لم تدخل مسائل الحدود العربية والخلافات الناشبة حولها الوعي العربي إلا في الأعوام التي أعقبت انتهاء الخلافة العثمانية وبدء الاستعمار والانتداب الغربيين فبعد أن كان التنقل متاحاً للجميع في ما يعرف ب"ديار الإسلام" ظهرت المنافذ الحدودية وتأشيرات الدخول المسبقة والهويات المحلية. وإذا كان الجيل الأول من دعاة القومية العربية قد راهن على زوال تلك الحدود، فإن أحفاده وجدوا أنفسهم بعد قيام "الأنظمة الوطنية" في وضع أسوء، فقد ترسخت الحدود، خاصة بعد ظهور الثروات الطبيعية، ووصل الأمر لحد اندلاع "حروب الإخوة،" وبات العربي يحتاج لتأشيرة قد لا يحصل عليها أبداً لدخول دولة مجاورة بينما يشاهد بأم عينيه منح التأشيرات على المطارات للوافدين من الدول الغربية. ولا يمكن أن نعيد كل المشاكل الحدودية إلى الإرث الذي تركه "الاستعمار،" فالهويات المحلية والقطرية باتت راسخة في أذهان العرب، أما الحديث عن القومية والإرث المشترك فبات ضيفاً ثقيلاً على قمم الجامعة العربية والمنتديات السياسية التي فشلت حتى في تعزيز التجارة بين الدول العربية. وبسبب الأساليب التي اتبعت في رسم الحدود العربية، دون مراعاة لغياب الفواصل الطبيعية في الكثير من الأحيان وطبيعة السكان الرحّل في أحيان أخرى فإننا اليوم نكاد لا نجد دولة عربية لم تشهد خلافات حدودية مع "أشقائها" المجاورين. ففي منطقة الخليج يبرز الخلاف بين السعودية من جهة، وكل من الكويت والعراق والإمارات واليمن وسلطنة عًمان وقطر والأردن من جهة أخرى. ففي عام 1991، وصل الخلاف السعودي القطري إلى حد الاشتباك المسلح في منطقة الخفوس، ما أدى لسقوط قتلى من الجانبين، أما مع الكويت فقد استمر الخلاف لفترة طويلة حول ما يعرف ب"المنطقة المحايدة" التي اتضح أنها غنية بالنفط قبل اتفاق عام 1965 التي لم تحل الخلافات في المياه الإقليمية حول جزر تقع في المنطقة. وفي عام 1975، توصلت السعودية والعراق إلى اتفاق ينص على تقسيم المنطقة المحايدة بين البلدين، أما مع البحرين، فلم يبرز الخلاف إلا مطلع العقد الرابع من القرن الماضي، مع منح المنامة حقوق تنقيب في منطقة "فيشت أبو سعفة،" ولم يحل الخلاف إلا بعد عقدين عبر تقسيم المنطقة جغرافيا والاشتراك في منابع النفط فيها. وفي الجنوب الشرقي، فإن الخلاف حول واحات البريمي كان معقداً، مع دخول الإمارات وسلطنة عُمان فيه، وقد حلته السعودية مع إمارة أبوظبي عام 1979 مع حصول أبوظبي على الواحات مقابل حصول السعودية على منطقة سبغة مطي وسلطنة عمان على قرى بالمنطقة، قبل أن يعود الموضوع للبروز مع احتجاج السعودية أخيراً على ظهور المنطقة في الهويات الإماراتية. وبالنسبة للنزاع حول مناطق الربع الخالي بين سلطنة عُمان والسعودية فقد وضعت اتفاقية لتنظيمه عام 1990، تحفظ عليها اليمن التي كانت منقسمة آنذاك بدورها. كما برز الخلاف بين الإمارات وسلطنة عُمان، علماً أن الإمارات تطالب بجزر تقول إن إيران تسيطر عليها في الخليج. وبالنسبة لقطر والبحرين، فيعود الخلاف بينهما حول جزر حوار إلى العقد الثالث من القرن الماضي، ولم يحل حتى عام 2001 بقرار من محكمة العدل الدولية التي استجابت للكثير من المطالب البحرينية، علماً أن البحرين ما زالت تشكو بين الفينة والأخرى من قضية ثانية تتمثل في الكتابات التي تظهر في إيران وتدّعي تبعية الجزيرة بكاملها لإيران. أما الشكل الأبرز والأكثر دموية للنزاعات الحدودية في الخليج فكان الغزو العراقي للكويت، بعد أن وصفت بغداد الكويت بأنها المحافظة رقم 19. وفي الجنوب تبرز قضايا الحدود بين سلطنة عُمان واليمن، وف الشرق بين قطر والبحرين، ولم تنجح الوساطات في حل النزاع حول جزر حوار حتى تدخلت فيها محكمة العدل الدولية، التي حلت أيضاً الخلاف بين اليمن واريتريا حول جزر حنيش في البحر الأحمر. وفي المشرق، ما تزال قضية ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا عالقة حتى اليوم، بينما وقعت سوريا مع الأردن أكثر من اتفاقية حدودية، كما كانت سوريا قد أثارت لسنوات قضية " لواء اسكندرون" الخاضع للسيطرة التركية، قبل أن يتراجع الاهتمام بالموضوع، دون الحديث عن الخلافات مع إسرائيل التي يطول شرحها. وبالنسبة للمشرق، فقد كان الانتداب الفرنسي قد قسّم منطقة سوريا الطبيعية إلى خمس دول بعد الحرب العالمية الأولى، هي دول لبنان وحلب ودمشق وجبل العلويين وجبل الدروز، وفي وقت لاحق عادت الدول الأربع الأخيرة للتوحد لتشكل سوريا، بينما ظل لبنان مستقلاً لتبرز مطالبات بضمة إلى دمشق من جديد. ورغم التبادل الدبلوماسي الأخير بين سوريا ولبنان، الذي يعد الأول بينهما منذ استقلالهما، إلا أن مطالب ترسيم الحدود ما تزال مطروحة، خاصة في منطقة مزارع شبعا التي تحتلها إسرائيل حالياً، وتقول تل أبيب إنها لن تنسحب منها لأنها جزء من سوريا، بينما يشير لبنان إلى تبعيتها له. أما الأردن فقد مرت قضاياه الحدودية بعدة تعقيدات نظراً لتأثيرات الملف الفلسطيني على الجانب الغربي، أما في الشرق فإن الحدود مع العراق لم تسلم هي الأخرى من الاتفاقيات التوضيحية. وبالوصول إلى شمال أفريقيا، يبرز الخلاف الذي لا يكاد يتراجع حتى يعاود الظهور حول مثلث منطقة "حلايب" بين مصر والسودان، إذ أن الحدود بينهما قائمة على خط العرض الوهمي رقم 22، ، وبالنسبة للسودان فإن خلافاته الحدودية تتصل بجميع جيرانه، لكن خطرها يتراجع إزاء احتمال الانفصال الكامل بين الشمال والجنوب. وفي الدول العربية بأفريقيا، يبرز النزاع بين السودان ومصر حول مثلث حلايب، والذي عاد للبروز الشهر المنصرم، وسط تأكيد كل بلد على تبعية المنطقة الغنية بالموارد الطبيعية له، وفي الغرب برزت بعض الخلافات حول واحات صحراوية مع ليبيا، لكن الأمر ظل في إطار نظري. وفي تونس، توصلت الحكومة مؤخراً إلى حل نزاع يتعلق بالحدود البحرية مع الجارة الكبرى الجزائر، بعد اتفاق مماثل على الحدود البرية، بانتظار حل مشكلات مماثلة عند الحدود مع ليبيا، علماً أن طرابلس كانت بدورها قد خاضت حرباً دامية في العقد الثامن من القرن الماضي مع جارتها تشاد على خلفية قضية شريط أوزو الحدودي. أما الوضع الأصعب فكان بين الجزائر والمغرب، بسبب النزاع حول منطقة تندوف وحاسي بيضة، وتطورت الأمور إلى حرب عام 1963 استمرت أربعة أشهر، وما زالت ذيولها حتى اليوم على العلاقات بين البلدين بسبب مساندة الجزائر لمنطقة الصحراء الغربية في مطالبها الانفصالية على المغرب، والحدود البرية المغلقة بين الطرفين. وفي الصومال الذي يعيش منذ عقود في دائرة الحرب الأهلية فإن لديه مطالب يقول إنها تاريخية في كينيا وأثيوبيا وجيبوتي. ويرى عادل الموساوي، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة محمد الخامس بالرباط، أن مشكلة الخلافات الحدودية بالعالم العربي "إرث ثقيل يرتبط بعوامل تاريخية كثيرة في صلبها تأثير الحملات الاستعمارية التي قسمت المنطقة إلى كيانات وخلقت بالتالي بؤرا دائمة للتوتر كان من نتائجها هذا الانكشاف المريع للأمن القومي العربي." واعتبر الموساوي، في تصريح لموقع " سي إن إن " بالعربية، أن الحدود العربية قنابل موقوتة مرشحة للانفجار في أي لحظة، وعندئذ تصبح الكلفة صعبة التحمل بالنسبة لمستقبل الأنظمة والشعوب معا، مستشهدا بحرب الخليج الثانية التي أفضت إلى تدخل القوى الكبرى وانهيار مجلس التعاون العربي وتقويض الأمن القومي. وعلى غرار الإشكاليات الحدودية في المشرق، لاحظ الباحث المغربي أن استمرار الخلاف على الحدود في منطقة المغرب العربي يشكل أكبر معطل لمسيرة الاتحاد المغاربي وللمشاريع التعاونية التي يتوقف عليها مصير شعوب المنطقة في زمن العولمة والتكتلات الإقليمية الكبرى. وعن تدبير هذه الخلافات، شدد عادل الموساوي على أنه "لا يمكن تصور قيام علاقات ثنائية سليمة في غياب التزامات سياسية قاطعة تتوجه نحو المستقبل على أساس احترام الحدود القائمة وتفعيل دور الاتحادات الإقليمية على صعيد عمل وقائي يوفر الآليات الفعالة للتسويات السياسية والقانونية لهذا النوع من المشاكل. ودعا الموساوي إلى استلهام تجربة الاتحاد الأوروبي في تحويل المسألة الحدودية من إكراه معوق للتعاون إلى فرص اندماجية مثمرة تخدم مصالح جميع الأطراف من خلال الرهان على تبادل المنافع الاقتصادية لتذويب الخلافات السياسية. وفي يشير البعض إلى عجز عربي عن حل الخلافات يقول إيهاب مكرم، رئيس قسم المعاهدات والاتفاقيات في الجامعة العربية، إن نزاعات الحدود تحكمها في الأساس الاتفاقيات الثنائية بين الدول المعنية، أما بالنسبة للجامعة العربية فهي تتدخل إن لحظت وجود الخلاف عبر آليات الوساطة والمساعي الحميدة والمفاوضات والأساليب الدبلوماسية. ورفض مكرم، في حديث ل" سي إن إن " بالعربية القول بأن الجامعة العربية تفتقد آليات حل النزاع، قائلاً إن ميثاق الجامعة يحدد آليات مماثلة، كما أن مجلس الجامعة يحق له التدخل في أي خلاف من هذا النوع عبر الوساطات، إلى جانب أن الجامعة العربية تطلب من الدول إيداع نسخة من الاتفاقيات الموقعة بينها لدى مكاتبها. ونفى مكرم وجود قضية حدودية ساخنة معروضة أمام الجامعة العربية حالياً، قائلاً: "ليس لدينا اليوم قضية مثارة بشكل كبير أو مثير للخطر." يذكر أن الغزو العراقي للكويت لم ينتهي إلا بتدخل دولي، أما في حالتي قطر والبحرين من جهة، واليمن وأريتريا من جهة أخرى، فقد حُسم الخلاف بالقانون الدولي، وبالنسبة للحرب المغربية الجزائرية، فلم تنته إلا بتدخل أفريقي.