المبعوث الأممي "دي ميستورا" في الرباط.. أفق تقرير جديد وعودة مرفوضة من المغرب للطرح القديم حول الصحراء المغربية    استشهاد صحافي متعاون مع الجزيرة في غارة إسرائيلية بغزة    تبون يغير موقفه ويمد غصن الزيتون لفرنسا بعد الاعتراف بمغربية الصحراء    مراكش تحتضن كأس العالم لسلاح سيف المبارزة ما بين 27 و30 مارس    بعد تولي توخيل.. المنتخب الإنجليزي يواصل انطلاقته القوية في تصفيات المونديال    المعهد الملكي للشرطة ينظم مسابقة في تجويد القرآن الكريم لفائدة موظفات وموظفي الشرطة العاملين والمتدربين    طنجة.. المصادقة على هدم "البلاصة الجديدة" وتعويضها بمركب تجاري ومرائب وعلى توسعة طرق رئيسية استعدادا للمونديال    قائمة منتخب أقل من 17 سنة ل"الكان"    مجاهد يلجأ للقضاء ضد الريسوني    10 سنوات سجنا نافذا لتاجر مخدرات    سباحة الإنسانية في مياه التراث    عمرو خالد يحث المسلمين على عدم فقدان الأمل في وعد الفتح الرباني    المنصوري تترأس مجلس رقابة العمران    المصاب بالسكري الذي يعالج بحقن الأنسولين مباح له الإفطار.. !    السعودية تحين الشروط الصحية لموسم الحج 2025    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات (المغرب 2025) : إجراء المنافسات خلال الفترة من 22 إلى 30 أبريل بمجمع الأمير مولاي عبد الله بالرباط    محاميد الغزلان تحتضن المهرجان الدولي للرحل    الوزارة تؤكد التزاما بالقضاء على داء السل    سيدة تصفع قائد.. والنيابة العامة تتحرك وتحدد موعد المحاكمة    وزارة الأوقاف تستفسر إماما ظهر في فيديو "يمنع" النساء من أداء صلاة التراويح بمسجده    الملك يعين مسؤولين على رأس ثلاث مؤسسات دستورية هامة    الإعلان عن تسجيل 4 سدود بجهة الشمال معدل ملء يصل إلى 100 في المائة    طنجة تحتضن لقاءً حول "تدبير الموارد البشرية وتحديات المقاولة الصغرى" ضمن دائرة نقاش رمضانية    تعيين ملكي يضع قياديا سابقا في حزب العدالة والتنمية رئيسا للمجلس الاقتصادي    جلالة الملك يعيِّن محمد بنعليلو رئيسا للهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها    السعودية تُحدّث الاشتراطات الصحية لموسم حج 2025 لضمان سلامة الحجاج    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    منظمة الصحة العالمية تحذر من تنامي معدلات السل لدى الأطفال في أوروبا    انعقاد مجلس الحكومة يوم الجمعة المقبل    المغاربة يتضامنون مع غزة، وحصيلة ضحايا العدوان الجديد تصل إلى 730 فلسطينيا    رونالدو وتحطيم الأرقام.. هل يحقق الألفية التهديفية؟    بدر سلطان يلتقي جمهوره في بروكسيل    لاعبون مرموقون ينتمون لأزيد من 25 بلدا يتنافسون على جائزة الحسن الثاني للتنس    بورصة البيضاء تغلق بتعزيز الأرباح    المعارضة تشكو الحكومة ل "الهاكا" وتتهمها بخرق قواعد الاتصال السمعي البصري    العثور على جثة ستيني يستنفر شرطة شفشاون    اليوم الدولي للحقيقة يسلط الضوء على انتهاكات البوليساريو والدسائس الجزائرية    ذعر في بريطانيا بعد تعرض المارة للطعن    لاعب التنس كريم بناني يظفر بتتويج    جدل "إهانة طبال" .. هذه كواليس حفل سلمى الشنواني في فاس    سعد موفق ل" رسالة 24 ": على الممثل أن يختار أدواره بعناية لتجنب النمطية    تفاصيل صفع سيدة ل"قائد" بمدينة تمارة    مسلسل "الدم المشروك"… يثير الجدل بسبب بطء أحداثه    أمطار وثلوج ورياح قوية مرتقبة اليوم الإثنين بعدد من مناطق المملكة    محادثات أمريكية روسية في الرياض اليوم لبحث هدنة بحرية    الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يعزز التحول الرقمي لتسهيل خدمات المؤمن لهم    مهرجان باريس للكتاب.. تفاصيل البرنامج الخاص بالمغرب    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الاثنين    مهنيون يعددون أسباب ارتفاع سعر البصل في أسواق الجملة بالمغرب    لاعب الغولف تايغر وودز يكشف عن علاقته العاطفية مع طليقة دونالد ترامب الابن    الرئيس ترامب يعلن تأييده للمرشح الجمهوري لمنصب شاغر في المحكمة العليا لولاية ويسكونسن    دوري الأمم الأوروبية: المنتخب الفرنسي يتأهل لنصف النهاية على حساب نظيره الكرواتي (ض.ت 5-4)    إتلاف أكثر من 500 كيلوغرام في تطوان من المواد غير الصالحة للاستهلاك منذ بداية رمضان    بودشيش يدعو إلى تأطير المحتوى الرقمي    السل في المغرب.. 50% من الحالات رئوية و85% نسبة الكشف المبكر    المجلس العلمي يحدد قيمة زكاة الفطر بالمغرب    المجلس العلمي المحلي للجديدة ينظم حفلا قرآنيا لتكريم الفائزين بالمسابقة القرآنية المحلية    المجلس العلمي الأعلى يحدد مقدار زكاة الفطر لهذه السنة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حركة الإصلاح في أوروبا بين الديني والسياسي
نشر في مرايا برس يوم 10 - 11 - 2010

توضّحت معالم حركة الإصلاح الديني التي انطلقت من أوروبا، واشتد عودها في القرن السادس عشر الميلادي، في عصر النهضة فتجلّى العالم المسيحي بعد بروز الحركة بثوب الانقسام الديني، تمثل الانقسام بالبروتستانت كمذهب إصلاحي جديد ببزوغ فروع عديدة له في أنحاء أوروبا، في مواجهة المذهب الكاثوليكي التقليدي السائد عموما في روما بإيطاليا حيث مقرّ البابوية، فجاءت حركة الإصلاح الديني بمثابة تمرّد على البابوية ورجال الدين في روما، حيث كانت إيطاليا لوجود البابوية في روما قبلة المسيحيين، لكن الانقسام شمل رجال الكنيسة أنفسهم في روما، فظهرت بابويات ادعت المرجعية خارج روما بل وحتى خارج إيطاليا، ومن ثمّ الطعن في المرجعيات الأخرى، مما أفقد البابوية هيبتها وقدسيتها، فضلا عن تهافت كبار رجال الدين على الاغتناء، والانهماك في الترف والمجون والفسق بعيدا عن روح التقشف والتضحية والروح المثالية التي عرف بها رجال الدين، وشاعت عن رجال الكنيسة سبل الغدر والخيانة، وعمليات التآمر والاغتيال بدس السم وسواه، كل هذا حدا بعض المصلحين للتنادي بإصلاح الكنيسة، وجاء القدح والذم بالقائمين عليها، ورأوا أن بعض طقوسها بدعة لا يمت إلى الدين الذي بشّر به السيد المسيح عليه السلام بشيء..
علينا ألا نغفل أنه بالتزامن مع معالم النهضة في أوروبا كانت ثمة عوامل مساعدة ومشجعة لحركة الإصلاح الديني، حالات تمثلت بظهور الحركة الفكرية، الإقبال على دراسة التراث اليوناني واللاتيني، تشجيع العلوم، إنشاء المكتبات، حلول لغات الشعوب القومية (الألمانية.. الفرنسية.. الإنجليزية ....إلخ) محل اللاتينية، فصار بمقدور هذه الشعوب القراءة والكتابة بلغاتها، اختراع الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، التي عدّها مارتن لوثر من أعظم فضائل الرب على عباده، ثم كان اختراع الورق وهكذا، فاختراع المطبعة والبوصلة والبارود جاء في فترات زمنية متقاربة، حتى أن أحد المفكرين قال بأن المطبعة والبارود والبوصلة غيرت وجه العالم، بل قل خارطة العالم...
بمجرد الكلام عن حركة الإصلاح الديني لا بد أن يقفز إلى ذاكرتنا شخصية الراهب مارتن لوثر (1483- 1546) كمصلح ديني ذائع الصيت، اقترن اسمه بحركة الإصلاح فهو مؤسس المذهب البروتستانتي، ومارتن لوثر وسواه من المصلحين دعوا رجال الدين إلى الخلق القويم، وانتقدوا رجال الكنيسة لانصرافهم لجمع الثروة وإلى الحياة اللاهية الماجنة، وهاجموا حياة الرهبنة باعتبارها حياة ذل واستكانة، وتساءل مارتن لوثر عمّا يمنع هؤلاء من الزواج، ومارتن لوثر نفسه وكسرا للقاعدة السارية كونه راهبا بادر إلى الزواج من راهبة تدعى كاترين بورا..
في إحدى زياراته الرسمية إلى روما، هاله ما رأى من انهيار للقيم الأخلاقية لدى رجال الدين الذين يحوطون بالبابوية لهذا راح يقول : (إن كل من يذهب إلى روما يشعر أن عقيدته الدينية تترنح تحت الضربات التي تصيبه جراء ما يرى هناك...) وهو القائل (كلما اقتربت من روما شاهدت أسوا المسيحيين)، لكن المفاجأة التي صدمته في الصميم هي قيام أحد الكهنة بتوجيه من الكنيسة ببيع (صكوك الغفران) فاحتج لوثر على ذلك غاضبا، ودعا علماء الدين لمناقشته في هذه المسألة، وبأن هذا يتنافى مع حقيقة المسيحية، وبأن لا أحد حتى البابا نفسه لا يستطيع غفران الذنوب، والله وحده قادر على غفران ذنوب البشر، وأن صكوك الغفران بدعة، بل حتى البابوية نفسها اعتبرها مارتن لوثر بدعة ..
جرت محاولات للمس بحياة مارتن لوثر، لكن جاءت حمايته من قبل بعض المستنيرين في سلطة الدولة، لأنه هو الذي دعا رجال الدين إلى الخضوع للسلطة المدنية، كما دعا إلى الحد من الأديرة، وقام بنفي دعوى احتكار تفسير الإنجيل، وحصرها برجال الكنيسة، وعلى إثر اختراع الطباعة تمت طباعة الإنجيل بأعداد كبيرة، ليصبح في متناول من يريد الإطلاع عليه، وحتى لا يبقى حكرا على حفنة من رجال الدين في التفسير والتأويل حسب أهوائهم، كما نهض مارتن لوثر بعمل جليل، إذ قام بطباعة الإنجيل إلى اللغات القومية، كما قام هو نفسه بترجمة الإنجيل إلى اللغة الألمانية لما اتسم من مواهب أدبية، حتى يكون الإنجيل، في متناول الجميع، ومن يريد قراءته بلغة الأم، ولولا هذه الطباعة للإنجيل وباللغات القومية كما يرى بعضهم لما تحقق برأي الكثيرين (تحرر الفرد المسيحي من سلطة رجال الدين القائمة على احتكار المعرفة الدينية وغيرها)..
كما كان هذا من أهم الأسباب التي ساهم في سقوط سلطة الكنيسة مع توءمها سلطة الإقطاع، ليتوّج أخيرا بفصل الدين عن الدولة، كما نبذ مارتن لوثر إحراق (المارقين) بفتاوى رجال الدين، وبأن المسيحية لا تبيح كهذه العقوبة، فقد استنكر حرق المصلح الدوميناكاني عندما تصادم مع البابا اسكندر السادس، هذا المصلح الذي تصدّى لسلوك رجال الدين في الفساد والرذيلة، وقد ساعد مارتن لوثر في انتشار حركته الإصلاحية بعض الفلاسفة الألمان الذين شايعوه أفكاره، ونستطيع القول أن الحركة تجاوزت ميدانها الديني حيث غدت حركة سياسية استغلها الألمان ضد سلطة الكنيسة، وكل هذا تطور فيما بعد طوال القرنين السادس عشر والسابع عشر إلى ثورة دينية داخل العالم المسيحي، بين المذهب الكاثوليكي المتزمت، والبروتستانت بفروعه التي تعود إلى مارتن لوثر كمؤسس لهذا المذهب، والداعي إلى إصلاح أمور الدين...
دون شك، إن حركة الإصلاح الديني كانت حركة جريئة، وربما متقدمة في تاريخيتها إذا نظرنا إليها بنظرة اليوم وقارناها بالحركات الإسلامية المختلفة في الإصلاح أو في المحافظة والأصولية في الظرف الراهن، لقد كانت اللوثرية ثورة على أصول الفكر الديني السائدة في الكنيسة بالتواطؤ ربما مع سلطة الإقطاع في تلك الحقبة البعيدة عنا نسبيا، وذلك جراء تلاقي مصالح الطرفين الكنيسة وسلطة الإقطاع المتمثلة وقتها في بعض البلدان بحكم الأباطرة.
قلنا عن حركة الإصلاح أنها حركة جريئة، وقد قيض لها أيضا قائد جريء هو مارتن لوثر (الذي حمل لواءها قرابة ثلاثين عاما) بوقوفه في وجه البابوية أكبر قوة دينية متحالفة مع الإقطاع حينذاك، حتى أن بعضهم اتهمه بالتهور ومازال إلى اليوم ينظر إليه بنظرة توقير وإعجاب رغم التباين في التقييم النهائي له ..
رغم أن حركته (اللوثرية) نشأت من منطلق ديني، إلا أنها توافقت زمنيا مع الحركات السياسية في ظل الوعي القومي المشرئب لتأسيس كيانات ذات طابع قومي في بدايات عصر النهضة، فجاءت موالاة الحركات السياسية القومية لحركة الإصلاح الديني، وبالمقابل فقد ظلّت كثير من الأرستقراطية الإقطاعية في شك من هذه الحركة المتمثلة بفروع البروتستانت المنتشرة في مختلف أنحاء أوروبا، فمالوا بهذا إلى المذهب الكاثوليكي المحافظ، ويعد هذا الحلف غير المقدس حلفا لتلاقي المصالح، ولم يهدأ القتال بين أنصار المذهبين امتد لقرنين رغم سعي جهات عديدة لإصلاح ذات البين لكن دون توصل لوفاق تكتب له الديمومة، كما جرت ملاحقة فروع مذهب البروتستانت في أوروبا من قبل محاكم التفتيش، ولقي أنصار المذهب الويلات ومختلف أنواع التنكيل على أيدي زبانية تلك المحاكم الجائرة...
على العموم ترتب عن حركة الإصلاح الديني، أن التهب الصراع الديني المذهبي في إسبانيا وإنجلترا وفرنسا.. دون أن يذهل عن بالنا، أن حركة الإصلاح الديني ترافقت مع الدعوات السياسية التي دعت إلى مختلف الإصلاحات السياسية وقد تكللت جهودها لاحقا في الوحدة الإيطالية والاتحاد الألماني..
إن الحركتين إن أردنا الدقة، كان رائدهما الإصلاح، فهذا ينادي بالإصلاح الديني، وذاك يطالب بالإصلاح السياسي، ويبدو لي أن كلا الإصلاحين السياسي والديني متلازمان دوما، فالإصلاح السياسي لن يقبل حتما لا بالطغيان السياسي ولا بالطغيان الديني، وسيأتي الرفض حتما للحكم باسم الدين، ونقد ممارسات رجال الدين، أو أي ادعاء من أية سلطة بأنها تحكم بالتفويض من الله، مع النزوع الأكيد إلى الليبرالية من جانب حيث سرت العبارة الشهيرة التي تقول (كلّ حر في دينه) وأيضا التطلع إلى العلمانية الداعية إلى فصل الدين عن الدولة أو عن السياسة، أما فصل الدين عن المجتمع وعن الحياة فقد روج لها الخطاب الديني لدى الإسلام السياسي اليوم، فهي بغية محاربته للعلمانية التي روجت لهذا، لا بغاية تشخيص الواقع، ثم كان لقاء المصالح في الإصلاح الديني والسياسي، في وجه رموز الإبقاء على السكون السائد والخنوع المتوارث للقائمين على أمور الدين، وقت هبوب رياح عصر النهضة حيث تفتحت الأبصار والبصيرة على كل جديد، وتفهمه الناس وربما تقبلوه، وبالتالي جاء نبذ كل قديم ولّى أوانه..
إن الجمود هو جوهر كل دين بتعبير بلانكي، وبالمقابل فبقدر ما يتقدم الفكر وتنتشر العلوم تتقهقر سطوة الدين، لا سيما تلك الأضغاث وجانب الغيبيات في الدين، وتتبدد تلك التخيلات الموروثة من الماضي البعيد شيئا فشيئا..
أخيرا تكلل نضال حركة الإصلاح الديني، بجانب تقدم حركة الفكر والسياسة عموما إلى فصل الدين عن ميدان الدولة والسياسة بالضد من رغبة رجال الكنيسة، وحليفه الإقطاع الذين خسروا معركة التاريخ جراء صيرورته، فقد تمت إزاحة طبقة ولّى عهدها لتحلّ طبقة أخرى مكانها، كانت هذه الطبقة الجديدة هي الطبقة البرجوازية البازغة حديثا والتي سيكون لها شأن كبير في مسار التاريخ والتحولات الاجتماعية الكبرى، وأيضا الاقتصادية والسياسية، حيث من آثارها سنرى الثورة الصناعية، كل هذا بوتيرة قوية لاسيما ابتداء من النصف الثاني من القرن الثامن عشر إلى تاريخنا الراهن اليوم...
المقال منشور بالتعاون مع مشروع منبر الحرية
www.minbaralhurriyya.org http://www.minbaralhurriyya.org
*كاتب سوري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.