كان من الممكن لتاريخ المشرق و تاريخ المغرب ألا يتقاطعا. ومع ذلك فمنذ خمسة عشر قرنا, امتزج مصيرهما معا. فيما يلي بعض المعالم الكرونولوجية لفهم جذور مخيالنا «العربي» الجمعي. القرنان السابع و الثامن: الفتح الإسلامي و صدام الثقافات في نهاية العصر القديم, كانت الجزيرة العربية تجهل كل شيء عن موريتانيا الطنجية التي ستصبح المغرب.فبدون بداية الإسلام و الفتوحات الواسعة التي تلته,لم يكن من الممكن لرجال الجزيرة العربية أن يضعوا أقدامهم فوق سهول إفريقيا الشمالية. بيد أن جذوة الدين الإسلامي و منطق الغزوات الكبرى للعصور الوسطى أتت بهم حتى أبواب إفريقيا الشمالية و أبواب ما سيصبح حاملا إسم المغرب.كان هذا الفضاء الذي سماه الجغرافيون العرب «المغرب الأقصى», يسبح داخل ثقافة محلية بربرية (أو أمازيغية حسب القاموس الحالي),متأثرة بشدة بالثقافة الرومانية خصوصا في المناطق الساحلية, و بالأخص في السواحل المتوسطية. و ستؤدي الفتوحات العربية في القرنين السابع و الثامن, بصرف النظر عن تقطعها و عن تأثيرها اللامتساوي على المناطق و القبائل المختلفة,إلى وضع حد للتأثيرات الرومانية على الثقافة البربرية. و هكذا حصل تحول عميق خلال أقل من قرن و تمت أسلمة شبه عامة للمنطقة إذ شهدت قيام إمارات إسلامية على طولها, من السواحل نحو الداخل و حتى سجلماسة و واد نون (جنوب أكدير). و مع ذلك ,فإن هذه الأسلمة المبتدئة, القوية و الشاملة, ترافقت بشرخ أول لم يتم جسره لحد الآن.فإذا كان المغاربة قد قالوا نعم للإسلام و تبنوه و كيفوه مع أسس ثقافتهم, فإنهم رفضوا الاستبداد العربي الذي رافق إرساء النظام السياسي لهذه الامبراطورية الوليدة. و بالفعل فإن الفاتحين العرب لم يحملوا معهم معتقدات جديدة فقط, بل حملوا أيضا ممارسات متوحشة. فالولاة العرب و جيوشهم لم يقتطعوا الجبايات فقط, بل قاموا بالنهب و اغتصاب النساء و قتل الرجال, تحت غطاء الإيمان بتفوق «العنصر العربي». و كان رد فعل البربر على هذا الاستبداد المتعجرف هو الثورة التي قادها «ميسرة المدغري» خلال سنتي 739 و 740 . هذه اللحظة الكبرى ستدشن نوعا من التمايز بين إسلام المشرق و إسلام المغرب.و سيعمل السكان على كبت هذه الصدمة المعيشة, التي ظلت كامنة عميقا داخل المخيال الجمعي, هذه الصدمة ستبزغ فيما بعد بصورة متفرقة, معيدة إلى الأذهان ذلك التعارض بين الأمازيغ و العرب. 788-987 : الأدارسة و اندماج المغرب في «العالم العربي» مع توالي الفتوحات الإسلامية, اتسع تأثير الجزيرة العربية ليمتد من آسيا الصغرى إلى حدود روسيا, ومن العراق حتى أبواب الهند, و من الخليج العربي إلى السواحل الأطلنتيكية لإفريقيا الشمالية. و قد شكل هذا الجزء الأخير النواة الصلبة للفضاء الذي سار فيه العرب المسلمون. و هو ما سيصبح فيما بعد «العالم العربي» (الواقع أنه عالم معرب أي مسلم يتكلم العربية) . و قد تم ميلاد هذا الكيان الثقافي عبر تلاقحات إثنية و لسانية مختلفة, و عبر سلسلة من النزاعات السياسية التي طبعت فترات تفاهم و تنازع بين الممالك و الإمارات. و قد ترافق ميلاد هذا العالم دوما بتنافس الشرعيات و بأحلام الوحدة و التوحيد. فالأدارسة الأولون انحدروا من نسل عربي مشرقي هو إدريس الأول, المنشق عن النظام العباسي و الذي نزح نحو «المغرب». و قد تم استقبالهم من طرف قبائل بربرية, تشاطرهم نظام الشرعية التي يدعون إليها: أي أولوية نسل النبي محمد (ص) أو «أهل البيت». هذا التقارب الأيديولوجي سيسهل عملية انغراس «الشريفية» ببلاد البربر, مع ما يستتبع ذلك من إضفاء الشرعية على النظام السياسي من خلال الإمامة, و التمييز الإثني من خلال الانتساب لنسل النبي (ص). و قد تدعمت هذه المعلمة بمعلمتين أخريتين لا تقلان أهمية. المعلمة الأولى هي بناء القرويين بفاس سنة 808 .هذا المسجد- الجامعة سيكرس الإسلام كدين أول بالمغرب, كما سيطور ? من خلال تدريس الشريعة- تدينا مغربيا. و بذلك ولدت معرفة فقهية ,حملها المغاربة, ذات خصوصيات معترف بها في العالم الإسلامي كقيمة مضافة. أما المعلمة الثانية فهي مغربة اللغة العربية. فهذه الأخيرة , و هي لغة النخبة بكل تأكيد, قد تبناها كل من كان قادرا على الكتابة. و مع الأدارسة, و بغض النظر عن تشرذم دولتهم إلى إمارات متعددة, فإن المغرب الوليد قد أصبح جزءا من هذا «العالم العربي» قيد التكوين. 1038-1156 :المرابطون ينأون عن المشرق بعد فترة وجيزة على وفاة إدريس الثاني, أصبح الفضاء المغربي موضوعا لمطامع الأمويين بالأندلس والفاطميين بإفريقية (تونس), و هما دولتان عربيتان من الغرب الإسلامي. و شكل أهم ما قدمه المرابطون, هذه العائلة البربرية القادمة من أعماق الصحراء, هو تحقيق الاستقلال السياسي للنظام المغربي عن المركز المشرقي. فالأدارسة حملوا معهم حلم خلافة تغطي مجموع الفضاء الإسلامي,تشكل ثأرا إلاهيا ضد الأمويين و العباسيين الذين غصبوا, في نظرهم,حكما يعود لأهل البيت. أما المرابطون, فقد تخلصوا من فكرة «السعي نحو المشرق» رغم احتفاظهم بالإسلام كدين ل «الدولة» و بالعربية كلغة «رسمية». و خلال حكم المرابطين, تأكد المذهب المالكي كمذهب مهيمن,مهمشا كل المذاهب الأخرى, خاصة المذهبين الخارجي و الشيعي. و في مركز هذا التحول, نجد الدور المؤسس للقرويين. فهي التي كرست البعد العربي- الإسلامي في الثقافة المغربية, تحت غطاء دولة بربرية مؤسسة على قاعدة العصبية, أي الشعور بالانتماء لصنهاجة, تلك الكونفدرالية الكبرى. تلك كانت المرة الأولى التي تتقاطع فيها العربية و الأمازيغية بشكل بناء. لا سيما أن مغرب المرابطين,في هذه الظرفية, قد أصبح قوة إقليمية معترفا بها. بتمكنه أولا من تحويل الأندلس من قوة طامعة في المغرب إلى تابع بسيط له بعد انتصاره في معركة الزلاقة سنة 1087 , ثم ببسطه الاستقرار في مجموع التراب المغربي,بالرغم من التقلبات في ذلك العصر. و بدت بعض التخوم كحدود معترف بها : مثل نهر السنغال جنوبا و تلمسان شرقا و الأندلس شمالا و المحيط الأطلسي غربا.ففي زمن المرابطين, أصبح المغرب ممثلا ممتازا للعالم العربي في الغرب الإسلامي . 1156-1269 :الموحدون أو عظمة المغرب الإسلامي تعد الامبراطورية التي شيدها الموحدون منذ بداية القرن الثاني عشر, أكبر امبراطورية عرفها الغرب الإسلامي. فقد امتدت من برقة (ليبيا حاليا) حتى الأطلسي و من الصحراء حتى الأندلس, التي أصبحت تابعة للموحدين منذ انتصارهم في معركة الأرك.ففي الوقت الذي تهالكت فيه بغداد و قام الصليبيون بهجماتهم داخل أرض الإسلام, كانت الامبراطورية الموحدية القوة السياسية الأولى في الغرب الإسلامي و أقوى بحرية في العالم العربي. فقد كان أسطولها البحري في البحر المتوسط يزرع الرعب مثلما يجلب التودد, إلى درجة أن الأيوبيين في الشام و مصر لم يترددوا في طلب مساعدته لهم أمام أساطيل الصليبيين. و لم يكن إشعاع المغرب في العالم العربي , سياسيا و عسكريا فقط.فقد تحول مركز التفقه الديني و العلمي أيضا من المشرق إلى الغرب, و خاصة إلى المغرب (فاس و مراكش). فعلى الصعيد الفقهي, كانت الظاهرية السنية القادمة من الشرق تكرس التقليد, و ذلك بوضعها أمام طلبة العلم أسفارا و مختصرات للحفظ و السرد, و إعادة الممارسات الثقافية للقدماء. و سيتم استبدال هذا الأسلوب بأسلوب آخر يتمثل في السعي نحو البحث عن المعرفة الفقهية العميقة. و هكذا تمت العودة للأصول خاصة من طرف المهدي بن تومرت. و أدى كل ذلك إلى قراءة مغربية للفقه الإسلامي, خاصة في بداية الدولة الموحدية. على الصعيد الفلسفي,كانت المفارقة أكثر قوة. فالمشرق الإسلامي كان يختنق تحت تأثير التيارات الأصولية (رسمية و شعبوية) بينما كان الغرب الإسلامي يعرف ازدهار التأمل الفلسفي و الفكر النقدي, خاصة مع محاضرات و كتابات مفكرين كبار مثل ابن رشد و ابن ميمون. و بذلك بلغ إشعاع المغرب درجة أن مجموع المفكرين العرب آنذاك كانوا يتمنون أن تصبح الدولة الموحدية خلافة إسلامية كبرى تغطي أرض الإسلام جميعا. في ذلك العهد كان المغرب فعلا في مركز العالم العربي. 1250-1465 :خطأ المرينيين الكبير سيتم وقف الموحدين في «أوج قوتهم».و السبب هو اعتزامهم القيام بحملة كبرى لإسترجاع الأندلس و قيامهم بتعبئة عسكرية أجبروا خلالها كل القبائل المغربية على المساهمة. بيد أن هذا الجيش الكبير سيحصد هزيمة مدوية أمام مسيحيي إسبانيا و ذلك في معركة «العقاب» سنة 1212 .لم تكن الهزيمة بسبب نقص في القوات و لكنها حصلت بسبب أخطاء في قيادة و تنسيق القوات المعبأة, التي تنازعتها القبائل و الزعامات الدينية المتنافسة. و قد كانت هذه الهزيمة مكلفة في الأموال و في الأرواح و خصوصا في السمعة. ففي هذه الظرفية الخاصة , التي تتعارض و القوة الفعلية للموحدين, اختار المرينيون أن يضربوا ضربتهم و يقضوا على أكبر امبراطورية بالغرب الإسلامي. و باستثناء قضائها على الدولة الموحدية, لم تتمكن الدولة المرينية , و هي أيضا من أصول بربرية (زناتة), أن تشيد دعائم امبراطوريتها . و هكذا خرجت الأندلس من تحت النفوذ المغربي, كما خرجت إفريقية من السيادة المرينية رغم الحملات المكلفة للسلطانين المرينيين أبو الحسن و أبو إيمان ضد التمردات المتكررة للقبائل العربية. و هكذا لم تبسط الدولة المرينية نفوذها سوى على إقليم صغير. و لإتمام اللوحة, انتقل الانحدار العربي الذي يعيشه المشرق إلى المغرب. و هكذا عاش المرينيون «أزمة ضمير» لتسببهم في وضع حد لإشعاع كبير. و بهذا فسر المؤرخون, خاصة منهم محمد القبلي, أزمة الشرعية التي نخرت العهد المريني. و لإبعاد هذا الحمل الثقيل,عمل السلاطين المرينيون على تقريب الشرفاء الأدارسة محاولين الاستفادة من رأسمالهم الرمزي: أليسوا هم من أهل البيت؟ و عملوا خصوصا على تدعيم الثقافة العربية- الإسلامية. و في عهدهم, أصبحت القرويين جامعة دولية. و أصبحت القراءة المغربية للإسلام مدرسة فقهية حقيقية. إنها مدرسة فاس (العمل الفاسي), و هكذا بدت فاس, في زمن الانحدار العربي العام, مثل شمعة في قلب الظلام. 1510-1658 : السعديون, قوس مليء بالأمل بعد المرينيين, عرف المغرب الدولة الأكثر ضعفا: دولة الوطاسيين (من 1471 إلى 1554). و هي الدولة التي ستكرس تقهقر البلاد كي تتماهى مع الانحدار العربي العام. ففي تلك الفترة تم احتلال السواحل المغربية من طرف الإيبيريين.و بذلك تحولت «دار الحرب» التي كانت خارج تراب المسلمين, إلى داخل البلاد. و ترافق ذلك مع ازدهار للزوايا و الصوفية و مع معتقدات و ممارسات طقوسية بعيدة عن العقل الفلسفي النقدي الذي كان سائدا في عهد الموحدين. و تطورت شبكة الزاوية الجزولية ابتداء من 1472 ,منقسمة إلى ناصرية و عياشية و شرقاوية و دلائية... إلى درجة أن هويات الأفراد أصبحت تنسب إلى الزاوية أكثر منها إلى القبيلة فبالأحرى إلى البلاد. و من أعماق هذا «الثقب الحضاري» لمع قوس السعديين, الذين بدأوا تقدمهم من الجنوب نحو شمال المغرب, لكنهم لم يقضوا فورا على الوطاسيين. و هكذا حكمت الدولتان معا بشكل متزامن طيلة أربعة عقود.و رأى فقهاء المالكية أن الوطاسيين هم الشرعيون بينما رأى معظم المغاربة, و على رأسهم علماء الجنوب, أن السعديين يتوفرون على شرعية مزدوجة: نسبهم الشريف و جهادهم ضد الاحتلال الإيبيري. و بطبيعة الحال فقد غذى التنافس بين الدولتين النزاعات المسلحة. و سيتحول المنطق الثنائي, الذي يهيكل العقل الديني, لبرهة, إلى منطق حوار بين شرعيتين تتقاطعان. و هكذا شيد السلام الذي وقع في «أنماي» على ضفاف أم الربيع سنة 1530 ,على شرعية الدولتين معا. و بذلك فتح الفقه المالكي, الذي يمنح الشرعية للخليفة, نافذة نحو إنسية مغربية. بيد أن هذه النافذة سيتم إغلاقها بعنف حينما استولى السعديون على فاس و اغتالوا مفتي المدينة (هو نفسه ربما الذي حرر معاهدة السلام سنة 1530) فانهارت الدولة الوطاسية نهائيا. وبعد انتصارهم على خصومهم, استحوذ السعديون على الفقه.و استفادوا من تسارع التطورات التاريخية التي عرفها العالم العربي مع سقوط بيزنطة و نهضة الغرب. حيث أيقظ قيام الدولة العثمانية في المشرق الاعتزاز بكرامة مجروحة, غير أن الهوية الدينية كانت تتجاوز الهوية العربية مما خلق أدى إلى تدهور للثقافة و اللغة العربيتين. أما في المغرب فقد شكل قيام السعديين كمملكة توحد البلاد ضد الخطر المسيحي الإيبيري, أملا إذ تحولت الدولة المدعومة من طرف البربر إلى دولة شريفية منبثقة عن مجتمع يجمعه العامل الديني قبل القبلي, و حيث أصبح الجهاد ضد الكفار المسيحيين أداة الانتفاضة العامة. و هو ما منح السعديين شرعية قوية مشابهة لشرعية العثمانيين في المشرق. و جاء انتصار المغاربة ضد البرتغاليين سنة 1578 في معركة الملوك الثلاثة (وادي المخازن) ليسمح للمغرب بأن يصبح قوة إقليمية مهيبة الجانب في العالم. و أمام العثمانيين الذين يقفون أمامهم شرقا و الغربيون أسياد الشمال و المحيط الأطلسي, حاول السعديون فتح فضائهم الحيوي نحو الجنوب. فكانت حملة إفريقية (نحو السودان الغربي) التي قادتهم, ابتداء من سنة 1591 إلى تومبوكتو و نهر النيجر و مناجم الذهب فيه .و في المخيال العربي لنهاية القرن السادس عشر,غذى السعديون (عكس العثمانيين) أمل انبعاث خلافة عربية كبرى. و هو الأمل الذي لم يتحقق, ففي زمان العولمة الأولى ذاك, كانت الإنسانية العربية هي الوحيدة القادرة على منافسة نهضة الغرب, بيد أن ذلك الأمل تم إجهاضه بإغلاق قوس 1530 . 1658-1830 :العلويون و التواصل مع أوربا غير قيام الرأسمالية في الغرب المسيحي علاقات القوة على الصعيد الدولي.و تراجع العالم العربي ومعه المغرب. في هذا الظرف الاستثنائي برز العلويون في الفضاء المغربي. و كان من المفهوم أن أساس الاهتمام المغربي ينصب على أوربا الغازية, إذ كان باقي العالم العربي تحت الإدارة العثمانية.و لم يعد التنافس بين العلويين و العثمانيين يتم حول نزاعات ترابية إذ يبدو أن اتفاقا حول احترام «أرض الإسلام» قد تم بين الطرفين مقابل الانكباب على «أرض الكفر». و هكذا اختفى العالم العربي ككيان ثقافي و سياسي, لتحل محله الدولة العثمانية في الشرق و الامبراطورية الشريفية في المغرب. و هكذا أخذ التنافس بين «الأشقاء» مظهرا آخر, مظهرا رمزيا تمثل في مقاومة الغرب بجميع الأشكال و المبررات و اكتست هذه المقاومة قيمة عليا. و بذلك أمست القرصنة «جهادا بحريا» و أصبح الدفاع عن الإسلام و الأماكن المقدسة فريضة دينية. و إلى جانب تدعيم حكمهم على التراب المغربي, لم يتخل العلويون عن واجباتهم الدينية: فقد ساندوا مواكب الحجاج إلى مكة و ضاعفوا الأعطيات للأماكن المقدسة بالجزيرة العربية و حافظوا على تأثير الإسلام في إفريقيا ما وراء الصحراء, بل و دعوا ملك فرنسا لويس الرابع عشر إلى اعتناق الإسلام (في رسالة من مولاي اسماعيل). 1830-1962 :الاستعمار و ميلاد الوعي الوطني اهتزت الامبراطورية العثمانية بعنف مع حملة نابليون على مصر, بينما صدمت الامبراطورية الشريفية سنة 1830 باحتلال الجزائر من طرف الفرنسيين. في الحالتين معا, خلقت الحداثة الغربية (التي شكل العمل الاستعماري مظهرها السياسي) شرخا كبيرا مس كل الهياكل, حتى الذهنية منها.فالقوات الغربية كانت تزعم قيامها ب»رسالة حضارية» بينما كانت القوات المحلية, في المشرق كما في المغرب, تعاني لإيجاد أجوبة ذات مصداقية و قادرة على التعبئة ضد التحدي الغربي. و إلى جانب الخلافات الداخلية, أدى الضغط الكولونيالي إلى ضرب سيادة الامبراطوريتين. فقد تم اقتطاع أجزاء ترابية كبرى منهما بالاحتلال أو الإلحاق كما أدى ذلك في النهاية إلى مركب نقص تجاه الغرب المسيحي. و سيكون لصدمة الحداثة الغربية عدة نتائج في المجالين معا.فمن جهة, تم تشكيل كيانات محلية ذات تطلعات وطنية, و من الجهة الثانية حصل تطور تيار فكري يدعو إلى تجديد البنيات الثقافية و الذهنية العربية المسلمة. هذا التيار المجدد أتخذ « السلفية» إسما له. و شكل هذا بداية للعودة إلى الأصول, بادئا من مصر ثم امتد إلى المغرب العربي و إلى بلاد إسلامية بعيدة مثل ماليزيا و باكستان. هذا الرابط الثقافي سيتدعم من خلال التنقلات المتعددة للحجاج نحو الأماكن المقدسة و من خلال الصحافة العربية الوليدة. هكذا بدأت أفكار جديدة في التداول , ببطء لكن بثبات, بين المغرب و الفضاء العربي. و قد عملت هذه الأفكار على تخصيب الثورات ضد الفعل الكولونيالي و خلقت شروط ازدهار الوطنيات داخل مجالاتها الترابية. و سيشكل هذا التناسل داخل العالم العربي مشكلا شائكا: أمة عربية واحدة أم عدة أمم عربية؟ لم تتمكن السلفية من حل هذه الإشكالية بسبب أرومتها الدينية. فتبني السلفيين لكلمة «أمة» من السجل الديني كرس اللبس الثقافي و الذهني. إذ أن مفهوم الأمة العربية المرتبط بالإقليم يتطابق و العالم العربي لكن الفعل الاستعماري يفضل التضامن بين المجتمعات الجديدة الصاعدة و هنا بدأ زمن الصراع ضد الآخر (المستعمر, المغتصب, الرومي, الكافر...) في هذا الجو من الصراعات ضد المستعمرين,تفتتت الامبراطورية العثمانية, بعد الحرب العالمية الأولى, إلى مجموعة من البلدان المستعمرة أو تحت وصاية قوة غربية.و ولد مفهوم جديد هو مفهوم «البلد الشقيق» لكنه ظل هو أيضا يسبح في غموض التداخلات بين التعريفات المختلفة ل»الأمة».فالحركات الاستقلالية داخل العالم العربي لها تاريخ محلي لكنها جميعها ترتبط بمخيال جمعي يرتكز إلى ركنين هما الإسلام كدين و العربية كلغة. و رغم أن المغرب اقتطع جزء كبير من ترابه و انقسم إلى عدة مناطق و خضع للاستعمارين الفرنسي و الإسباني,فقد استفاد و ساهم في التضامن العربي الذي رافق الكفاح من أجل الاستقلال. ففي 1930 مثلا, خلال الأحداث الأليمة التي أدمت البلاد (المظاهرات ضد الظهير البربري) عبر العالم العربي عن تضامن كبير مع المغرب.و هكذا جرت ملتقيات و مؤتمرات و تصريحات مساندة للمغاربة في كل من يافا و نابلس و القدس في فلسطين , و كذا في بغداد و الموصل و الفلوجة في العراق و القاهرة في مصر و صنعاء في اليمن , دون ذكر مدن المغرب العربي. فقد غاصت عصبة الأمم برسائل الاحتجاج ضد السياسة الكولونيالية الفرنسية بالمغرب. و في 1945,أنشئت الجامعة العربية بالقاهرة من طرف الدول التي حصلت على استقلالها. و أسس مكتب خاص, مكلف بمساندة الحركات الاستقلالية بالمغرب العربي,ترأسه الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي,بمساعدة كل من علال الفاسي و الحبيب بورقيبة. و في سنة 1948, حين أعلن عن قيام إسرائيل غاصبة التراب الفلسطيني و حارمة الفلسطينيين من حقوقهم الوطنية, خرجت عدة مدن مغربية (بل وبواد مثل سوس) في مظاهرات لعدة أيام احتجاجا على هذا العدوان. و خلال الأربعينات و الخمسينات, لم يتمكن الوطنيون من تدويل «القضية المغربية» بدون الدعم النشيط , داخل اللجنة الرابعة للأمم المتحدة, للدول العربية المستقلة خاصة العراق. و في عام 1952,و عقب اغتيال المخابرات الفرنسية للزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد,تحولت الدار البيضاء إلى مسرح لتظاهرة كبرى تضامنا مع تونس على شكل إضراب عام و مواكب سيارة.و قد بلغت التعبئة درجة أن سلطات الحماية الفرنسية قمعتها قمعا دمويا و فرضت حالة الحصار, مع منع الصحف من الصدور و حظر الأحزاب و النقابات. و وصلت هذه السياسة القمعية أوجها بخلع السلطان محمد بن يوسف يوم 20 غشت 1953.و هو الحدث الذي هز العالم العربي بأكمله و خاصة الجزائر و مصر, التي قدمت لعلال الفاسي إذاعة القاهرة لتوجيه خطاباته منها.و هكذا سينشط الوطني المغربي برنامجا مسموعا جدا في المغرب,ضد فرنسا الاستعمارية, مطالبا باستقلال المغرب و بعودة الملك المنفي. و في ختام الكفاح ضد المستعمر,بقي العالم العربي الفضاء الجغرافي المقسم, كيانا يشغل المخيال الجمعي على الشكل الغامض ل»الأمة» . بينما ظل على صعيد الواقع السياسي و الاقتصادي مجموعة من الدول المستقلة تجتمع داخل الجامعة كي تتحدث عن «وحدة عربية». و على الساحة أصبحت الحدود الموروثة عن الاستعمار أكثر انغلاقا, و في بعض الأحيان موضوع نزاع بين «الأشقاء». بيد أن هذا الانقسام داخل العالم العربي لم يمس «الوحدة الوجدانية» التي تتحرك كلما تعرض شعب من الشعوب العربية لعدوان أجنبي. مثل الشعب الجزائري خلال حرب التحرير (1954-1962) و الشعب الفلسطيني منذ 1948. 1955-2011 : بداية الخلافات داخل العالم العربي تطور مفهوم الأمة العربية من صيغته الأولى إلى الصيغة البعثية: «القومية العربية» التي استحوذت على مجال واسع من المخيال العربي الجمعي. و هكذا في سنة 1956 حينما تعرضت مصر و سوريا (اللتين توحدتا في الجمهورية العربية الموحدة سنة 1958) لعدوان القوات الغربية خلال حرب السويس, خرج مئات الآلاف من المتظاهرين المغاربة ضد هذا العدوان. و قد بلغ التأثر حد أن المتظاهرين كانوا يذرفون الدموع و هم يرفعون شعاراتهم. فقد كان الرابط القومي يحرك قلوب المغاربة. و بالرغم من أن الكثيرين لم يكونوا يعرفون ميشيل عفلق, مؤسس حزب البعث إلا أن جمال عبد الناصر في المقابل كان بطلا لا منازع له و رمزا لحركات التحرر العربية. بيد أن هذا الرابط القومي العربي سيتعرض لمنافسة روابط أخرى, على غرار الروابط التي تنسجها كل دولة على حدة داخل مجتمعاتها. و بذلك تحول الفضاء العربي من فضاء - خلال الفترة الاستعمارية - للتنقل الحر للناس و البضائع , إلى فضاء مقسم بين الدول الوطنية تحول فيه تنقل الناس و البضائع إلى شبه العدم. و في بداية الستينات,توزعت الأنتلجنسيا المغربية بين تيارين وازنين. أحدهما فرانكوفوني, قوي بالموروث الاستعماري و طامح إلى علاقات جديدة مع أوربا يدعم من خلالها تلك الروابط القديمة مع المستعمر. و الآخر, عروبي, مدعوم بالروح القومية و بالروابط القوية مع الجامعة, و الحالم بتحويل الحماس الشعبي للتحرير المشترك إلى وحدة عربية فعلية على شكل دولة عربية قوية «من الخليج إلى المحيط» على غرار الولاياتالمتحدة: دولة فدرالية كبرى توحدها اللغة و التاريخ المجيد المشتركان. في مناخ «البحث عن الذات» هذا, اندلع نزاع حدودي مغربي- جزائري. حرب الرمال (أكتوبر 1963) التي ستلغم بعمق ليس فقط الحلم المغاربي, بل أيضا الرأسمال الرمزي الذي كان يمنح «المجموعة» العربية معنى. و تدخلت مصر عبد الناصر «قلب العالم العربي» كما كان يقال آنذاك, عسكريا إلى جانب الجزائر, و خلال هذه الحرب تم أسر الطيار المصري حسني مبارك من طرف المغاربة و قطعت كل العلاقات مع مصر و منع دخول أي إنتاج أدبي أو سينمائي مصري إلى المغرب. و بدأت حملة تنديد كبيرة في وسائل الإعلام المغربية بينما ازدهرت حملات معادية في كل من الجزائر و القاهرة. و انطلقت الحرب بين الوطنية الشوفينية و بين القومية الأيديولوجية, و غرق كل من البلدين في مستنقعات الصراع حول السلطة. و هكذا فرض الملك الحسن الثاني حالة الاستثناء بدءا من 1965 و طفق في زرع التقليدانية في المجتمع المغربي, ماسحا البدايات الخجولة لتحديث العقليات. و جاءت هزيمة يونيه 1967 كي تكرس رؤياه للأمور.أما عبد الناصر , الذي أصبح ضعيفا داخل بلده, فلم يعد يرفع شعار الوحدة العربية كأولوية, بل أصبح يميل أكثر إلى التنسيق بين الدول بغض النظر عن اختياراتها الايديولوجية. و مع وفاة عبد الناصر المفاجئة (1970) و مشاركة القوات المسلحة الملكية في حرب أكتوبر (1973) سيعمل الملك الحسن الثاني بذكاء على استثمار مصداقيته لدى الدول العربية المعتدلة و علاقاته مع «العالم الغربي» كي يقدم منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات, كمحاور مقبول على الصعيد الدولي. و في 1974 ,خلال القمة العربية بالرباط. نجح فيما لم ينجح فيه عبد الناصر من قبل: إقناع قادة الدول العربية و على رأسهم الملك حسين ? بإعلان منظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني. و بذلك أصبح ملك المغرب,الشخصية ذات الكاريزما الخاصة, وسيطا لا محيد عنه في أي مفاوضات تهم الشرق الأوسط. و قد كان مسموعا من القادة «الثوريين» الفلسطينيين كما من أمراء الخليج «الرجعيين».و هذا ما جعله ممثلا للعالم العربي على الساحة الدولية. و من المفارقة أن هذا النجاح لا يتطابق مع الوزن الفعلي للمغرب داخل الرقعة الدولية فالمغرب ليس حتى «قوة إقليمية». مستفيدا من هذا التموقع الدولي,بدأ المغرب في استثمار علاقاته مع الدول العربية المعتدلة, خاصة منها إمارات الخليج. و بذلك استقطب المغرب المساعدات النقدية أو العينية (البترول) و القروض منخفضة الفائدة و الاستثمارات المباشرة... كما استقطب الأفكار و العادات.فالمغرب, المعتدل في تدينه,ترك نفسه عرضة لإغراء الراديكالية الوهابية القادمة من السعودية. وكان من نتيجة استعمال الحسن الثاني و وزيره في الأوقاف للحقل الديني, بهدف تقليص التأثير المتزايد للحركات التحديثية, أن عبد الطريق أمام الإسلاموية المغربية, التي ستقتحم الحقل السياسي في بداية التسعينات. و ازداد تأثيره خلال فترة التناوب التوافقي و بدأ يلعب دور الفاعل السياسي الذي لا محيد عنه بعد عمليات ماي 2003 (الإرهابية.م). و كما في باقي العالم العربي. عمل الفتور الذي أصاب القومية العربية و كذا الإسلامية الأصولية أمام العولمة الاقتصادية و الثقافية, على تطور المطالبة بالمواطنة. هذه الصيرورة الطويلة حفرت في بناء الذهنيات المحافظة شرخين كبيرين. من خلال أحدهما تسرب السعي الحثيث نحو تطوير شروط الحياة و من خلال الثاني تسربت المطالبة باحترام كرامة الإنسان. لم يحصل بعد تملك لثقافة حقوق الإنسان و المواطن كما هي متفق عليها كونيا, بيد أن الحركة في هذا الاتجاه قد بدأت. هذا التطور الجديد هو ما أثمر ميلاد «الربيع العربي» و صيغته المغربية, حركة 20 فبراير. فربما هو عالم عربي جديد في طور الولادة. ومغرب الغد كما كان مغرب الأمس, جزء أساسي منه. عن مجلة «زمان» المغربية العدد 8 لشهر يونيه 2011