ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    سفير ألمانيا في الرباط يبسُط أمام طلبة مغاربة فرصا واعدة للاندماج المهني    بوريطة: المقاربات الملكية وراء مبادرات رائدة في مجال تعزيز حقوق الإنسان    ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره        أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شعب يطبع مسار أي بلد يقيم فيه : المغاربة ومصر


شارك
محمد القنور
ما ان وصلت مدافع وجيوش نابوليون بونابرت في سياق الحملة الفرنسية الى مصر، حتى سعى قائدها الى استغلال الدين وسيلة للتقرب الى الاهالي في مصر من جهة والى الامراء العرب وشعوبهم في الجزيرة والشام والمملكة الشريفية المغربية من جهة اخرى، محاولاً تهدئة الوضع المناهض للاحتلال سواء على الصعيد الداخلي في مصر او على الصعيد الخارجي الاقليمي في الاقطار والعربية.
لكن سرعان ما اظهرت هذه السياسة فشلاً داخل مصر وخارجها، حيث كان هناك رفض شامل لهذا الاحتلال على نطاق الشعب المصري الذي ترجم أبناؤه هذا الشعور على ارض الواقع من خلال الدور البطولي الذي اضطلعوا به في مقاومة الاحتلال ومساندة اخوانهم رجال المقاومة في مصر، وكان ذلك على الرغم من المواقف المهادنة والمرنة لحكامهم تجاه الاحتلال.
لم يكن الموقف الشعبي المغربي المساند للمقاومة الشعبية المصرية ضد احتلال نابوليون بونابرت موقفاً عرضياً او طارئاً، وانما كان موقفا صميمياً، فإضافة الى الشعور بالانتماء الى امة واحدة هي أمة الإسلام، وما يجسده ماضٍ تاريخي عميق كان ابناء الشعب المغربي في مختلف مدن المملكة تربطهم بشعب مصر روابط قوية جداً في نواحٍ عديدة منها الاقتصادية والاجتماعية، ولذلك أسباب عديدة منها طبيعة الحكم العثماني للمنطقة العربية فالدولة العثمانية لم تضع أي قيود على حركة السكان ما بين الولايات العربية، وهذا مما ساعد على حرية الحركة والتنقل واختيار البلد الذي يستطع الشخص فيه ان يمارس نشاطه الاقتصادي والثقافي دون عائق، وهذا ادى بلا شك الى تقوية العلاقات الاجتماعية والحضارية.
اشرت احداث الحملة الفرنسية على مصر، للدور الكبير لأبناء المغرب ، في مقاومتهم للاحتلال الأجنبي لمصر، سواء من الجالية الكبيرة لابناء المملكة الشريفية المغربية داخل مصر، أو من خلال المتطوعين الذين قدموا من سهول المغرب وقمم جبال الأطلس . ويمكن تعّرف موقف ابناء المملكة الشريفية المغربية في الداخل من خلال الجالية الضخمة لأبنائها في مصر عامةً، والقاهرة خاصةً. ولكي نعي مدى الدور الكبير الذي أدته هذه الجالية، علينا اولاً دراسة الروابط الكبيرة التي كانت بينهم وبين الاهالي في مصر من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي كانت حقاً السبب الرئيسي لمساهمتهم في مقاومة الاحتلال.
مغاربة بأنفاس البطولات
عاش المصريون وبينهم جالية كبيرة من بلاد المملكة الشريفية المغربية. وسبب وجودهم الكبير، سببين ، أولهما تشبت المغاربة بوسطيتهم وحضارتهم الأصيلة ،وسلوكهم المنفتح وثانيهما طبيعة الحكم المملوكي والعثماني ومن بعدهما حكم أسرة علي باشا التي حافظت على عادات وتقاليد ولغة وثقافة الشعوب التي أخضعت بلدانها ومنها الشعب المصري، فلم تكن هناك قطيعة فاصلة او حدود مغلقة بين مشرق الوطن العربي ومغربه طوال مرحلة الحكم العثماني، وبهذا انفسح المجال أمام الحجاج والتجار المغاربة لزيادة نشاطهم التجاري. ومما ساعد على زيادة ازدهار التجارة المغربية في الشرق ، كانت قوافل الحج المتكررة من المملكة المغربية الشريفية نحو بلاد المشرق العربي في مصر والحجاز ومختلف شبه الجزيرة العربية ، علماً أن النشاط التجاري في مصر كان أكثر استقراراً، فقد مارس التجار المغاربة عملهم في القاهرة وفي أسيوط ودمياط والإسكندرية من دون أي عقبات تحد من نشاطهم او أي قيود تفرض عليهم، إذ كانت لهم الحقوق نفسها التي على أبناء البلد وعليهم نفس الواجبات التي على أبناء مصر، وهذا ما أدى بطبيعة الحال الى زيادة حجم التبادل بين المشرق ومصر وبين بلاد المملكة الشريفية المغربية حتى بلغ في عام 1783 نحو 62.845.617 قطعة ذهبية مغربية .
هذا، ودفع النشاط التجاري الكثير من التجار المغاربة الى الاستقرار بمصر، متخذين منها مركزاً لممارسة اعمالهم التجارية على المستوى العربي والعالمي، فأصبح لهم مؤسسات تجارية كبرى ، وأصبحوا يمتلكون رؤوس أموال ضخمة، فانفتحت الآفاق لهم ودخل عدد كبير منهم ميدان إقتناء الاراضي الزراعية، وامتلك العديد منهم هذه الاراضي الزراعية لان الامراء المماليك في القرن الثامن عشر وبسبب خلافاتهم وحاجتهم للمال اخذوا يسقطون الالتزامات عن التجار نظير الأموال المقترضة منهم.
وإضافةً الى التجار أصحاب رؤوس الأموال كانت أعدادا كبيرة من التجار المغاربة الآخرين ممن اظهروا اهتماماً واسعاً بالاعمال الصناعية الحرفية والمهنية، مثل صناعة الزيوت والنسيج و الخشب والفضة والصياغة وصناعة العطور وعصرها وتجارة بيع السمك وحرفة الفحامة القائمة على صناعة الفحم وبيعه، والكيالة وهي مهنة الاشتغال بكيل الغلال للتجار، كما كان هناك عدد كبير من المغاربة ممن اشتغل بمهن مختلفة كالتدريس و الطب والعطارة والنسيج والحياكة والدباغة والحلاقة والخياطة و الحراسة الى غير ذلك من المهن والاعمال غير التجارية التي كانت تدر عليهم دخلاً مميزا وكبيرا.
وعليه، فإن ماتقدم يدل على أن الجالية المغربية وبمختلف فئاتها كانت متداخلة في جميع مفاصل الحياة الاقتصادية داخل المجتمع المصري وملتصقة بها بشكل كبير، وقد مكن هذا التداخل الكبير للمغاربة بالنشاط الاقتصادي داخل المجتمع المصري، قوة لا يستهان بها بدليل أنهم في المرحلة التي سبقت الحملة الفرنسية على مصر " لم يستسلموا للسلطات المملوكية اذا رأوها تحيد عن طريق الصواب وكان علماء القرويين و إبن يوسف وسوس المتواجدين بمصر خلال القرن التاسع عشر الميلادي لا يخشون في الحق لومة لائم ولا يهابون كبيراً أو أميرا مملوكيا .
ولم يكن الجانب الاقتصادي السبب الوحيد في ان يكون للجالية المغربية ثقلها داخل المجتمع المصري وانما كان هناك سبب اخر لا يقل اهمية، ألا وهو ثقلهم الديني، فالمغاربة وسطيون ومعتدلون دينا وفكرا، ومتنوعون حضارة وثقافة، ومنضبطون بحكم أن غالبيتهم العظمى من مريدي الزوايا التيجانية والدرقاوية والعيساوية والوزانية ، وهي الزوايا التي كانت تضطلع بدور التأطير والتربية الوطنية المغربية ، إذ كانت هناك اعداد كبيرة من العلماء والطلبة المغاربة يفدون على الجامع الأزهر للزيارة أو للدراسة أوالتدريس وكان عددهم ليس قليلاً من هؤلاء المغربة يجمعهم رواق خاص بهم يعرف برواق المغاربة داخل سور جامع الأزهر، وهناك شواهد إلى الآن ، تشير إلى أن رواق المغاربة على أساس أنه من أقدم الأروقة التي أنشئت بالأزهر، وكان للمغربة من العابرين نحو الحج أو القادمين للتجارة يتوفرون على شيخ عالم مغربي ، وقاضي على مذهب الإمام مالك هو المسؤول عنهم والمتحدث باسمهم عن حقوق الرواق في أوقافهم المخصصة لهم، والتي كان مصدرها أوقاف أوقفها التجار والمحسنين الأثرياء من المغاربة من أراض زراعية ووكالات تجارية وعقارات كان ريعها يصرف على المغاربة ممن يدرسون الفقه المالكي إضافة الى ذلك حظي رواق المغاربة باهتمام حكام مصر، الذين حرصوا على وقف أموال كبيرة ليس على رواق المغاربة وحسب وإنما شمل ذلك معاهد العلم في مصر وفي كثير من الأحيان كانت تصل إلى رواق المغاربة بالازهر هدايا من العلماء المصريين، وهو رواق درس فيه المغاربة طيلة عقود وقرون من عبد الرحمان بن خلدون إلى الفقيه الشنقيطي في بداية القرن العشرين .
مراكشيون في رحاب الأزهر
وكان إسم "المراكشيون" هو الصفة التي يطلقها المصريون على المغاربة، وكان هذا الاهتمام سبباً في ان يحظى العلماء والطلاب المغاربة بمعاملة خاصة وعناية من علماء الأزهر، لعلو همتهم وكثرة علمهم وحسن سيرتهم ، فبرز قسم كبير من المراكشيين – وهي التسمية القديمة للمغاربة- كما أسلفت، عند أشقائهم المشارقة – من الذين شغلوا وظائف التدريس في الجامع الأزهر وغيره من مدارس القاهرة التعليمية في ذلك العصر، كما شغل بعضهم الاخر وظائف القضاء، وقد وصل الكثير منهم الى اعلى مناصب التدريس في الأزهر والمدارس التابعة له، ودليل ذلك ان كثيراً من وثائق تلك المدّة كانت تقدم لبعض علماء المغاربة ذكر عبارة من أعيان أهل الإفادة والتدريس بالجامع الأزهر، كما حاز بعضهم على ثقة زملائهم من العلماء المصريين فأوكلوا إليهم مهمة التدريس نيابة عنهم في معظم كراسي جامع الأزهر دون غيرهم. واكسبتهم هذه المكانة التي حظي بها المغاربة ثقلاً حضاريا وسياسياً داخل المجتمع المصري، وكان ذلك طبيعياً، اذ كان الشعور الديني المبني على الوسطية هو السائد بين المغاربة، رؤية ومنهجا ومعرفة ، وكان لهذا من شانه أن يجعل الفقيه المغربي أن يحتل مكانة مميزة ويكون له رأي مسموع بين النخبة في بلاد مصر وعامة الأهالي المصريين .
أستدل فيما تقدم على أن النشاط الاقتصادي للمغاربة وتغلغلهم في كل مفصل من مفاصل الحياة الاقتصادية والثقافية اضافة الى دورهم الكبير في الجامع الازهر علماء ومدرسين وطلاب،كان له الأثر الكبير، إذ نتج عن كل ذلك، في أن يكون لهم ثقل إجتمعي وعلمي داخل المجتمع المصري، وهذا بطبيعة الحال أدى في إن يكون لهم ثقلهم الاقتصادي ، فبرزت عائلات مغربية ، عروبية وأمازيغية وموريسكية كان لها الأثر البالغ في التأثير على الإقتصاد والمجتمع المصري، على غرار عائلة إشبيلي وخربوش ومغربي وهواري والشاوي وحجي والفاسي، وسوسي والماسي وبهجاجي "بهجاوي" وبرادة والشنقيطي وبدوي وأطلس وبيضاوي وأعبيدة ودرعي ويتجلى لنا ذلك بشكل واضح من خلال طبيعة تكوين المغاربة الاجتماعي ، وقدرتهم على الإندماج مع الشعوب المختلفة إلى حدود الآن، وانتشارهم بشكل واسع حتى صاروا يوجَدون في أكثر احياء القاهرة وأحياء المدن الكبرى، وداخل بعض البلدات في الصعيد الداخلي من "سوهاج" إلى "أسوان" ببلاد الكنانة .
لقد كان التشابه كبيراً بين التنظيمات الاجتماعية للمغاربة وتلك التي لأبناء القاهرة، فقد كانت لكل فئة منهم منظماتهم الخاصة في داخل الأسواق والوكالات على غرار وكالة البلح والاحياء المصرية في مختلف المدن والثغور مثل الاسكندرية والمنصورة والمحلة ودمياط ورشيد واسيوط والقصير والسويس، وان بدا ذلك واضحاً في القاهرة، حيث كان لهم تنظيماتهم الطائفية الصوفية ، وحنطاتهم"الخاصة بالتجار والحرفيين ودورهم المخصصة للطلبة والوافدين في كل حي من احياء القاهرة.
لقد كان لكل طائفة شيخ أو نقيب متحدث باسمهم ويدافع عن حقوقهم لدى سلطات القاهرة. واثبتت وثائق المحكمة الشرعية في مصر، ان هذه التنظيمات الاقتصادية المغربية امتدت من شارع طولون الى سوق الجملون بشارع الغورية ووكالة الماوردي بشارع سوق الفحامين، وشارع البندقية وشارع الاشرفية وباب الشعرية وقناطر السباع ومنطقة السيدة زينب وبولاق القاهرة وقوصون، كما كان للمغاربة تنظيماتهم العديدة الواسعة في أسواق القاهرة وأحيائها وشوارعها الى درجة يمكن للمتتبع لخريطة القاهرة العمرانية والمدينة في ذلك العصر، ولما أورده المؤرخ المصري عبد الرحمان الجبرتي أن يحدد تحديداً دقيقاً بداية ونهاية الاحياء والدروب والشوارع التي يقطنها المغاربة والتي لهم بها أوقاف وعقارات.
تنظمات تجارية وحارات مغربية
وهكذا فان التنظيمات الاقتصادية للمغاربة لم تقتصر على منطقة معينة في بلاد مصر بل انهم كانوا منتشرين في جميع ارجاء القاهرة خلال القرن الثامن عشر الميلادي ، ثم بكل البلاد المصرية من شمالها الى جنوبها خلال العقود الموالية الى درجة أصبحت بعض شوارع وحارات المدينة تحمل اسماء مغربية صرفة ، وكان المغاربة يشبهون إخوانهم المصريين في كل شئ فعلى غرارهم كانوا يسكنون بالقرب من اماكن عملهم بالنسبة لأصحاب الصناعات التقليدية وتُجّارُها. ويلاحظ أيضا أن كبار التجار المغاربة يفضلون السكن في الجهة الغربية من القاهرة حول بركة الأزبكية وهي ظاهرة امتاز بها تجار القرن الثامن عشر في القاهرة.
كانت الغالبية العظمى من المغاربة الذين قدر عددهم في القاهرة في نهاية القرن الثامن عشر بنحو عشرة الاف نسمة، يسكنون حسب ما تسجله وثائق المحكمة الشرعية بالقاهرة، كلا من بولاق وباب الشعرية وطولون والنحاس والحمزاوي ، إضافة إلى أن هناك كان اكتظاظاً ملحوظاً للمغاربة حول جامع ابن طولون في الجهة الجنوبية، الذي كان نقطة جذب للزائرين المغاربة في القاهرة ولايزال في الحي بصمات عمرانية ذات طابع مغربي واضح. كما تجمّع المغاربة وسط القاهرة في جهة سوق الغورية وسوق الشرب حيث عمل عدد كبير منهم،. ومما زاد من قوة اندماجهم مع أهالي القاهرة أن عدداً كبيراً منهم تزوج من مصريات وبهذا " جمعتهم روابط الدم والمصاهرة بين أبناء هذه البلاد والمغاربة، مما كان له بالغ الأثر الكبير في تعميق الروابط والتلاحم فيما بينهم.علماً أن ذلك لم يقتصر على القاهرة، بل شمل جميع انحاء ومدن مصر ففي الاسكندرية ورشيد ودمياط مثلاً وحسب ما اوردته وثائق المحكمة الشرعية كانوا يشكلون نسبةً ليست قليلة من الجالية .
وهكذا كان المغاربة متغلغلين في القاهرة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية، وفي كل حي تربطهم علاقات حميمة بأهلها، وكانوا مصدر خوف بونابرت بعد احتلاله المدينة إذ كان على يقين بان هذه الجالية تشكل خطراً لما لها من تأثير كبير، فقام في شهر شتنبر سنة 1798 أي قبل عشرة ايام من نشوب ثورة القاهرة الأولى، بترحيل المغاربة من مصر، خوفا منهم وحيطة، وقد اصدر بونابرت قراراً بذلك لكنه عدل عنه بعد أن اقنعه وفد منهم بتعذر المغادرة إلى وطنهم ، المملكة الشريفية بسبب الحصار الذي كان يفرضه الأسطول البريطاني على سواحل مصر من جهة، ونتيجة الدور الإقتصادي الأساسي الذي يلعبه المغاربة في الحياة اليومية المصرية.
ولا مجال للشك في ان وضع المغاربة المتداخل في كل مفصل من مفاصل الحياة الاقتصادية الاجتماعية بالقاهرة خصوصا ،وبمختلف الحواضر المصرية وما افرزه ذلك من ثقل كبير داخل المجتمع المصري، جعلهم إحدى الركائز المهمة للثورتين اللتين قامتا في المدينة تحركهم الأسباب نفسها التي قام بموجبها إخوانهم المصريون سواء كان الشعور الديني الرافض للاحتلال، أو تلك الإجراءات الاقتصادية التعسفية التي طبقها الاحتلال الفرنسي، والتي اثرت في المغاربة الذين كانوا يشكلون جزءاً مهماً من الحياة الاقتصادية والدينية على حدٍ سواء. وبالفعل هناك شواهد عديدة تؤكد الدور الكبير الذي اداه هؤلاء في ثورتي القاهرة الاولى والثانية. ففي الثورة الاولى قدر بونابرت أعضاء لجنة الثورة بما يقارب المائة شخص من ائمة المساجد والمغاربة، ومن جهة اخرى عندما استعرض الجبرتي عناصر الثورة ذكر المغاربة منهم،.
وعلى صعيد أخر أوردت التقارير الفرنسية ان بونابرت اصدر، وبعد اشتداد الثورة أمراً بقصف الأحياء التي وصفها بانها الاكثر تعصباً، فشمل هذا القصف على سبيل المثال لا الحصر حي الفحامين، الذي كانت تسكنه اغلبية مغربية، اضافة الى أحياء أخرى كالصنادقية والغوريه كان يوجد فيها المغاربة، وهذا يعطينا دليلاً قاطعاً على المشاركة الفعلية القوية للمغاربة.
اما في ثورة القاهرة الثانية فكان دور المغاربة أكثر وضوحاً فعندما خرج السيد عمر مكرم نقيب الاشراف والسيد احمد المحروقي " انضم إليهما أهالي خان الخليلي والمغاربة الذين بمصر وكثير من عامة البلد..."،، ومن جانب اخر يشير الجبرتي الى نشاط المتطوعين المغاربة الذين قدموا الى مصر وانضموا مع غيرهم الى الشيخ محمد المهدي الذي زحف ومن معه من المغاربة الى القاهرة، وكان ثقله واضحاً جداً مع من تبعه من المغاربة وعندما اشتدت مآسي القصف المدفعي أراد كليبر ان يفك وحدة عناصر الثورة باستمالة العثمانيين والمماليك، وقف المهدي بقوة ضد هذا الاجراء،.
والجدير بالذكر ان المشاركة الفعالة للمغاربة لم تنته بنهاية ثورة القاهرة الثانية، ولا حتى بجلاء الفرنسيين عن مصر، وانما استمرت الى ما بعد ذلك، فعندما نشب الصراع حول السلطة بين المماليك والعثمانيين، التزم المغاربة جانب السيد عمر مكرم في النضال والدفاع عن قضية الشعب وقد بذل فيها الميسورون منهم مجهوداً كبيراً، ودلت الأحداث على أنهم أسهموا بدور فعّال في تنحية خورشيد باشا وتنصيب محمد علي باشا والي مصر سنة 1804 – 1805.
مثلما كان الوجود المغربي بالقاهرة مؤثراً في مقاومة الاحتلال الفرنسي، كذلك كان في ريف مصر ولا سيما إذا علمنا ان هناك اعداداً كبيرة من القبائل المغربية العربية والأمازيغية المغربية قد استوطنت مصر سواء بالوجه البحري او الوجه القبلي، وهو وجود قديم سبق مجئ الغزو الفرنسي بعشرات السنين. وكانت ابرز المناطق التي وجدوا فيها، المينيا والفيوم والجيزة، حين استقر فيها أمازيغ وعرب من قبائل المغاربة، لاتزال إلى اليوم بعض القبائل الأمازيغية تتواجد عل تراب واحة سيوة، وتحتفظ باللغة الأمازيغية الأصيلة .
وتجدر الاشارة الى ان بعض القبائل المصرية مثل قبيلة هوارة العربية الأمازيغية كانت تشابه في سلوكها مع القبائل المغربية العربية والأمازيغية الاخرى دخل المملكة المغربية الشريفية الى حد كبير، وكان لها الثقل السياسي نفسه، إذ استغلت الضعف الذي اصاب النفوذ العثماني لتقوم باعمال سببت الازعاج لسلطات القاهرة،، من خلال الدور الكبير والمؤثر في الصراعات التي كان يشهدها ريف مصر مع السلطات المملوكية الخارجة عن نسيج المجتمع المصري القبلي .
وعندما جاء الغزو الفرنسي تصدى المصريين مع اخوانهم من القبائل المغربية العربية والأمازيغية الاخرى لهذا الغزو وهو امر لا يحتمل الجدل، إذ إنهم كانوا ضمن هيكلية التنظيم الاجتماعي الريفي في مصر عامةً، فكان ذلك سبباً مهماً في ان يهب ابناء القبائل المغربية العربية والأمازيغية للمشاركة في الدفاع عن مصر على كونهم جزءاً من هذا البلد ، وهو شعور تأصل فيهم الى حد كبير، وذلك امر منطقي فانهم سكنوا مصر منذ وقت مبكر وارتبطوا بهذا البلد خلال طفولتهم وحياتهم وعبر مصالحهم.
لم يقتصر دور المغاربة المقاوم للاحتلال على من كان يعيش منهم في مصر فقد شهدت مصر قدوم متطوعين مغاربة جاءوا باندفاع كبير لمساندة اخوانهم في قتال المحتلين، وكان إحدى السبل الى ذلك قوافل الحج لكي لا يثيروا الشكوك، فقدمت اعداد كبيرة بهذه الطريقة متطوعين من مختلف اقاليم المملكة الشريفية المغربية وهم بهذا يستغلون سياسة بونابرت الرامية الى تشجيع مجيئهم ، الى مصر لكي يثبت لهم ماكان يتظاهر به من انه حامي حمى الاسلام وفرائضه ومواسمه. الا ان ذلك لم ينطل على اهالي تلك الاقاليم الذين كانوا يسخرون منه ويهزئون من سياسته "الإسلامية" واثبتوا له ذلك حين جاءوا وكلهم رغبة بالمقاومة الى جانب شعب مصر.
أثبتت الاحداث ان قوافل الحج المغربية التي كانت تاتي الى مصر عبر الصحراء في موجات متلاحقة لا يفصل بين احداها والاخرى سوى بضعة ايام. كانت معينا لا ينضب لامداد رجال المقاومة الشعبية المصرية بكل المساعدات سواء بالاسلحة او المتطوعين. لذلك فليس من المستغرب ان يشترك المغاربة في حركة محمد المهدي الثورية التي سبقت الاشارة اليها وكانت من اعنف اشكال المقاومة التي لقيها الفرنسيون في مصر.
بينت الاحداث ان ثورة المهدي حضيت بامدادات واسعة وتاييد كبير من الحجاج المغاربة الذين انضموا اليه دفعة واحدة عددهم 400 حاج مسلح بشكل جيد، وبحوزتهم عدد كبير من الجمال، وخاضوا معه معارك ناجحة ضد الكتائب الفرنسية، كما كان لهم دور فاعل في اقلاق مضاجع الفرنسيين في مناطق عديدة من ارض مصر كالمينا واسيوط وسوهاج وقنا، "وهي مدة فريدة في تاريخ المغرب، الدول ذات السيادة ، المستقلة عن السلطة العثمانية وتاريخ المشرق.
تطوع مغربي ودفاع مستميت
تشير المصادر التاريخية الى أن هناك أعدادا كبيرة من المتطوعين المغاربة الذين توافدوا ليكونوا معينا لرجال المقاومة سواء كانوا مع محمد المهدي في دمنهور او في أي منطقة اخرى. وقد وصل عددهم الى نحو اربعة الاف مقاتل،، وكان بعضهم قد ادى دورا فاعلا ومهما في اكثر معارك الصعيد هولا وهي معركة بني عدي التي نوهنا عنها سابقاً، إذ اشترك فيها الفان من المغاربة والحجازيين.
وفي الوقت نفسه الذي كان فيه الشريف مولاي المهدي يقود المغاربة، كان هناك الجيلاني "الجيلالي" المغربي الذي سبقت الاشارة اليه يقود االمصريين في المعارك التي خاضها في قرى الريف المصري. و تجدر الاشارة الا ان ما يثير الإعجاب حقاً أن المتطوعين المصريين عامةً كانوا على استعداد لان يقودهم أي شخص بغض النظر عن كونه من عشيرتهم او من ولايتهم. وكان الجيلاني ومحمد المهدي خير مثال على ذلك. وهذا يكشف لنا الى أي مدى كان الهدف واضحاً لدى هؤلاء المقاومين الذين كانت غايتهم تنصب على قتال المحتلين مؤكدين ان هدفهم الأساس هو الجهاد. وفي الوقت الذي اعطى فيه هؤلاء معنى للشعور الاسلامي الموحد، عكسوا في الوقت نفسه شعوراً قومياً واضحاً، رغم ان الشعور القومي كان انذاك في بداية التكوين ولم يتبلور بعد كما اصبحت الحالة عليه في العشر سنوات التي تلت الحملة.
إن الدور الكبير الذي ابداه المتطوعون المغاربة استفز السلطات الفرنسية التي لمست فعلاً خطر هؤلاء المغاربة بعد الانتصارات الرائعة التي حققوها وما أضافوه للمقاومة من دعم مادي وعسكري ومعنوي. دفع ب "بونابرت" الى فرض اقسى العقوبات على كل اسير غير مصري يقع بين يديه وقد نفذ ذلك فعلا بعد ان امسكت القوات الفرنسية عددا من الاسرى المغاربة فأمر باعدامهم فوراً. وبسبب كثرتهم طلب الجنرال "دوجا" الفرنسي من القائد العام الجنرال بونابرت تصريحاً بالاستعاضة عن اعدامهم بقطع رؤوسهم بالسيف فقط لتوفير الذخيرة.
والحق، فإن ابرز ما يمكن ان نستخلصه من الموقف المغربي تجاه الاحتلال الفرنسي لبلاد الكنانة ، مصر هو ذلك التباين الواضح ما بين المواقف الرسمية المصرية والشعبية تجاه الاحتلال والاندفاع الكبير الذي كان عليه ابطال المقاومة من المغاربة ، ذلك الاندفاع المبني على اعتداد المغاربة حفدة أبطال الزلاقة والأرك وواد المخازن وأنوال وبئر أنزران بانتصاراتهم على الجيوش الأوروبية ، وهي السمة التي تعمقت خارجيا على المستوى العربي خلال قوة وشراسة المغاربة وشجاعتهم في حرب سيناء والجولان ضد الغزو الصهيوني .
ملاحم ظل لها ، ولايزال الدور الفاعل في تعريف الغزاة بدءا من البرتغاليين والإسبانيين والدولة العثمانية ومختلف ممالك أوروبا بقوة المملكة الشريفية ، وتميز المغرب والمغاربة عن مختلف الجيران والأشقاء ، حيث أعطى المغاربة انطباعاً واضحاً عن مدى التلاحم الكبير فيما بينهم من جهة، ومدى تضامنهم للدفاع عن حوزة الإسلام والمسلمين ، كشعور حضاري وديني راسخ .
شارك


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.