كانت الجزيرة العربية، قبل بعثة محمد، في حاجة إلى إطار سياسي يقيها ما كان يتهددها من تناقضات داخلية ومن أخطار خارجية، حيث وصل «الأحباش» إلى مشارف مكة ولم يتراجعوا إلا بعد تفشي الوباء في صفوفهم. ولم يكن من الممكن، في تلك الظروف، أن تصدر مبادرة التوحيد السياسي إلا من قبيلة «قريش» التي كانت تتوفر حينذاك على مؤسسات سياسية مستقرة، بالإضافة إلى مكانتها الروحية والتجارية التي مكنتها من ربط علاقات ممتازة مع الدول المحيطة بها. فعلى سبيل المثال، استطاع «هاشم» أن يعقد مع الإمبراطورية الرومانية ودولة «الغساسنة» معاهدة حسن جوار ومودة، كما عقد «عبد شمس» معاهدة تجارية مع «النجاشي»، أما «نوفل» و«المطلب» فقد تمكنا من عقد حلف مع الإمبراطورية الفارسية وإبرام معاهدة تجارية مع «الحمياريين» في اليمن. إلا أن تشبث «قريش» بخطاب قبلي يتناقض مع مشروعها في التوحيد السياسي حال دون انقلاب عصبيتها إلى «ملك» يشمل الجزيرة العربية. ويمكن استخلاص هذا الخطاب القبلي من خلال تشبث «قريش» بآلهتها، مثل «اللات» و«العزى». فهذا التشبث كان يفيد رغبة في التميز عن القبائل الأخرى رغم أن الظرف التاريخي الذي وجدت فيه قريش كان يفرض عليها نبذ هذا الخطاب القبلي والارتكاز على خطاب ذي طبيعة توحيدية. في هاته الظروف، سيقدم «محمد بن عبد الله» إلى قريش ما سيجعل عصبيتها تنقلب إلى «ملك»: «الدعوة». منذ البداية، كان واضحا أن الدعوة الجديدة (= الإسلام) هي دعوة من أجل إقامة «الدولة» وتوطيدها، وهذا ما قرره «ابن خلدون» بشكل واضح، حيث اعتبر أن الدين كان شرطا ضروريا لقيام دولة العرب. لقد مرت دعوة «محمد» بمرحلتين: أولاهما، مرحلة التهييء لإقامة الدولة، ذلك أن كل حركة تريد أن تقيم دولة تتجاوز الإطار القبلي لا بد أن تبدأ، أولا، بإنتاج خطابات تحول الولاء من «القبيلة» إلى إطار أكثر اتساعا، وهو ما مثله الإسلام في هذه الحالة، فعملية تحويل الولاء تقتضي استبدال الخطاب الضيق السائد بخطاب أكثر استيعابا للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وذلك ما جسده الخطاب النبوي المحمدي الذي لم يقطع مع النزعة القبلية بل حاول استيعابها، فخاصية الاستيعاب هاته، وليس القطع، هي التي تضفي مشروعية على القول بأن ما سيقع من أحداث بعد «محمد» يجد جذوره في الجاهلية. في هذا الإطار، يمكن فهم الأسباب العميقة التي تحكمت -خلال مرحلة التهييء لإقامة الدولة، وهي المرحلة التي قضاها «محمد» في «مكة»- في إنتاج خطاب يركز أساسا على «التوحيد»، كما يبرزه بشكل جلي القرآن «المكي». ثانيتهما، مرحلة توطيد الدولة، حيث شكل حادث «الهجرة» البداية الفعلية للدولة الجديدة، فهجرة النبي تمثل انتصارا باهرا لإيديولوجيته السياسية، فهي تؤكد طروحات الدعوة الجديدة بإمكانية تعايش مجموعات قبلية مختلفة في مجال ترابي واحد. لكن هذه الملاحظة لا تنفي كون الهجرة شكلت أول توسع «قرشي» ذي أبعاد سياسية خارج مكة، حيث سيستقر القرشيون (المهاجرون) ولأول مرة في المدينة (يثرب) وبشكل نهائي، فهناك مجال ترابي واحد (يثرب)، ومجموعات بشرية متساكنة (المهاجرون، الأوس، الخزرج، اليهود)، إضافة إلى ميثاق ينظم العلاقات بين هاته المجموعات، وهذا الميثاق يسمى ب«دستور المدينة»، سيتم تدعيمه تدريجيا بقواعد تنظيمية تشمل مرافق الحياة الاجتماعية والاقتصادية. ويمكن استخلاص هاته المجموعة من القواعد التنظيمية من خلال ما اصطلح على تسميته بالقرآن المدني، حيث نعثر على قواعد جنائية «عقوبة السارق، مثلا» وأخرى مدنية (تنظيم الإرث، الطلاق،...) وثالثة تجارية... إلخ. إلا أن المشكل الذي ستعاني منه الدولة الوليدة هو استمرارية ممارسة السلطة السياسية عبر توازنات قبلية، ونقصد بذلك عدم إمكانية اتخاذ القرار السياسي دون رضى جميع الكتل القبلية المعنية. هذا الإشكال سيتم الحسم فيه لصالح «صاحب الدعوة» قبل صلح «الحديبية» بقليل، حيث فوضت «الأمة الجديدة» أمورها إليه بواسطة «بيعة الشجرة» التي التزمت بمقتضاها بتنفيذ كل ما يأمر به. إن واقع كون الدولة العربية/الإسلامية قد قامت «على أساسين متنافرين متناقضين -كما يقول محمد عابد الجابري- الدين الموحد والعصبية المفرقة» قد أعطى مشروعية لأزمة الدولة بعد اختفاء «محمد»، فبمجرد وفاة المؤسس سيتم التسابق نحو احتكار السلطة السياسية في الدولة الجديدة، إلا أن عملية الاحتكار هاته كانت في حاجة إلى خطاب يدعمها، في هذا الظرف سيبرز شرط «القرشية». لقد أفرزت الممارسات التاريخية للدولة الإسلامية على مستوى التسابق نحو الاستيلاء على السلطة السياسية، تيارين متناقضين : تيار يؤيد شرط القرشية وتيار يناهض هذا الشرط. وقد تبلورت معالم هذا التيار في اجتماع «السقيفة» بين المهاجرين والأنصار مباشرة بعد وفاة الرسول. أسفر اجتماع «سقيفة بني ساعدة» عن توطيد سلطة «قريش» التي ستنتج مجموعة من المعايير قصد دعم مشروعيتها في الحكم، وكان الأنصار قد بلوروا معايير المشروعية كما عبرت عنها خطبة «سعد بن عبادة» في «السقيفة»، حيث يقول: «يا معشر الأنصار، لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب... إن محمدا عليه السلام لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن، فما آمن به من قومه إلا رجال قليل، وما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول الله ولا أن يعزوا دينه... حتى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة وخصكم بالنعمة، فرزقكم الله الإيمان به وبرسوله والمنع له ولأصحابه... فكنتم أشد الناس على عدوه... حتى استقامت العرب لأمر الله طوعا وكرها... استبدوا بالأمر دون الناس، فإنه لكم دون الناس». لم يكن فشل «الأنصار» في الوصول إلى السلطة نتيجة نقصان في المعايير التي ارتكزوا عليها لتأكيد أحقيتهم في السلطة، بل كان نتيجة لتشبثهم بخطاب مغرق في نزعته القبلية. ويتجلى هذا الخطاب القبلي لدى الأنصار من خلال ثلاثة معطيات، فقد كانوا يرغبون في استئصال شأفة قريش يوم فتح مكة، وقد عبر عن هاته الرغبة «سعد بن عبادة» بشكل جلي عندما قال ل«أبي سفيان»: «اليوم يوم تستحال الحرمة، اليوم أذل الله قريشا»، هذا أولا. ثانيا، فبمجرد وفاة الرسول عبّر الأنصار عن رغبتهم في التميز عن المهاجرين، وذلك حين فضلوا الاجتماع في «سقيفة بني ساعدة» بدل مسجد الرسول. ثالثا، فقد عبر الأنصار بشكل واضح عن رغبتهم في طرد القرشيين من المدينة، ففي يوم السقيفة أشار «الحباب بن المنذر» على قومه بإجلاء قريش عن المدينة والاستيلاء على السلطة، كما عبر «سعد بن عبادة» عن هاته الرغبة يوم «السقيفة» كما يشير إلى ذلك «ابن قتيبة» في «الإمامة والسياسة». إضافة إلى ذلك، فقد عجز الأنصار عن فرز تنظيم يؤطرهم سياسيا لمواجهة المستجدات الطارئة بعد اختفاء «المؤسس». ثم إن القرشيين تمكنوا من توطيد دعائم سلطتهم بما كان لديهم من قدرة على إبقاء تناقضاتهم جانبا نتيجة تجاربهم السياسية والإدارية، مما جعل «الأنصار» في موقع غير متوازن في الصراع.