لا زالت أسئلة كثيرة تتناسل حول تدبير المغرب لمنطقة الصحراء الغربية منذ استعادتها من اسبانيا بداية 1976 إلى حين اندلاع المواجهات الدموية التي شهدتها يوم الثامن من نونبر 2010 مدينة العيون كبرى حواضر المنطقة. إذ أنه ليس من المنطقي أن تكون نتائج عملية نقل منطقة برمتها من نهاية القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين بكل ما تحمله في طياتها من تطور في العمران والبنيات التحتية الأساسية .. مواجهات دموية ! وكأن ثلاثة عقود ونصف لم تكن قد مرت على جهود إدماج المنطقة وسكانها بالمغرب. وقد تكون هناك قراءات متعددة مختلفة لقيام مخيم "اكديم ايزيك" الذي أقيم على مشارف المدينة منذ منتصف أكتوبر الماضي.. وحول كيفية تطور هذا المخيم ليصل الحشد فيه إلى أكثر من 20 ألف نسمة يطالبون بالسكن والتشغيل.. كذلك تكون القراءة بالتأكيد متعددة ومختلفة حول كيفية تفكيك المخيم وتوقيته وتداعياته ، لكن هناك قراءة واحدة موحدة لدى جميع المعنيين تتلخص في الإقرار بفشل تدبير المنطقة وأساسا الإخفاق في تدبير متطلبات الشباب والجيل الذي ولد بالمنطقة منذ عودتها للمغرب . مشاريع تنموية.. وأزمة متجاهلة ما رُوي وما أظهرته الوثائق المصورة فوتوغرافيا أو تلفزيونيا كشف عن عنف شرس وأحيانا وحشي مارسه شباب صحراويون محتجون ضد قوات الأمن ومؤسسات الدولة ، ولا يكفي لتفسير هذا العنف الذي وصل أعلى درجاته بذبح أحد رجال الأمن أو التبول على جثث رجال الأمن القتلى أو حرق مؤسسات الدولة والمؤسسات الخاصة ورفع علم جبهة البوليساريو عليها، القول بأن أيادي جبهة البوليساريو كانت الطولى في تلك المواجهات وأن العديد ممن مارسوا العنف قتلا أو حرقا كانوا من " حديثي العودة إلى العيون من مخيمات تندوف " حيث التجمع الرئيسي للاجئين الصحراويين وجبهة البوليساريو والزعم بأن هؤلاء عادوا " في سياق مخطط للجبهة لإشعال العنف بالمنطقة " . لقد عرفت المدن الصحراوية ، ومدينة العيون تحديدا ، خلال العقود الثلاثة والنصف الماضية ، طفرة تنموية ملموسة تشبه كثيرا الطفرة التي شهدتها مدن الخليج بعد ارتفاع أسعار النفط في سبعينات وثمانينات القرن الماضي. وإذا كانت هذه الطفرة بالنسبة للدولة المغربية تمثل تعويضا للمناطق الصحراوية عن 20 عاما تفصل تاريخ استقلال المغرب (مارس 1956) عن استعادة الصحراء ، فإن الاستعمار الاسباني، الذي كان يحتل المنطقة، تركها بطبيعته كما احتلها (أي أنه لا يقيم فيها أية بنيات تحتية إلا بما يسهل عمل قواته واستغلاله لخيراتها)، وهو ما حمّل الدولة المغربية عبء إنجاز تنمية تعوض المنطقة عشرات السنين ، إلا أن ما ساعد المغرب على انجاز هذه التنمية نجاحه في إقامة الجدار العازل الذي ضمن للمناطق الصحراوية المأهولة بالسكان استقرارا وأبعد قوات جبهة البوليساريو عن المشاريع التنموية المنجزة . وإذا كانت الدولة المغربية تبرز هذه المنجزات وتفتخر بها ، فإنها بالمقابل كانت تتجاهل أزمة حقيقية بالمنطقة ، وهي أزمة التنمية البشرية وتحديدا أزمة الشباب ، التي لم تكن أحداث يوم الثامن من نونبر 2010 تجلياتها الأولى ، فلقد عرفت مدينة العيون وعدد من المدن الصحراوية توترات اجتماعية تحولت إلى مواجهات سياسية عامي 1999 و2005 . وفي كل مرة، كانت السلطات تقرأ خطأ أسباب هذه المواجهات وتدبّر بشكل خاطئ تداعياتها التي تمهّد إلى شكل جديد من أشكال الأزمة عادة ما يُعبر عنها بشكل جديد من المواجهات، مع أن العاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني سبق أن أقرّ في إحدى تصريحاته بأن " المغرب كسب الصحراء ولم يكسب الصحراويين " . مسيرة البحث عن الذات وبالعودة إلى شيء من التاريخ، فقد تأسست جبهة البوليساريو ، حسب العديد من الكتابات والشهادات ، من طرف شباب ينتمي إلى المناطق الصحراوية بقيادة الوالي مصطفى السيد ، تعرضوا للاضطهاد على أيدي الأجهزة الأمنية المغربية لأنهم طالبوا في احتجاج نظموه بداية سبعينات القرن الماضي في مدينة طانطان ب "مبادرة مغربية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب " التي كانت تُعرف بالصحراء الاسبانية وعرفت فيما بعد سياسيا بالصحراء الغربية . وبحكم أن طبيعة المنطقة وسكانها تحفز دائما على الاندفاع نحو الحرية والاعتزاز بالنفس والقبيلة وبالتالي الشرود، فإن جبهة البوليساريو التي أسسها الوالي شكلت جاذبا للشباب في المنطقة وساعدتها على ذلك عوامل متعددة من بينها قمع السلطات المغربية بعد استعادة الصحراء من إسبانيا لكل الأصوات الرافضة للاندماج بالمغرب ومحورة اهتمام السلطات بشيوخ القبائل وأعيان المنطقة ولعبها في كثير من الأحيان على تناقضات هذه القبائل وتفرد الدولة بالنشاط السياسي بالمناطق المستعادة وحظر العمل السياسي بالمنطقة على الأحزاب الديمقراطية المعارضة. وحين سمحت السلطات لهذه الأحزاب بالنشاط داخل المدن الصحراوية (في موفى التسعينات)، وجدت نفسها في غربة عن سكانها ولم تجد أمامها سوى الأعيان أو مواطني مدن مغربية أخرى يقطنون بالمدن الصحراوية في الوقت الذي كانت تشارك فيه في تدبير الشأن العام في البلاد وافتقد خطابها نكهة المعارضة التي تستوعب تمرد الشباب وتؤطره. كانت المدن الصحراوية حتى تسعينات القرن الماضي، تفتقد شبابها الذين كانوا إما جزءا من قوات جبهة البوليساريو أو موزعين على عدد من المدن المغربية في سياق مشروع "أشبال الحسن الثاني"، ومع وقف إطلاق النار والترهل الذي أصاب جبهة البوليساريو وشظف العيش في المخيمات وتعثر مشروع أشبال الحسن الثاني وبوادر أزمة البطالة لم يعد الشباب الصحراوي يجد من مكان يُؤويه إلا مدينته بين أحضان عائلته التي تضمن له على الأقل الحد الأدنى من احتياجاته اليومية (التي تضاعفت) إذ تؤمّن له ذلك بطاقة الإنعاش الوطني التي تمنحها الدولة (1500 درهما شهريا). إحباط.. فاحتجاج.. فعنف وخسائر سياسيا، بقي الشباب الصحراوي، يبحث عن ذاته. فالمؤسسات الحزبية المغربية التي يراها أمامه لا تلبي له طموحاته ولا تجيب عن أسئلته، وجبهة البوليساريو، بعد كثافة العائدين من صفوفها إلى المغرب، لم تعُد تشكل نموذجا يمكن تحمّل أعباء تمثله، وإن كانت أطروحاتها الداعية إلى إقامة دولة مستقلة، تتراءى له بين الفينة والأخرى (في ظل استفحال أزمته الاجتماعية) بل لا يتحرج من الإعلان عن ذلك إذا ما وجد الزمان والمكان المناسبين. وإذا كانت مواجهات 1999 و2005 و2010 مواجهات بارزة ومناسبة للتعبير العنفي عن الرغبات الدفينة لدى الشباب الصحراوي، كأي شباب بحكم السن ومستلزماته وتعبيراته، فإن الجامعات المغربية في الرباط ومراكش وأغادير كثيرا ما كانت تشهد مثل هذه التعابير. وقد يكون مشروع الحكم الذاتي الذي اقترحه المغرب لتسوية دائمة ونهائية للنزاع على الصحراء هدأ كثيرا من غضب الشباب لامتزاج الاقتراح بطموحات وآمال بالحصول على مكاسب ملموسة من ثروات وخيرات منطقة غنية بالسمك والفوسفات لا يتعدى عدد سكانها عشرات الألوف من الأشخاص، لكن المدى الزمني لإنجاز مقترح الحكم الذاتي ليس واضحا لأنه ليس رهين قرار الدولة المغربية لوحدها بل مرتبط بقرار الطرف الآخر ومدى ذهاب الأممالمتحدة في القبول بهذا المشروع. وبالنظر إلى أن الوضع الاجتماعي والاحتياجات الحياتية لم يعودا يحتملان انتظارا طويلا، كان لا بد من التعبير عن الاحتجاج الذي تجسد في مخيم "اكديم ايزيك" (الذي تتهم السلطات جبهة البوليساريو بتحويله إلى احتجاج سياسي) وولّد عنفا ذهب ضحيته 11 رجل أمن ومواطنان وملايين الدولارات من الخسائر في الممتلكات العامة أو الخاصة. تغيير حقيقي في الآليات والعقليات؟ المنظمات الشبابية المغربية تقر بأزمة تواجدها بين الشباب المنحدرين من مدن الصحراء الغربية وفي هذا السياق يقترح علي اليازغي، الكاتب العام للشبيبة الاتحادية (شبيبة الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، حزب مشارك في الائتلاف الحكومي) ضرورة تواجد تنظيمي للمنظمات الشبابية في المدن والأقاليم الجنوبية "لإعطاء الشباب في هذه الأقاليم بديلا نضاليا حقيقيا من خلال الدفاع عن مطالب مشروعة لهم والنضال من أجل تحسين ظروف عيشهم وحياتهم الاقتصادية الاجتماعية وأيضا لتوعيتهم بأهمية دورهم في النضال الديمقراطي في المجتمع المغربي المُوحد ". ويقول علي اليازغي في تصريحات لسويس أنفو : " إن شبيبة حزبية اعتبرت أن من أولوياتها تقوية تواجدها التنظيمي بعد سنوات من حرمانها من النضال في المناطق الجنوبية خاصة وأن الظروف التي يعيشها الشباب في هذه المناطق تسهل على الطرف الآخر استعمالهم في معركته ضد الوحدة الترابية وجذبهم باتجاه الفكر الانفصالي وهو ما يتطلب تغييرا حقيقيا في العقليات والآليات السائدة منذ سنوات " ، على حد قوله. ولا ينفي الكاتب العام للشبيبة الاتحادية وجود اختلاف في هذه الفئة من الشباب المغربي يفرضه واقع المنطقة والنزاع حولها حيث أن لها "بديلا آخر غير الانتماء والاندماج بنضال الشباب المغربي". ويوضح اليازغي أنه "بغض النظر عما إذا كان الانفصال بديلا وهميا أو حلما كاذبا أو صعب التحقيق فإنه يشكل لهذه الفئة بديلا يتعايش معه ما دام لا يجد أمامه بديلا آخر". ويضيف قائلا: "على المنظمات الشبابية الحزبية المغربية أن تقدم له بديلا وطنيا وحدويا يتمتع لديه، كمنظمات وبدائل، بالمصداقية وأن لا تترك الأمور وتدبير التعاطي مع الشباب لسلوكيات تدفع نحو اليأس والتيئيس والارتماء في أحضان أي مشروع يدغدغ أحلاما ويبني أوهاما حتى لو كان على حساب الشباب ومستقبلهم " . * موقع " سويس أنفو " الإلكتروني