إن بناء المستقبل رهين باستخلاص العبر من التاريخ وفهم جدليات الحاضر في ارتباط مع ما وصلت إليه البشرية جمعاء من تقدم علمي وتطور في أشكال بناء مجتمع الأغلبية لا الأقلية الديكتاتورية التي لا زالت تهيمن على كل الدول التي ارتبط مصيرها بما يسمى الدول الإسلامية وهو مفهوم عام لا معنى له من الناحية الواقعية ،فالدولة شكل من أشكال ممارسة الحكم ،أما الإسلام فهو دين يهم الفرد من حيت اعتناقه لهذا الدين أو عدمه ، فهي علاقة عمودية بين الإنسان و السماء .وبالتالي فان تديين الدولة هي مغالطة مفهومية ماكرة ، فهي ليست فردا و لاجسما ، ولا يمكن أن ينطبق عليها الجزاء أو العقاب وهما أساسين انبنى عليهما الفكر الديني. إنها نفس الخديعة اللغوية بإطلاق تسمية الوطن العربي أو المغرب العربي ، في حين أن هناك أغلبية اوحتى أقلية ناطقة بلغات أخرى. إذن فالتحديد الديني أو العرقي أو اللغوي للدولة شكل من أشكال العنصرية، وتضليل فكري لواقع مغاير. العديد من النظريات السياسية انبنت على قراءة مزيفة للوقائع التاريخية ، هاته الأخيرةرسخت في أدهان الناس كأنها من نسج بشر لا كالبشر العادي و بالتالي اعتبرت على مر الأزمان المرجعية التي لابد من العودة إليها فهي مفتاح لكل مصائب الأقوام . الأمر الذي يفرض على العقل النقدي الرزين الصبور الغير المتشنج اللاعنفي أن يعود إلى المصادر الأصلية لاستنطاقها و استنباط خلاصات بعيدا عن الأحكام المعلبة الجاهزة التي تفنن صانعوها في نحتها لتحنيط عقول مستهلكيها . لماذا السقيفة؟ السقيفة هي البرلمان الإسلامي الأول الذي تمخض عنه أول خليفة في أول اختبار لمنظومة فكرية جديدة يصفها المعاصرون بالشورى ويضعونها في مرتبة أعلى من الديمقراطية . كما أنها المرجعية للعديد من الحركات الإسلاميةالتي انبنت عليها أدبياتهم السياسية. الموضوع له راهنيته خصوصا بعد وصول العديد من الحركات الإسلاميةإلى الحكم ، و للأسف فان الشعوب لاتستخلص دروسها إلا من تجاربها الأليمة و المكلفة في الوقت الذي يغنينا استنطاق التاريخ عن العديد من المطبات و الأخطاء التي تكرر نفسها باستمرار. فالمغاربة يعيشون أسوأ تجاربهم مع اللاعدالة و اللاتنمية التي افتتحت أول أيام حكمها بالزيادة في ثمن المحروقات بمعدل لم يجرؤ عليه أحد من قبلهم، لتعقبه الزيادة المضاعفة في كل المواد الاستهلاكية ،ليتبعه التبشير بأن المفسدين هم تماسيح و أشباح لاسبيل إليهم و الكل يعلم أن آلام المغاربة و بؤسهم وقدرهم البئيس يتحمله هؤلاء المفسدون و ناهبي المال العام و مصاصي دماء المعوزين ، فلا ضريبة على الثروة و لاهم يحزنون فرئيس الحكومة يخشى هروب المستثمرين ناسيا أن أموالهم لاتعرف طريقا غير إلى الخارج ، أما شباب عشرين فبراير ففي السجون مستقر لهم إلى اجل غير مسمى ، وقوات القمع للمعطلين جزاء لكل من لايحترم هدوء نواب الأمة داخل القبة،فللشعب تكفي المفرقعات الإعلامية بنشر لوائح بأسماء المستفيدين من رخص النقل ثارة و مقالع الرمال ثارة أخرى ،فياله من سبق حكومي أما رخص الصيد في أعالي البحر فخط احمر و ما اكترها ته الخطوط الحمراء التي لا يستطيعون نشرها ، وتستمر الفتوحات العديدة و التي لاسبيل لذكرها هنا و تتوج أخيرا بمنشور أقاموا عنه الدنيا ولم يقعدوها قيل عنه الوصفة السحرية لوقف غياب الموظفين و إصلاح الإدارة و محاربة الموظفين الأشباح متناسين أن كل شبح يخلق من فوق ، من العلياء ،وربما من الوزارة نفسها... أما المصريون فما صدقوا أن تخلصوا من ديناصورهم الجاثم على صدورهم لسنين حتى ظهر لهم مشروع ديكتاتور جديد بإعلاناته الدستورية التي لاتنتهي ومراوغاته لوأد الروح الثورية التي لا تخمد بمجرد ما تشتعل ،في حين أن ألف باء الديمقراطية لايعني سوى انتخاب مجلس تأسيسي يمثل الأكثرية الهامشية لصياغة دستور تتوافق عليه الأغلبية ... أما تونس فلازالت تراوح مكانها لأن أمال البسطاء تبخرت بوصول الأخطبوط دو النزعة المهيمنة... السقيفة هي البرلمان الطيني الذي لابد من العودة إليه تاريخيا لأنها رمز لحقبة يحلم المعذبون في هاته الأرض إلى العودة إليها وبين أحضان المبشرين إليها يرتمي كل من تشبع بأوهام خصوصا حينما تكون تحت مسميات العودة إلى السلف الصالح الدين ليسوا سوى بشر نتاج بيئتهم وتاريخهم و ثقافتهم و ظروفهم و لا يحملون جينات فوق طبيعية . اجتمع الأنصار في السقيفة مرشحين سعد بن عبادة لتوليته أميرا للمسلمين فخطب فيهم قائلا: " يا معشر الأنصار، لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب ، إن محمدا عليه السلام لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأنداد و الأوثان ، فما امن به من قومه إلا رجال قليل ، وكان ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول الله ، و لا أن يعزوا دينه ، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيما عموا به ، حتى إذاأراد بكم الفضيلة ، ساق إليكم الكرامة و خصكم بالنعمة ، فرزقكم الله الإيمانبه و برسوله ، و المنع له و لأصحابه ، والإعزاز له ولدينه ، والجهاد لاعدائه ،فكنتم اشد الناس على عدوه منكم، وأثقله على عدوه من غيركم ، حتى استقامت العرب لأمر الله طوعا وكرها ،واعطى البعيد المقادة صاغرا ذاخرا ، حتى أثخن الله عز و جل لرسوله بكم الأرض ،ودانت بأسيافكم له العرب ،و توفاه الله وهو عنكم راض، وبكم قرير عين. استبدوا بهذا الأمر فانه لكم دون الناس." 1 فأجابه الأنصار بتوليته أميرا عليهم ، مع استحضار إمكانية اعتراض قريش بدعوى صحابتهم لرسول الله ، فاقترح احدهم اختيار أميرين واحد من الأنصار و الثاني من المهاجرين. إلاأن سعد بن عبادة حين سمعها قال : هذا أول الوهن 2 بعد مجيءأبو بكر قال :"...إن الله بعث محمدا رسولا إلى خلقه ،وشهيدا على أمته ،...فخص الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه ، و الإيمان به، و المؤاساة له، و الصبر معه على شدة أذى قومهم لهم ، و تكذيبهم إياهم ، و كل الناس لهم مخالف ، زار عليهم ، فلم يستوحشوا لقلة عددهم و شنف الناس لهم ، و إجماع قومهم عليهم ، فهم أول من عبد الله في الأرض وامن بالله وبالرسول ، وهم أولياؤه وعشيرته، و أحق الناس بهذا الأمر من بعده ، ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم ، و انتم يا معشر الأنصار ،من لاينكر فضلهم في الدين ...فنحن الأمراء و انتم الوزراء،لاتفتاتون بمشورة، ولا نقضي بكم الأمور."3 فقام الحباب بن المنذر فاقترح عليهم : ..".فمنا أمير ومنهم أمير " 4 فرد عليه عمر: هيهات لا يجتمع اثنان في قرن...من ذا ينازعنا سلطان محمد و إمارته ، ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل ،أو متجانف لاثم ،ومتورط في هلكة." 5 وفي رواية أخرى قال عمر: هيهات لا يجتمع سيفان في غمد ، إن العرب لا ترضى أن تؤمركم و نبيها من غيركم ،...من ذا يخاصمنا في سلطان محمد و ميراثه؟ ونحن أولياؤه،وعشيرته،إلا مدل بباطل،أو متجانف لاثم،أو متورط في هلكة. 6 فقام الحباب بن المنذر فقال : ...ولا تسمعوا مقالة هذا و أصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذاالأمر...أنا جذيلها المحكك، و عذيقها المرجب أما والله لئن شئتم لنعيدنها جدعة . فقال عمر :إذا يقتلك الله قال : بل إياك يقتل . 7 ( وفي رواية أبي بكر الجوهري في ابن أبي الحديد 2\16 ورد فوطا عمر في بطنه ودس فيه التراب) فقال أبو عبيدة بن الجراح :يا معشر الأنصار ، إنكم أول من نصر و أزر ، فلا تكونوا أول من بدل و غير .8 فلما رأى بشير بن سعد الخزرجي اتفاق و اجماع الانصار على تولية سعد بن عبادة ، وكان حاسدا له، وكان من سادة الخزرج، قام فقال ...ان محمدا (ص) من قريش ،وقومه احق بميراث امره... فقام ابو بكر وقال : هذا عمر،وأبو عبيدة، فبايعوا ايهما شئتم، فقالا والله لا نتولى هذا الامر عليك... فلما بسط يده وذهبا يبايعانه :سبقهما بشير بن سعد ، فبايعه فناداه الحباب ابن المنذر :يا بشير ، عقك عقاق،والله ما اضطرك الى هذا الامر الا الحسد لابن عمك . 9 ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد قال بعضهم لبعض : والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيبا أبدا ، فقوموا فبايعوا أبا بكر ... فأقبل الناس من كل جانب يبايعون أبا بكر ، وكادوا يطئون سعد بن عبادة ، فقال ناس من أصحاب سعد : اتقوا سعدا لا تطئوه ، فقال عمر : اقتلوه قتله الله ، ثم قام على رأسه ، فقال لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضدك ، فأخد سعد بلحية عمر ، فقال : والله لو حصصت منه شعره ما رجعت و في فيك واضحة ، فقال أبو بكر : مهلا يا عمر ، الرفق ها هنا أبلغ . فأعرض عنه عمر. وقال سعد : أما والله ولو أن بي قوة ما ، أقوى على النهوض ، لسمعت مني في أقطارها و سككها زئيرا يجحرك و أصحابك ... وايم الله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الانس ما بايعتكم ، حتى أعرض على ربي ، و أعلم ما حسابي. 10 أما علي بن أبي طالب فلم يكن حاضرا بالسقيفة ، بل كان منشغلا بتجهيز الرسول الذي ترك جسده مسجى ، كما أنه لم يبايع ابي بكر الا بعد ستة أشهر اي بعد وفاة فاطمة الزهراء: ...ولما بويع أبو بكر في السقيفة ...خرج علي فقال: أفسدت علينا أمورنا، ولم تستشر، ولم ترع لنا حقا...11 كما نشير الى أن عمر بن الخطاب قدم لاحقا ما يشبه نقدا ذاتيا بقوله : ...فلا يغترن امرؤ أن يقول : ان بيعة ابي بكر كانت فلتة. ألا و انها كانت كذلك ،الا ان الله وقى شرها ...12 باختصار شديد كانت هاته هي أحداث السقيفة كما وردت في أمهات كتب التراث ، ومنها ومن غيرها يمكن التشديد على ما يلي : أمر الحكم أو السلطة أو الخلافة لم يكن أبدا موضوع نقاش في عهد الرسول وهو ما يبرره و تؤكده أحداث السقيفة . بمعنى أنه لا القرآن و لا السنة تناولا هذا الموضوع ، ولو كان الأمر كذلك لثم الحسم فيه قبل وفاة الرسول أو ثمت صياغة قواعد انتقال السلطة وفق قواعد و أسس معينة شأن باقي شؤون الحياة التي ثم التشريع فيها ، خصوصا أن هذا الأمر شغل أذهان كل أعيان ووجهاء القبائل و صحابة الرسول ، وهو ما تؤكده الهرولة إلى السقيفة قبل مراسيم الدفن وما تعنيه من الحزن و الاحترام اللازم لشخص الرسول . وهو ليس غريبا عن العرب الذين يتزوجون في نفس ليلة وفاة الزوجة . وهو الدليل الأكيد على نهاية الدولة الدينية التي امتزج فيها الأرضي بالسماوي و امتزجت فيها الضرورة الدينية للدولة وضرورة الدولة للدين. فقد اكتمل الدين بخطبة حجة الوداع، فلا حاجة له إذن للدولة، فانقطعت صلة السماء بالأرض. وعادت الأمور إلى نصابها ، أي إعمال العقل وجها لوجه أمام المستجدات الأرضية التي لاسبيل إلى استنطاق الآيات بشأنها . فمؤتمر السقيفة عاد إلى المصلحة القبلية و عصبيتها ونسى تماما عالمية الدعوة المحمدية، فكر في الأرضي قبل السماوي وفي الحياة قبل الموت و في الدنيا قبل الآخرة. فكر في التعصب قبل التسامح و الشقاق بدل الأخوة. مؤتمر السقيفة لم يرسخ أي تقليد أو نمط أو آلية لاختيار الزعيم المفترض أو مجلس قد يتكون من شخصيات محددة أو نقباء أو تمثيلية قبلية ... لا شيء مؤسسي على الإطلاق ، فالسقيفة تجمع فجائي تحكمت فيها النفسية القبلية التي تعكس الحذر و الزعامة و الرغبة في التحكم و النعرات و الأحقاد و لاترضخ إلا للزعيم الأقوىالكاريزمي . فالنقاش و التداول بينهم تسيطر عليه سحر الكلمة و فصاحة اللسان ولو كانت سفسطائية بعض الأحيان.فمن اللغط و التهديد اختطف أبو بكر الرياسة وبسرعة البرق انتزع البيعة دون إتاحة فرصة التفكير لغيره وهم لم يصدقوا بعد وفاة النبي.لكن النتائج كانت وخيمة في ما ترتب عنه من أحداث بعد ذلك، ولا زال الجدل حولها إلى يومنا هذا.أما الشورى وهي كلمة صغيرة ، فقد ثم حشوها لاحقا بما لا تحتمله ، ففي أصلها لا تعني سوى تداول في شأن من الشؤون ، ولا تتضمن أي شكل من أشكال بناء الدولة أو التنظيم أو المؤسسات الغائبة تماما بمفهومها الحديث بل لا تشكل حتى نواة يمكن تطويرها لاحقا كما حدث مثلا بالنسبة للديمقراطية الأثينية . إن السقيفة كانت اللبنة الأولى للدولة الشرقية الديكتاتورية، ذات العباءة الدينية المتجددة في أثواب عدة عبر التاريخ المثخن بالجروح و التي فاضت منه وديان من الدماء فللسيف دائما كانت سلطة الحسم. الهوامش : من 1 الى 8 تاريخ الطبري. الجزء الثالث .تحقيق ابو الفضل ابراهيم .الطبعة الثانية ص من 218 الى 221 9 - السقيفة و فدك .تصنيف ابي بكر الجوهري .جمع وتحقيق باسم مجيد الساعدي الطبعة الاولى 2011 العراق 10 - تاريخ الطبري 11 - مروج الذهب ومعادن الجوهر. المسعودي .دار الفكر بيروت تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد الطبعة الخامسة ص 703 12- البداية و النهاية .بن كثير. تحقيق د عبد الله بن عبد المحن التركي. ج 8. هجر للطباعة و النشر الطبعة الاولى