أسارع إلى الجواب بنعم ثم أقول ولكن، وإليكم المبررات... الإسلاميون لهم شعبية كبيرة اليوم في الشارع العربي، لأن بطونا جائعة لا تسمع إلا أصواتا تبشر بالخبز، حتى لو عزفت لها أجمل ألحان موزار وبيتهوفن. والإسلاميون اليوم، وأمام تراجع اليسار وتحالف الليبراليين مع الأنظمة الاستبدادية، أصبحوا أفضل من يدافع عن العدالة الاجتماعية وعن حق الفقراء في رغيف الخبز وقطعة جبن والحد الأدنى من الكرامة، وحتى يجعلوا صوتهم نافذا إلى قلوب المحرومين، جعلوا للمسألة الاجتماعية أصلا في الدين والتراث. الفقراء والمهمشون وفئات واسعة من الطبقة الوسطى تتبع اليوم الإسلاميين لأنها ترى في خطابهم ووعودهم أملا في حياة أفضل، بعد أن يئست من وعود اليسار العربي الذي أصبح أفضل تلميذ لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي في بلادنا، وبعد أن انفضت من حول اليمين الذي خان ليبراليته وأصبح أكبر منتج للفساد والاستبداد. لكن المجتمعات العربية ليست كلها فئات فقيرة وأخرى مهمشة، هناك أغنياء ورجال ونساء أعمال وطبقة وسطى عليا، ومجتمع مدني نشيط، وحركة نسوية فاعلة، وشباب يعيش زمانه، بالإضافة إلى المثقفين والفنانين والفئات التقنوقراطية، وكل هذه الشرائح الاجتماعية المؤثرة في الحياة العامة تحس بالخوف من الإسلاميين، وهو خوف مشروع، فهي تخاف على حريتها التي تربت عليها، ونمط عيشها المنفتح في مجتمعها، وهي وإن كانت في الغالب الأعم لا تعادي الدين، فإنها في الوقت نفسه لا ترى نفسها في فهم متشدد للإسلام، ولا تقبل أن يتقمص حزب أو حركة أو جماعة، باسم تمثيل الأغلبية، دور دركي الآداب وشرطي الحلال والحرام، يفرض على الناس ما يراه موافقا للدين وما لا يوافق فهمه للشريعة الإسلامية. الإسلاميون يغفلون عن قوة هذه التيارات في المجتمع، ويعتبرون أن الديمقراطية هي فقط الفارق بين الأصوات ليلة إعلان نتائج الانتخابات، وهذا خطأ.. الديمقراطية لعبة لها قواعد وأسس وحدود، ولا يحق لمن فاز في صناديق الاقتراع أن يغير هذه الأسس أو يقترب من هذه القواعد، ومن ذلك احترام حقوق الأقلية، وإعطاؤها كل الفرص والضمانات لأن تصير أغلبية في يوم ما. ومن ذلك احترام الحياة الخاصة للأفراد، وتوقير المبادئ الكونية لحقوق الإنسان التي تعتبر مكاسب للبشرية كلها. فمثلا، لا يمكن لحزب إسلامي فاز ب51 في المائة من الأصوات أن يفرض الحجاب على النساء، كما وقع في إيران والسودان وأفغانستان طالبان، ولا يمكن لحزب فاز بالأكثرية أن يتدخل في السلوك الشخصي للأفراد، وأن يحدد قائمة الحلال والحرام في حياة الناس، ولا يمكن لحزب باسم الدين أن يصادر مبدأ التعددية في كل شيء. للأسف، هناك تجربة وحيدة في العالم الإسلامي نجح فيها الإسلاميون المنفتحون في التعايش مع عصرهم واحترام حريات مجتمعاتهم، وهذه التجربة هي تركيا التي يحكمها حزب العدالة والتنمية التركي، الذي خرج من جبة حزب «الرفاه» التقليدي، الذي لم يستطع أن يتكيف مع واقع تركيا العلمانية رغم حصوله أكثر من مرة على أصوات كثيرة. الدين قضية أفراد ومجتمع وضمير وقيم، ولا يجب على السلطة، أي سلطة، أن تقترب منه، وأن توظفه، وأن تقدم الفهم الرسمي له. وظيفة الدولة أن تضمن للجميع حرية ممارسة شعائره أو عدم ممارستها. حساب البشر مع الله في الآخرة وليس أمام السلطة في الدنيا. الإسلاميون في العالم العربي والمغرب تطوروا فكريا وسياسيا عما كانوا عليه في فورة النشأة والحماس في سنوات الستينات والسبعينات، هذا أكيد، لكن هذا التطور لم يجر بشكل تلقائي واختياري، بل تم في الغالب تحت ضغط السجون والمنافي والمعارك الخاسرة، لهذا هناك توجس مشروع لدى خصومهم من أن يعودوا إلى سيرتهم الأولى بعد أن يتمكنوا من السلطة ويحسوا بالقوة والنفوذ. ولهذا يحتاج الإسلاميون إلى إظهار حسن نيتهم ليس بالخطاب السياسي الذي يتلون حسب المرحلة، بل بالمراجعات الفكرية العميقة التي تؤسس لفهم جديد ومنفتح وعصري للدين والفقه والتراث، وكذلك بمراجعة المضامين التربوية والمقررات الإيديولوجية التي يربون أبناءهم عليها. يبقى هناك استطراد يبرر كلمة «لكن» الواردة في بداية هذه الأسطر، وهو أن هناك خوفا مشروعا من الإسلاميين، وهناك خوف غير مشروع.. خوف يختبئ خلف أخطاء الإسلاميين لأنه يخاف من الديمقراطية، ومن إعادة توزيع السلطة والثروة في المجتمع، ويتمنى أن تظل الأحوال على حالها حتى يدوم حكم الأقلية للأغلبية.