الجزء الرابع لقد كشفت هذه الأزمة شيئا جديدا عن طبيعة الاقتصاد الرأسمالي، الأمريكي تحديدا، وهو السعي لجني الأرباح الهائلة والسريعة من خلال المجازفة، ليس على أساس إنتاج حقيقي. بعد الأزمة المالية الكبيرة التي تجلت في انهيار مؤشر التكنولوجيا المتطورة “ناسداك” عام 2000، على خلفية التلاعب في سجل حسابات الشركات وتوقعات وهمية بالنسبة لقدرة الانترنت على إحداث نمو اقتصادي غير محدود، فقد وجد رأس المال مجالا آخر لزيادة أرباحه، هو مجال الائتمان والقروض. غير أن الفارق بين المجالين نوعي وخطير. ففي حين اعتمد مجال الانترنت على منتجات حقيقية ووعد بثورة اقتصادية، يعتمد مجال الائتمان على المقامرة في أسواق المال تماما كما يحدث في الكازينو. هذا الكازينو عبارة عن مؤسسات مالية نخبوية تُعرف باسم “صناديق التحوط” (Hedge Funds)، وهي ليست مفتوحة لعامة الشعب، بل للأثرياء فقط. كل صندوق يمكن أن يستوعب 500 مستثمر كأقصى حد، يدفع كل منهم رسوم اشتراك بقيمة مليون دولار كأدنى حد. ويصل اجر مدير الصندوق إلى 1-2% من قيمة الأصول (assets) و20% من الأرباح. والاهم أن صندوق التحوط غير مسجل، ولا يخضع للرقابة مثل صناديق الاستثمار العادية. السيولة النقدية الهائلة والمكسب السريع، قادا لانتشار ظاهرة صناديق التحوط في أنحاء العالم، حتى باتت توصف بأنها مالكة الكون، إذ تسيطر على ثلث مداولات الأسهم، وبحوزتها أصول بقيمة 2 تريليون دولار (تريليون يساوي ألف مليار). في عام 2006 وصلت أجور بعض مدراء صناديق التحوط الرئيسية إلى مليار دولار. تعمل هذه الصناديق على أساس الاقتراض من مؤسسات مالية كالبنوك بأسعار فائدة منخفضة، ثم تستثمر هذه الأموال مقابل فوائد مرتفعة وتربح من الفرقية بين القيمتين، وهو ما يسمى “الرفع المالي”. حول هذه الطريقة وتأثيرها على عولمة الأزمة، يكتب الخبير الاقتصادي كينيث روجوف في موقع “الاقتصادية” الالكتروني (13/9): “إن صناديق التحوط اقترضت مئات مليارات الدولارات بأسعار فائدة منخفضة للغاية من اليابان، ثم استثمرت أرباحها في بلدان مثل البرازيل وتركيا، حيث أسعار الفائدة مرتفعة. وطالما ظل الين ضعيفا فان هذه الاستراتيجية الاستثمارية ستظل تعمل وكأنها ماكينة نقود. ولكن إذا ما ارتفع سعر الين بصورة حادة، كما قد يحدث بسهولة نظرا للفائض الهائل لدى اليابان في حسابها الجاري، فلسوف تتحمل بعض صناديق التحوط خسائر مالية فادحة وتنهار التجارة المحملة على الين بصورة عنيفة”. استثمرت صناديق التحوط بما صار يعرف ب”الأدوات المالية” التي تدرّ أرباحا خيالية. فما هي هذه الأدوات وما علاقتها بأزمة الائتمان العقاري التي تهدد العالم؟ يُقصد بالأدوات المالية ما يسمى ب”مشتقات الائتمان”، وهي عملية تحويل القروض المختلفة، مثل قرض الرهن العقاري وغيره، إلى سندات يمكن تداولها في الأسواق المالية. إحدى هذه “الأدوات المالية” كان التداول بسندات معتمدة على القروض الممنوحة في سوق القروض العقارية الثانوية (subprime). خلافا لسوق القروض الرئيسية، تقوم شركات القروض في السوق الثانوية بمنح قروض إسكان (ماشكانتا) مسهَّلة لزبائن لا يتمتعون بتاريخ ائتماني جيد، بمعنى أنهم يحصلون على قروض دون دفع أي سلفة ودون إثباتات موثّقة حول أحجام وقيم أجورهم وممتلكاتهم. المهم تشجيعهم على الاقتراض لجباية أرباح من الفوائد. ووصلت قيمة سندات هذه السوق منذ عام 2000 إلى 1,8 تريليون دولار. وقد قام صندوقا التحوط التابعان لشركة “بير-ستيرنز”، البنك الاستثماري النيويوركي، بجمع مئات ملايين الدولارات من مستثمرين أثرياء، واقترضا أضعاف المبلغ من البنوك الكبيرة في وول ستريت، وبدآ التداول بسندات سوق القروض العقارية الثانوية، حتى أعلنا إفلاسهما. ولم تتوقف المجازفة عند حد الاستثمار في سندات قروض أُعطيت بلا ضمانات، بل حدث ما هو اخطر. احد “المشتقات الائتمانية” الأخرى، التي من شأنها أن تفسر حجم خطورة المقامرة التي دخلت فيها صناديق التحوط، هو الرهان حتى على انقباض سوق الائتمان، وعلى تراجع قيمة الأوراق المالية المدعومة بأصول والمعروفة باسم “التزامات الدين المضمونة”، ومن ضمنها القروض السكنية في السوق الثانوية. وقد نشرت “الاقتصادية” أن احد مدراء صناديق التحوط راهن على خسارة مؤشر أي. بي. اكس. للسندات القائمة على قروض الرهن العقاري في السوق الثانوية، واستطاع تحقيق الربح حين انهارت أسعار السندات المذكورة. كيف حقق ذلك؟ يشير المصدر إلى أن هذا المدير اشترى عقود تأمين لحماية 30 سندا ضد احتمال العجز عن سداد القروض، ودفع فعليا 0.6% من قيمة السندات في السنة. يزيد المصدر انه “في حال تم استرجاع القروض يكون قد خسر مبلغ التأمين الذي دفعه فقط، وقيمته 0.6% في السنة، أما العائد المحتمل إذا عجزت المؤسسات عن تسديد قيمة جميع السندات فسيكون 100%. وهو يتوقع الآن على خلفية أزمة الائتمان أن يربح بنسبة 100% على نحو 20 سندا”. وتشير قصة هذا المدير إلى أن هناك من يربح 100% على استثماراته، بينما لا توفر البنوك العادية للمستثمر العادي فائدة أكثر من 4%. في حين قاد انهيار بورصة الأسهم في مجال التكنولوجيا المتطورة عام 2000، إلى موجة استياء وعدم ثقة الجمهور بهذه الشركات، فان الأزمة الراهنة في سوق الائتمان تؤدي إلى انعدام الثقة بين البنوك نفسها. لا احد من البنوك يستعجل لإقراض البنك الآخر، لأنه لا يعرف ما وضعه المالي الحقيقي، علما أن بنوكا مهمة عديدة شاركت بدرجات مختلفة في الاستثمار في سوق الرهن العقاري الثانوي من خلال صناديق التحوط الخاصة بها، والتي كما أسلفنا لا تخضع لأية رقابة ولا يمكن معرفة القيمة الحقيقية لاستثماراتها، خاصة على ضوء الأزمة. المنطق وراء رفض الإدارة الأمريكية فرض الرقابة على صناديق التحوط التي احتلت البورصة وباتت تهدد السوق العالمية، هو أن المبالغ التي ضخّتها هذه الصناديق للبورصة سمحت بانتعاشها. ولكن الحقيقة أن هذه الصناديق بدأت تلعب وتقامر بالائتمان نفسه الذي يشكّل ركنا أساسيا في الاقتصاد الأمريكي، وحولت الرهان على الديون بكل أشكالها إلى مصدر أساسي للربح. ولم يأت هذا الرهان من فراغ، بل من الواقع الأمريكي الغريب الذي يرى في الائتمان محرّكا أساسيا للنمو الاقتصادي. العائلة الأمريكية مضطرة للاقتراض باستمرار لرفع مستوى معيشتها، ويتم تشجيعها طول الوقت على الاستهلاك. خلال الأزمة الأخيرة مثلا، رهنت عائلات بيوتها بعد أن ارتفعت قيمتها بسبب الفقاعة، لدى شركات الرهن العقاري، وحصلت بالمقابل على مبالغ تسمح لها بدفع رسوم تعليم أبنائها في الجامعة، شراء سيارة جديدة، شراء أدوات منزلية مثل الشاشات التلفزيونية الحديثة. الطبقة الوسطى الأمريكية مديونة لشركات الائتمان المختلفة التي تفرعت في شتى المجالات من العلاج الصحي، التعليم العالي، السيارات، المشاريع الاقتصادية الصغيرة وحتى حاجات الاستهلاك اليومي. من وراء هذه السياسة يقف أصحاب رؤوس الأموال، كالكواسر تحوم في الجو وتراهن تارة لصالح شركات الائتمان، وتارة أخرى تراهن على عجزها عن جباية استحقاقاتها. مرة تغري المواطن الأمريكي باستثمار توفيراته في البورصة، كما كان الحال في التسعينات، وعندما فقد كل ما يمتلكه، تدفعه لأخذ قرض دون ضمانات على أن يدفع مقابله فوائد عالية. في المرة الأولى سرق رأس المال من المواطن كل ماله، وفي المرة الثانية يُقرضه من ماله المسروق، ويجبي منه فائدة عالية، حتى يعجز عن السداد فيصادر منه بيته. في كلتا الحالتين يستفيد رأس المال الذي يعيش من المقامرة على حساب الإنسان البسيط. الأزمة الراهنة ليست سوى امتداد طبيعي للازمة التي سبقتها، فالنظام الرأسمالي لم يخرج من محنته بل لا يزال يغرق فيها. أنها أزمة أخلاقية، اجتماعية وسياسية في آن واحد. أن من يسيطر على العالم اقتصاديا لا يرى فائدة في الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي الذي يخلق ثروة حقيقية ويمنح العامل أساسا ماديا للحياة. أن الاستثمار الحقيقي يستوجب احترام حقوق العامل وتوفير اجر محترم له، وهذا لا يضمن للأثرياء أرباح 100 في المائة كما يريدون. أن هذا النظام يمتص دماء البشرية، يسلب من العامل توفيراته الضئيلة التي يمكن أن تضمن له مستقبله، ثم يأخذ منه بيته، مكان عمله وكرامته. خطط إمريكية وزارة الخزانة الأمريكية كشفت تفاصيل الخطة الحكومية لإنقاذ القطاع المصرفي في الولاياتالمتحدة وذلك بعد الإعلان عن رصد 700 مليار دولار لتنفيذها. وجاء في بيان لوزارة الخزانة إن الخطة تتيح لوزير الخزانة هنري بولسون بالتنسيق مع رئيس الاحتياط الفيدرالي ( البنك المركزي الأمريكي) الحصول على الصلاحية التي تخوله شراء أصول بنوك وشركات ومؤسسات مالية أخرى طالما كان ذلك ضروريا لتثبيت الأسواق المالية. لكن الخطة التي وصفها بوش بأنها “ضخمة لأن المشكلة هائلة” سترفع سقف الدين الأمريكي العام من مستوى 10.6 إلى 11.3 تريليون دولار وهو ما من شأنه أن يزيد الضغوط بشكل كبير على مجمل الاقتصاد الأمريكي الذي يعاني بشدة من نزيف السيولة بسبب الحرب في العراق وأفغانستان. وفي محاولة لاحتواء الاضطرابات في أسواق المال، أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية أيضا أنها ستدعم ب 50 مليار دولار صناديق الاستثمار التي تتعامل في سوق النقد وانخفضت قيمة أسهمها عن دولار واحد. وقال وزير الخزانة الأمريكية هنري بولسون أن التدخل غير المسبوق والشامل للحكومة، يعتبر الوسيلة الوحيدة للحيلولة دون انهيار الاقتصاد الأمريكي بشكل أكبر، موضحا أن خطة وزارته تركز على إنشاء وكالة حكومية جديدة من شأنها ابتلاع كافة الأصول التي تهوي بالمؤسسات المالية الأمريكية. وتعليقا على التدخلات الحكومية الأمريكية، قال رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي بن برنانكي إنها ضرورية لضمان ألا تؤدي الديون المعدومة إلى انهيار النظام المالي والاقتصاد. ولم تكن الخسائر التي تكبدتها الأسهم في بورصات نيويورك يوم “الاثنين الأسود” بتاريخ 15/9/2008 سوى غيض من فيض كما يقال حيث يحوم شبح الإفلاس حول عدد من المؤسسات التي تشكل ركنا مهما من أركان النظام المالي الأمريكي. وقدرت خسائر وول ستريت في ذلك اليوم بحوالي 600 مليار دولار، وهي الأسوأ منذ الخسائر التي تكبدتها غداة هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001. تأثير أزمة الائتمان العالمي على العالم العربي بقيت أسواق الأسهم العربية بمنأى عما يحدث في الأسواق العالمية، وشهدت خلال الأسابيع القليلة الماضية من شهر 9/ 2007 تقلبات شبه طبيعية والسبب في ذلك يعود إلى أن غالبية اللاعبين في هذه الأسواق هم من المستثمرين الأفراد الذين ليس لهم تواجد يذكر على الساحة العالمية، إضافة إلى قلة الترابط بين أسواقنا والأسواق الدولية. أما المستثمرين من بنوك ومؤسسات وشركات عالمية والذين استثمروا في السندات المغطاة بأصول عقارية أو في صناديق التحوط التي تأثرت بشكل مباشر بالأزمة المالية الراهنة فهؤلاء سيتعرضون لخسائر يصعب الآن تقديرها. إن إنكشاف المصارف العربية على أزمة الرهن العقاري الأمريكي وأدواته المالية يعتبر محدوداً. فمعظم البنوك العربية لا تستثمر سوى القليل في مثل هذه الأدوات، أما البنوك التي لها حيازة في صناديق تحوط تستثمر في سندات مغطاة بأصول عقارية فخسارتها ستكون بقدر حيازتها لمثل تلك الأصول. وحسب استطلاع أجرته شركة التصنيف الائتماني “ستاندرد آند بورز” أخيراً فإن مجموع استثمارات بنوك المنطقة في سندات الرهن العقاري ذات التصنيف الائتماني المنخفض لا يزيد على %1 من مجموع أصول هذه البنوك. إن التقلبات الحاصلة في أسواق المال العالمية سيكون لها بعض الأثر على البورصات العربية، خصوصاً أسواق الأسهم التي تسمح للمحافظ العالمية الاستثمار فيها. ففي فترات الأزمات يتجه المستثمر إلى تخفيض نسبة المخاطرة لديه ويتحول من الأسواق الناشئة إلى استثمارات أكثر سيولةً وأماناً مثل السندات الحكومية. وعلى الرغم من صغر حجم تدفقات محافظ الاستثمار العالمية إلى أسواقنا المحلية إلا أنها ساهمت أخيراً في تحديد التوجه العام للبورصات العربية. ويشار إلى أن أكبر أسواق الأسهم الإقليمية من حيث القيمة السوقية، ألا وهو سوق الأسهم السعودية، لا يسمح للأجانب بامتلاك الأسهم إلا بشكل غير مباشر عن طريق صناديق الاستثمار التي تديرها البنوك المحلية، في حين أن أسواق كل من الإمارات والكويت ومصر وقطر والأردن تشهد وبشكل متصاعد زيادة في حجم الاستثمارات الأجنبية في بورصاتها. إن أكبر المخاطر التي قد تنجم عن الأزمة المالية الحالية هو احتمال حصول تباطؤ اقتصادي عالمي. فالهبوط الذي سُجل أخيراً في أسعار العقارات السكنية في أمريكا وغيرها من الأصول والذي صاحبه ضغوط إضافية على عملية التسليف سيكون له أثر سلبي على المستهلك الأمريكي المثقل أصلاً بأعباء الديون، مما قد يؤدي لاحقاً إلى ظهور أزمة في قطاع التسليف عن طريق بطاقات الائتمان وارتفاع في معدلات تخلف الشركات عن سداد ديونها. وهذه كلها بوادر لعملية تباطؤ اقتصادي قد تطول أو تقصر بحسب السياسة المالية والنقدية للولايات المتحدة. وسيشعر القائمون على السياسة النقدية في دول المنطقة أنهم مضطرون لمجاراة السياسة النقدية التوسعية التي أخذت الولاياتالمتحدة باتباعها أخيراً، وهذا سيؤدي إلى انخفاض أسعار الفائدة المحلية وأسعار صرف العملات العربية المرتبطة بالدولار وسيزيد من الضغوط التضخمية التي ظهرت مؤخراً في عدد من دول المنطقة.