛ فلو أخرج أغنياؤنا من ثرواتهم المالية 2.5٪ لما بقي في بلدنا فقير، فهذه نسبة كفيلة لتحقيق التكافل الاجتماعي و إشاعته. فعلا إن ما يدعو إلى الدهشة بعد استقرائنا لواقع صندوق المقاصة هو أن الفئة الغالبة، التي تستفيد منه، هي فئة الأغنياء والميسورين وشركاتهم - مثل لاسمير، التابعة لمؤسسة كورال السعودية، و كوكا كولا- بنسبة 80 في المائة مقابل 20 في المائة للفقراء فقط، وهذا ما يبين أن هذا الصندوق لن يزيد الفقراء إلا فقرا وغرقا في المستقبل. إنها الليبرالية المغربية المتوحشة، الساحقة للأخضر واليابس، المفعمة بالأنانية المجنونة؛ التي لا تعترف إلا بمن سار على دربها، أو اتخذ قواعدها سبيلا . بعد هذا كله، فمن اللازم تحديد كل الفئات التي ستستفيد من صندوق المقاصة بتدقيق، حتى لا نقع في عالم الفتنة ، ونحصد مختلف الأشواك التي لم نتفق على زراعتها بعد جهد كبير، ويبقى الرثاء والعويل آخر شيء نودع به صندوق بلادنا من جديد، وهذا ما نخشاه وما نتصوره حاليا في نفس الوقت، مع تمنياتنا أن تصل كل الحقوق إلى ذويهم بدون استثناء !. على كل حال، فإن تبعات هذه القضية، سيطغى عليها سياسة المد والجزر في كل حين، لصعوبة تفكيك أمورها المتشابكة. وهذا ما يستدعي التريث والتدبير الصحيح، قبل البدء في عملية التوزيع أو الإعلان عن الصيغة النهائية لكل حيثياتها بشكل واضح . قد يقول قائل: إن بعض المناطق التي همشتها الدولة، لو استغلت ما تزخر بها من الثروات لحققت التنمية. وهذا الأمر صحيح لأن هذه المعادلة علمية كما يقول المناطقة، ولا تستدعي طرح أي استفسار أو نقاش، بل تقتضي الجمع بين الإرادة والعمل؛ لكي تنطلق منهما قوى المجتمع المدني، القادرة على رسم معالم كل الخطوات، للوصول إلى هذا الهدف العادل . ما يجب أن ندركه في هذا السياق هو أننا لسنا بحاجة إلى التأكيد مرة أخرى على أهمية المجتمع المدني في الدفاع عن حقوق الإنسان عامة، وحقوق المتشردين في المناطق المنسية خاصة، من أجل تحقيق ديمقراطية حقة ذات مبادئ إنسانية، كما حددها توماس جيفرسون (1743- 1826م)؛ - أول من صاغ مبادئ الديمقراطية في عبارات إنسانية، حيث يرى أن كل حقوق الإنسان مقدسة، لذلك لا يجوز المساس بها - وهذا ما تقرر أيضا في تعاليم ديننا الإسلامي الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة منذ قرون . حقا، لسنا بحاجة أيضا إلى التأكيد على أن التنمية لها مداخل متعددة، إلا أنها ترتكز أساسا على الفرد وقدراته، وهذا هو بيت القصيد؛ الذي نسعى إلى تحقيقه، لنتجاوز مثل حالة المتشرد، الذي اتخذ بئرا بداخل مقبرة مسكنا له، وجعله في دائرة التنمية المطلوبة. ما نطالب به صراحة - في الأخير- ، ليس طرد هذا المتشرد من المقبرة أو البئر، بل مد يد العون إليه، و مساعدته ودمجه عمليا مع قواعد محيطه الاجتماعي، دون عتابه لأنه مكره، - حيث ينطبق عليه المثل القائل "مكره أخاك لا بطل" - دون نسيان أمثاله والحالات المشابهة له، حتى لا نتحدث عن التنمية من فراغ، المنقلبة إلى مجرد شعار مستهلك، نتقاذفه فيما بيننا جيلا بعد جيل، فيغدو هذا الشعار بعد نسيان فترة ولادته، مجرد حكاية من حكايات كان يا مكان في قديم الزمان، في عهد التنمية المزعومة، في بلادنا متشرد، اتخذ بئرا بداخل مقبرة مسكنا له ... أكيد أن هذا الوضع غير مقبول وعار، بعد أن علمنا أن كل نداء صريح، من شأنه إحداث التنمية في المناطق المنسية عموما، لا يجوز بتاتا أن يتحول إلى مجرد كلام عابر، أو زوبعة في فنجان،أو تسري عليه سياسة النعامة، أمام الرأي العام المحلي أو العالمي، بعد أن خنقتنا عبارة التنمية، المفعمة بزمن الانتظار بعد الانتظار؛ وتقسيماته على المدى القريب والمتوسط والبعيد. وهذا ما يخيف جل أفراد المجتمع المغربي – خاصة في المناطق المنسية -؛ الذين أقسموا أن لهم حقوقا مشروعة سينالونها في وطنهم، طال الزمن أو قصر، ومهما بلغت درجة التحديات التي لا تخيفهم، لمواجهة أي " طبخة" تنتهك حقوقهم هاته المساوية لأرواحهم، ما داموا على قيد الحياة الفانية أطوارها، لذلك جعلنا الروح والحياة سيان، يستحيل إثبات وجودهما ما دامت نفحة الحقوق بمختلف تجلياتها بعيدة عنهما، فأي روح لا تحيى بصون حقوقها وكرامتها فهي ميتة قبل وجودها، ومن هنا يبدأ التغيير المطلوب، فكفى من اللف والدوران، بعدما تبين لنا أن أزمتنا الكبرى في عمقها أزمة حقوقية أخلاقية، اللهم إني قد بلغت اللهم فاشهد ! .