كنت أقرأ البارحة صفحات من كتاب ” الإمبراطورية المورطة” الذي يناقش العولمة والمقاومة في النظام العالمي للقرن الواحد والعشرين ” وهو كتاب شيق من تأليف جماعة من الباحثين والجامعيين الأمريكيين تحت إشراف ستانلي أرنوتيز أستاذ علم الاجتماع في الجامعة المركزية بنيويورك والسيدة هيثير غونتي الباحثة بنفس الجامعة , الكتاب الصادر عن دار بيزيك بوكس - في غاية الخطورة ليس فقط لأنه شهادة غريبة ضد ممارسات العولمة الظالمة , بل لتأكيده بشكل علمي على أن العولمة هي قوة تفجيرية وتدميرية للنظام العالمي , كما يكشف عن تطورات التحالف الآثم بين أمريكا وإسرائيل . إن العنف هو جوهر النظام العالمي للقرن الواحد والعشرين , فنجد النصف الثاني من القرن العشرين أي أثناء الحرب الباردة انحصر العنف في العالم الثالث , فقد كانت الدولتان الأعظم ” أمريكا –روسيا ” تتصارعان من خلال الآخرين وليس بشكل مباشر , لكن .. في أوائل القرن الواحد والعشرين أصبح العنف منتشرا فى كل مكان تماما كالعولمة الأمريكية , فالإمبراطورية الجديدة التي تحكم العالم أصبحت تستخدم العنف كسياسية متعمدة لإخضاع العالم كله , وتعتبر إسرائيل هي أداة أمريكا القمعية في الشرق الأوسط , وفي الواقع أن التحالف الإسرائيلي الأمريكي تم في أواخر الخمسينيات بسبب المصالح المشتركة والمتقاطعة بين الطرفيين , فأمريكا كان يهمها بشكل أساسي المحافظة على أمداها بالنفط من الشرق الأوسط , وإسرائيل كان يهمها بالدرجة الأولى استعمار فلسطين وطرد سكانها وجلب اليهود من شتي أصقاع الأرض إليها , وقد تعهدت أمريكا بدعم إسرائيل مقابل قيام إسرائيل بدور الشرطي المحلي المخيف للعرب . لقد استطاعت إسرائيل إقناع أمريكا والغرب كله بأنه يحق لها أن تحتل فلسطين كتعويض عما لحق باليهود من مجازر أثناء الحرب العالمية الثانية , وبما أن الغرب الأوروبي كان يشعر بالذنب تجاههم فانه سمع بإقامة وطن لهم في فلسطين , ومنذ ذلك الوقت بدأت الجريمة الكبرى ولا تزال مستمرة حتى هذه اللحظة , وبما أن الشعب الفلسطيني سيشكل عقبة في وجه هذا المشروع الذي لم يشهد له التاريخ مثيلا من قبل , فقد لجأت إسرائيل إلى إنكار وجوده أولا , ثم إلى تدميره ثانيا أو طرده من بلاده على دفعات وبشكل تدريجي لكي تحل محله أفواج اليهود القادمة من شتى أنحاء العالم , إن العولمة الإرهابية الأمريكية السائدة حاليا اقتنعت بمقولة إسرائيل بأنه لا فرق بين مقاومة الاحتلال والإرهاب , وهنا يكمن وجه نظر سياسية بوش الحالية , فهي تخلط بين أعمال المقاومة الفلسطينية الباسلة التي تقرها كل الشرائع الدولية وبين الإرهاب . إن العولمة التي تتمحور الآن حول تقليص الزمن والمسافات عن طريق ربط العالم كله بوسائل الاتصال الحديثة , تمثل مرحلة جديدة من مراحل الاستعمار أو الهيمنة الغربية على العالم , التي بدأت منذ القرن 16 وبلغت ذروتها في القرن19 , ثم وصلت مرحلتها الحالية بالهيمنة المطلقة للإمبراطورية الأمريكية , فنجد أن الشركات الغربية مارست فى القرن التاسع عشر عملية احتلال لأسواق الجنوب , ثم راحت تحتل بلدان الجنوب عسكريا بعدئذ , وهذا يعني أن التغلغل الاقتصادي سبق مباشرة التغلغل السياسي , وبعد الاستقلال حصل استعمار من نوع جديد فباسم سياسية التعاون وتنمية البلدان الفقيرة راحت دول الغرب القوية تهيمن على مقدرات العالم الثالث بعد انسحابها منها عسكريا , واليوم ظهر نمط جديد من الاستعمار , فلم تعد دول الجنوب هي التي تمارسه بشكل مباشر أو غير مباشر, وإنما أصبحت الشركات الكبرى متعددة الجنسيات هي التي تمارسه الآن بفروعها المنتشرة كالإخطبوط في كافة أنحاء العالم , وعن طريقها يستطيع الغرب أن يسيطر اقتصاد العالم والتحكم به . إن كلمة تنمية في الواقع هي كلمة جميلة وإيجابية , والعالم الفقير بأمس الحاجة إلى التنمية ولكن .. ما الذي يقصده الغرب بها ؟ عندما تتفحص الأمور عن كثب نلاحظ أن الغرب استخدمها كبديل عن كلمة الاستعمار أو الإمبريالية التي لم تعد مناسبة كما كان عليه الحال فى القرن التاسع عشر , وبالتالي ففي كل عصر يتخذ الاستعمار وجها جديدا , فنجد المنظر الاستعماري الإنجليزي يقول “ ينبغي أن نجد أراضي جديدة لكي نحصل على المواد الأولية اللازمة لصناعتنا وينبغي في ذات القوت أن نستخدم اليد العاملة المحلية الرخيصة , يضاف إلى ذلك أن المستعمرات سوف تصبح عبارة عن أسواق تصدر إليها فائض السلع التي تنتجها مصانعنا , كما كان يؤكد الكاتب حول فيري “ إن الاستعمار وسيلة ضرورية لإدخال الشعوب المتخلفة في الحضارة الغربية ” لم تكن بعض البلدان الآسيوية مستعدة لتقديم أسواقها ويدها العاملة الرخيصة ومواردها كهدية للقوى العظمى الغربية , ولهذا السبب تعرضت لضغوط عديدة لكي تتخلى عن موقفها , فقد شنت القوى الاستعمارية الغربية حربين على الصين لكي تجبرها على فتح موانئها للتجارة الإنجليزية والفرنسية , وهددت أمريكا اليابان إن لم تفعل ذلك وقد فعلته , وإذا كانت المعارضة المحلية قوية جدا ومضادة للتغلغل الاستعماري فان بريطانيا وفرنسا كانت تلجأ إلى الاحتلال العسكري المباشر للبلد العاصي , أو فى ضمه إليها لكي تستطيع أن تفعل فيه ما تشاء , وكانت عندئذ تسحق القوي الشعبية والشخصيات الوطنية , فانهارت المجتمعات في آسيا وأفريقيا شيئا فشيئا , ومع الوقت تغيرت هذه الأساليب بشكل عصري تحت مسمى العولمة , التي تقودها أمريكا الآن . يرى المؤرخ البريطاني” أريك هوبسباوم ” أن بريطانيا استطاعت أن تشكل العولمة الأولى بين عامي 1860/ 1873 , والاستعمار لم يمت بعد منتصف القرن العشرين ليس لأن الغرب تخلى عن امتيازته السابقة في البلدان المستعمرة وإنما أصبح يستطيع التوصل إليها بدون استعمار مباشر وبشكل أكثر فعالية وأقل تكلفة , وأصبحت الولاياتالمتحدة الآن تتحكم في اقتصاد العالم من خلال المؤسسات المالية الكبرى التي أنشأتها مثل ” البنك الدولي – منظمة التجارة العالمية – صندوق النقد الدولي – شركاتها العابرة للقارات ” وكذلك العديد من الهيئات الأخرى مثل “ نادي باريس ومنظمة الدول السبع أو الثماني الأكثر غنى وتصنيعا فى العالم وغرفة التجارة الدولية ومعرض دافوس الدولي بسويسرا “ وفقا لذلك فإن العولمة والإمبريالية الجديدة شيئان متلازمان أو وجهان لعملة واحدة , والدليل على ذلك أن مفهوم العولمة تم تبنية ونشره على أوسع نطاق من قبل الشركات المتعددة الجنسيات أو العابرة للقارات . لقد أوهمونا منظرو العولمة الأمريكية بأن هذه الظاهرة كونية وإجبارية وبالتالي فلا داعي لمقاومتها , وأنها ظاهرة خيرة ولصالح البشرية ككل , وبالتالي فما علينا ألا نقبل بها , إنها قدر محتوم لا مرد له , ولكن العولمة كرأس المال المرتبط به بشكل عضوي هي فى الواقع وسيلة استغلال على مستوى الكون بأسرة , ووراء هذه الظاهرة التي تكتسح العالم حاليا يوجد أغنياء وفقراء ومستفيدون وضحيا وليس صحيحا أن الجميع يستفيد منها بنفس الدرجة , فنجد هذه الشركات تتكالب على عقد الصفقات التجارية مع الدول الفقيرة , فهي تتنافس فيما بينها على صفقات الأسلحة أو سواها بشكل مسعور وهائج , ومن يفوز بالصفقة يشعر بالفخر والاعتزاز ولا يخطر على بال أرباب هذه الشركات أن العالم الثالث فقير ويقف على حافة الجوع . هناك أيديولوجية كاملة ترافق العولمة وأول مبادئها هو أن الاقتصاد أو الاستهلاك الإقتصادى هو دين العالم الجديد , وكل شيء يمكن أن يتحول إلى سلعة تباع وتشترى بما فيها الإنتاج الثقافي أو الفني أو الأدبي فالمال يشتري كل شيء , ولا توجد قيمة نبيلة تعلو عليه , وهذه العبادة للمال والرأسمال تدهشنا نحن الغربيين , فقد كنا نعتقد انه توجد قيم فكرية أو ثقافية أو فلسفية تتجاوز القيم الاستهلاكية , ولكننا نكتشف شيئا فشيئا أن كل شيء يخضع للمادة , والواقع أن هذا الانقلاب في القيم حديث العهد في أوروبا , ففي السابق كان المال يدل على قيمة سلبية بل وكانوا يخجلون في التظاهر بامتلاكه بكثرة , ولكن .. الإنسان الحالي في الغرب لم يعد يخجل من إعلان احترامه للمال , بل وعبادته له تقريبا لأنه أصل الأشياء ولأنك تستطيع أن تفعل به ما تشاء , ولا يهم كيف حصلت إلى المال ولا بأي وسيله ؟ وهل هو حلال أم حرام ؟ وهذا شيء غريب يدل على اختلال في القيم والمعايير السائدة . ففي السابق كانوا يحترمون الإنسان الشريف لأنه لا يتوصل إلى المال إلا بعرق جبينه , وأما الآن فأصبحوا يحترمون الإنسان الانتهازي بشرط أن يكون غنيا , هكذا نلاحظ أن القيم المادية أصبحت السمة الأساسية لمجتمعات الحداثة , يضاف إلى ذلك التنافس المحموم على امتلاك السلع المادية أو تحصيل أكبر قدر ممكن من المال بأي شكل كان , فأنت إنسان لا قيمة لك إلا بقدر حسابك في البنك , وكلما زاد حسابك زادت قيمتك , وهكذا يمكن أن نتحدث عن الشعوب والدول مهما كان تاريخها الثقافي والحضاري .